التعذيب والقتل في أقبية المخابرات الإيرانية
من المشهد الأول للفيلم، يدرك المرء أنه يدور حول جرائم قتل، إذ يُظهر رجلاً نحيلاً وملتحياً ويداه ملطختان بالدماء يهرع إلى سيارة ينتظر فيها رجل تبدو عليه ملامح البدانة ويرتدي معطفاً جلدياً. المنظر لا يبشر بخير، ما بين الوحدة الموحشة والجدار الآيل للسقوط في الخلفية، بينما يفرّ الرجلان بالسيارة بعيداً عن المكان.
كل شيء يبدو محيراً في البداية، فالمشاهد لا يعرف الدافع ولا من يقف وراء ما قام به هذان الرجلان ولا حتى ضحيتهما. لكن الأمور تبدأ بالاتضاح تدريجياً في الفيلم الجديد للمخرج الإيراني محمد رسولوف، الذي عُرض لأول مرة خلال مهرجان كان السينمائي، الذي انطلقت فعالياته في الرابع والعشرين من مايو/ أيار 2013.
قد يظنّ البعض أن الرجلين عضوان في المافيا، وأنهما كانا ينفذان أوامر زعيم العصابة. لكنهما في الحقيقة عميلان في جهاز المخابرات الإيرانية يتبعان أحد الأعداء اللدودين، وهو مؤلف ومثقف متهم بخيانة البلاد والارتباط بأعداء خارجيين. وعلى الهامش، يدرك المشاهد أن هناك "فتوى" تبيح ما قام به العميلان. فهما، من وجهة نظرهما، لم يرتكبا جريمة قتل، بل نفذا حكم إعدام قانوني.
مرآة للماضي
فيلم "مخطوطات لا تحترق" يعالج سلسلة تاريخية من الأحداث هزت إيران في نهاية تسعينيات القرن الماضي، إلا أنها باتت منسية الآن. فإبان الصراع مع رابطة المؤلفين، التي بقيت المؤسسة الوحيدة التي أصرت على الحفاظ على استقلاليتها السياسية في خضم النظام الشمولي وطالبت بحرية كاملة للرأي، قام جهاز المخابرات باستخدام أساليب أكثر وحشية ضد الرابطة.
فقد قام الجهاز باعتقال بعض المؤلفين، مثل هوشانغ غولشيري، بينما قتل آخرين، مثل الشاعر محمد مختاري والكاتب محمد جعفر بويانده. أما الزوجان بروانه وداريوش فوروهار، الناشطان السياسيان اللذان كانت تربطهما علاقات بالمشهد الثقافي وكانا يعتنقان الفكر السياسي لرئيس الوزراء الديمقراطي السابق مصدق، فقد أعدما في شقتهما طعناً بالسكاكين ضمن سلسلة جرائم وقعت في نوفمبر سنة 1998.
لم يصور رسولوف أياً من تلك الشخصيات التاريخية بالضبط في فيلمه، إلا أن الفيلم مليء بالتلميحات إلى ما حدث على أرض الواقع. وفي صلب قصة الفيلم ذكرى الاعتداء على حافلة كانت تقل 21 مؤلفاً إيرانياً إلى مؤتمر في أرمينيا. فأثناء عبور الحافلة لأحد الجبال، حاول السائق قيادتها إلى الهاوية والقفز في اللحظة الأخيرة. لكن هذا الاعتداء فشل بسبب اصطدام الحافلة بصخرة حالت دون سقوطها. وتبين أن السائق يعمل في جهاز المخابرات الإيرانية.
هذا المشهد لا يظهر في الفيلم، بل من خلال ذكريات إحدى الشخصيات. الذكريات تمثل الفراغ الذي يستمد منه الفيلم كل أحداثه. فالكاتب "كسرى" كان قد عايش هذا الهجوم وكتب شهادة عيان حوله. ولأنه يدرك أن المخابرات قد تجد هذه المخطوطة لديه وتدمرها، فقد قام بعمل نسخ منها وإخفائها عند أصدقاء له.
هدف لعملاء المخابرات
عميل المخابرات "خوسرو" كان سائق الحافلة الذي حاول إيقاعها في الهاوية، وقد تلقى الأوامر بالبحث مع رئيسه المباشر عن كل من يمتلك نسخة من هذه المخطوطة والقضاء عليه، وذلك بهدف منع نشرها وطمس أية ذكرى للاعتداء الفاشل على الحافلة.
ويقول الناقد الأدبي فرج سركوهي، وهو من بين أول من شاهدوا النسخة النهائية للفيلم: "لم يجرؤ أي مخرج على تناول سلسلة جرائم القتل التي قامت بها المخابرات في فيلم سينمائي. لأول مرة في تاريخ السينما الإيرانية يفضح فيلم جهاز المخابرات الإيرانية"، ويعتبر أن "من وجهة نظر النظام، فإن ذلك أسوأ من سبّ مرشد الثورة".
لقد كان سركوهي في الحافلة التي حاولت المخابرات إسقاطها في الهاوية، وكتب تقريراً حول ما حصل آنذاك. ولم ينجُ سركوهي من حادثة الحافلة فحسب، بل ومن الاعتقال على أيدي المخابرات وما يصاحب ذلك من تعذيب وحشي في أقبيتها، بعد أن تدخلت منظمات حقوق الإنسان وحكومات أوروبية للإفراج عنه. ويعيش فرج سركوهي حالياً في مدينة فرانكفورت الألمانية، ويعتبر أن فيلم رسولوف يشيّد له ولضحايا جرائم القتل نصباً تذكارياً.
لا يمكن اعتبار هذا الفيلم وثائقياً افتراضياً، لأنه يجزّئ الواقع ويخلقه من جديد، كما هو مطلوب من أي فن خلاق. خلال الفيلم تتماهى الحقب التاريخية، فتارة يشعر المشاهد بأنه يتابع أحداثاً وقعت قبل 15 عاماً، وتارة أخرى يظن بأنه يعايش الواقع الراهن، ذلك أن شخوص الفيلم لم تعايش حادثة الحافلة قبل 15 عاماً، وإنما "تتذكرها" فقط.
حتى النقاش داخل أوساط المثقفين حول مغزى المقاومة والنقد الجوهري للنظام في عصر "تويتر" و"جيل الشبكات الاجتماعية" يعطي انطباعاً بأن الفيلم يدور في الزمن المعاصر.
تحليل للعلاقة بين الضحية والجلاد
قوة الفيلم تكمن في أنه يحلل الطابع السيكولوجي للعلاقة بين الضحية والجلاد، وساعد المخرجَ على ذلك تعرضه في السنوات الماضية لإجراءات النظام القمعية.
فقد شهد رسولوف كيف اقتحم عناصر المخابرات موقع تصوير أحد أفلامه سنة 2009 وفتشوا مكتبه في طهران. وفي بداية سنة 2010 أودع رسولوف قسم السجناء السياسيين بسجن إيفين لعدة أسابيع. ويقول المخرج حول ذلك: "هذه التجارب أثرت عليّ بشكل كبير".
يصور الفيلم عميل المخابرات "خوسرو" كرجل ينحدر من أسرة متواضعة ومعدمة، تحاول تحمل تكاليف علاج طفلها المريض. لذلك يكسب "خوسرو" بعض المال من خلال تنفيذ أوامر المخابرات، وإذا ما ساورته أية شكوك حول قانونية ما يقوم به، فإن رئيسه المباشر "مرتضى" يطمئنه مرة تلو الأخرى.
ويبقى القاتلان، برغم ما يسببانه من أسى لضحاياهما، مقتنعيْن بأنهما يقفان على الجانب الصحيح من القصة، على عكس الفيلم الألماني "حياة الآخرين"، الذي يشكك فيه عميل جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقاً (شتازي) بما يقوم به ويتعاطف مع الفنانين المكلف بالتجسس عليهم، وفي نهاية الأمر يقوم بتخريب أوامر رئيسه المباشر.
يُظهر فيلم محمد رسولوف مدى القسوة والغدر لدى جهاز المخابرات في النظام الدكتاتوري وكيف يستنزف ثقة المثقفين الناقدين للنظام بأنفسهم وببعضهم البعض، إذ يظن الكاتب في نهاية الفيلم بأن صديقه لسنوات طويلة يعمل جاسوساً لصالح المخابرات.
ويوضح فرج سركوهي أن "شخصيتيْ عميليْ المخابرات متقنتان للغاية ... عندما شاهدتُ المشهد الذي يضم كلا القاتلين، عادت إليّ كل ذكرياتي ورأيت كل من عذبوني آنذاك أمام عينيّ".
سينما الآخرين
لقد تمكن مخرج الفيلم من إحداث انقلاب، فعلى عكس شخصيات فيلمه، نجح رسولوف في الإبقاء على الفيلم بعيداً عن أعين النظام في إيران ونقله خارج البلاد. وفي مهرجان كان السينمائي، تم عرض الفيلم أمام جمهور دولي، والمخابرات الإيرانية أيضاً ستوجه انتباهها إلى المهرجان.
إلا أن رسولوف يقف في ظل زميله المعروف والحائز على جائزة الأوسكار، المخرج الإيراني أصغر فرهادي، الذي كان فيلمه الجديد "Le Passé" (الماضي) من الأفلام المرشحة للفوز بجائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان. ومن خلال تركيزه على الأعمال الدرامية العائلية، حقق فرهادي نجاحات في الغرب وفي داخل إيران أيضاً، إذ أعلنت وزارة الثقافة الإيرانية السماح بعرض فيلم (الماضي) في البلاد.
أما بالنسبة لمحمد رسولوف، فهو يعتبر ذلك سينما للآخرين، مضيفاً أن "فيلمي لن يُسمح بعرضه في إيران بكل تأكيد". وهذه هي جائزة الأعمال السينمائية السياسية.
شتيفان بوخن
ترجمة: ياسر أبو معيلق
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013
يعمل شتيفان بوخن مراسلاً للمجلة السياسية التلفزيونية "بانوراما" في القناة الألمانية الأولى، وهو كاتب الفيلم الوثائقي "كذب حكومي – المخابرات الألمانية وحرب العراق".