"لم نتوقع نجاة هذا العدد القليل"

رجل يرتدي الزي العسكري يقف بين مقبرة للمسلمين.
لا يزال عدد لا يُحصى من السوريين يأملون في فرصة لدفن أقاربهم المفقودين. هنا، مقبرة في حلب، ديسمبر/كانون الأول 2024. (Photo: Picture Alliance / Middle East Images | B. Alhammoud)

يرى العديد من السوريين أنّ البحث عن المفقودين أمرُ بالغ الأهمية لإعادة بناء بلدهم، غير أن مازن البلخي، من اللجنة الدولية المعنية بالأشخاص المفقودين، يقول إن نطاق عمليات القتل وطبيعتها التعسفية في عهد الأسد تُشكّلان تحديًا كبيرًا. 

الكاتب، الكاتبة : هنا الهيتمي

يقدر عدد السوريين المفقودين ما بين 130 ألف و200 ألف شخص، فما الذي حدث لهم؟ 

معظم السورين المفقودين اختفوا مع بداية الثورة السورية، وقد ألقت جهات مختلفة، وفي مقدمتها النظام السوري، القبض على المتظاهرين في الشوارع بشكل ممنهج، واعتقالهم في مراكز الاحتجاز، بعد ذلك أَعدموا الكثير منهم، ودفنوا جثثهم في مقابر جماعية. واختطف تنظيم داعش آخرين، أو اختفوا خلال العمليات التي شاركت فيها قوات سوريا الديمقراطية، أو اعتقلتهم فصائل مثل الجيش السوري الحر والجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام.

Portrait Mazin al-Balkhi
مدير برنامج باللجنة الدولية المعنية بالأشخاص المفقودين.

مازن البلخي هو مدير برنامج سوريا/الشرق الأوسط في اللجنة الدولية المعنية بالأشخاص المفقودين. سبق له أن عمل في مصر والأردن وتركيا والسويد في مجال العدالة الدولية والتنمية. بدأ حياته المهنية كمنسق عام للهيئة القانونية في الائتلاف الوطني السوري. 

ارتكبت جميع الفصائل العسكرية انتهاكات، إلا أنّ الغالبية العظمى من حالات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي تُنسب إلى النظام السوري، وهو المسؤول عن معظم المفقودين في سوريا، وهو أمرٌ وثّقته تقارير حقوقية متعددة. 

إلى جانب ذلك، فُقد بعض الأفراد خلال كوارث طبيعية، كالزلزال، أو أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا بحثًا عن اللجوء، كما ارتبطت حالات أخرى بشبكات إجرامية تعمل تحت قيادة ماهر الأسد، شقيق بشار الأسد. 

عندما فُتحت السجون بعد سقوط نظام الأسد، لم يُفرج إلا عن بضعة آلاف من السجناء؛ هل كنتم تتوقعون المزيد؟ 

كنّا على علم بمجازر المعتقلين، استنادًا إلى ملفات قيصر (حوالي 28 ألف صورة تُظهر تعذيب وقتل السجناء في ظل نظام الأسد)، ومن معلومات أدلى بها مسؤولون منشقون، لكننا لم نتوقع نجاة هذا العدد القليل منهم. 

في درعا، حيث ترعرعت، كانت هناك تسوية في عام 2018 بين النظام وروسيا من جهة، والثوار من جهة أخرى. وخلال المفاوضات، أبلغ الثوار النظام أنهم سيعطونه دبابات وصواريخ مقابل إطلاق سراح جميع المعتقلين من أبناء جنوب درعا. ردًا على ذلك، طلب ممثلو النظام منهم أن ينسوا أيّ أشخاص تم اعتقالهم قبل ديسمبر/كانون الأول 2014، فقد قُتلوا جميعًا. 

هل تعتقد أنّ ذلك حدث في مدن سورية أخرى؟ 

أقول نعم. عندما فُتح سجن صيدنايا وأُطلق سراح المعتقلين، لم نسمع تقريبًا عن إطلاق سراح أي معتقلين اعتُقلوا قبل عام 2014- في الواقع كان عددهم قليلًا جدًا؛ كانت هذه منهجية النظام في البداية.  

بمرور الوقت، أعتقد أن ضغط المجتمع الدولي أجبّر النظام السوري على وقف عمليات القتل الممنهجة. استمروا في قتل الناس، ولكن ليس الكل. 

كيف عملت والآخرون لمعرفة كواليس ما حدث؟ كيف يُمكن الاستفادة من نتائجكم الآن؟ 

مهمتنا هي تحديد أماكن المفقودين وهوياتهم. نجمع البيانات من عائلات المفقودين، وبالتعاون مع أقاربهم، ينشر فريقنا نموذجًا من 14 صفحة يُقدم تفاصيل عن مكان رؤية الشخص المفقود آخر مرة، وماذا كان يرتديه، ولون عينيه، وعدد أسنانه المفقودة، وملامح الوجه، وما إلى ذلك. 

تساعد هذه المعلومات في تحديد هوية المفقودين قبل استخدام تحليل الحمض النووي. كما بدأنا بجمع عينات جينية من عائلات المفقودين في الشتات. في العام الماضي، جمعنا عينات في ألمانيا، وهولندا، والنمسا، ولوكسمبورغ. 

كيف يساعد الضحايا وأسرهم في تلك العملية؟ 

يجب أن يكون أهالي المفقودين في مقدمة أي عمل نقوم به، نحتاج أن نستمع إليهم، ونعمل معهم لتطوير الاستراتيجيات. فدورنا هو إيصال أصواتهم، وتشجيعهم على التحدث عن أنفسهم، ويجب أن نناقش التعويضات.  

لدينا في اللجنة الدولية المعنية بالأشخاص المفقودين مجموعة عمل تسمى مجموعة تنسيق السياسات، إذ اجتمع خبراء سوريون ومحامون ومدافعون عن حقوق الإنسان وأطباء وأفراد من عائلات الأشخاص المفقودين لعدة سنوات؛ للعمل على تطوير أوراق لمستقبل سوريا. 

وأصدرت هذه المجموعة أوراقًا مهمة للغاية، بما في ذلك إطار أخلاقي لجمع البيانات، وورقة حول كيفية حماية المقابر الجماعية، وأخرى حول التوقعات بشأن قانون عن الأشخاص المفقودين. وهذا نهج يركز على الضحايا حيث تشارك الأسر في تطوير الاستراتيجية. 

فإذا لم يتوفر العدل للضحايا وذويهم، سيفقد الناس شعورهم بالأمان ولن يكون هناك سلام مستدام. 

ما التحديات التي تواجه عملية البحث عن المفقودين في سوريا؟ 

أولًا، يُعدّ العدد الهائل للمفقودين أحد أكبر التحديات التي تواجهها سوريا، ومن بين الحالات العديدة، قد تكون عملية تحديد هوية المعتقلين الذين تم إعدامهم بشكل منهجي ودفنهم في مقابر جماعية هي الأسهل من حيث إمكانية المعالجة.

من الصعب تحديد أعداد المدنيين الذين قُتلوا بشكل تعسفيّ، إذ مرّ الكثير منهم عبر نقاط التفتيش عندما أُطلق عليهم النار من عناصر الأمن بشكل مستقل. ورغم أن قوات نقاط التفتيش هذه عملت بتوجيهات من النظام وبموافقته، إلا أنها لم توثّق هوية الأفراد الذين قتلتهم، فقد جرى إعدامهم فورًا وإخفاء جثثهم. 

إذن، مهمتكم ليست فقط تحديد هوية الضحايا، بل كشف المزيد منهم؟ 

في العام الماضي، أبلغتني الخوذ البيضاء (قوة الدفاع المدني التطوعية السورية) باكتشاف عدة آبار مليئة بالجثث. إضافةً إلى ذلك، وقعت مجازر واسعة النطاق، مثل مجزرة التضامن، ولا يزال العدد الحقيقي للمقابر الجماعية في جميع أنحاء سوريا مجهولًا، ولكن قد يكون هناك الآلاف. 

على مدار السنوات السبع الماضية، أبلغنا سوريون عن 72 مقبرة جماعية من خلال مُحدِّد مواقع على موقعنا الإلكتروني. في الشهر الماضي فقط، تلقيتُ شخصيًا أربع مكالمات من سوريين كانوا في السابق خائفين جدًا من الحديث، لكنهم الآن على استعداد لتقديم معلومات عن مواقع المقابر الجماعية. 

A drone image of a mass grave in a grey-brown landscape.
جرى اكتشاف العديد من المقابر الجماعية منذ سقوط الأسد. (Photo: Picture Alliance / Middle East Images | B. Alhammoud)

هل الحكومة المؤقتة قادرة على مواجهة هذا التحدي؟ 

خبرتها في إدارة هذه القضايا محدودة. ولدعم جهود بناء القدرات، وجهنا مؤخرًا دعوة لبعض مسؤوليها لزيارة البوسنة والهرسك والاستفادة من التجارب السابقة في تحقيقات الطب الشرعي واستخراج الجثث من المقابر الجماعية. إضافةً إلى ذلك، توجد ثمة ثغرات كبيرة في البنية التحتية للطب الشرعي، بما في ذلك نقص المختبرات المتخصصة ومحدودية الموارد المالية. من الضروري أن يقدم المجتمع الدولي الدعم الفني والقانوني للحكومة الجديدة، مع احترام السيادة الوطنية، وضمان تقديم أي مساعدة بناءً على طلب الحكومة وبالتنسيق مع أولوياتها المحددة. 

كناشط سوري، ما هي آمالك للأشهر والسنوات القادمة؟ 

قبل رحيله، طلب الروائي السوري الشهير سعد الله ونوس أن يُكتب على شاهد قبره: "نحن نملك الأمل". هذا الشعور يُلامس وجداني. الأمل يدفعنا قُدمًا في سعينا لتحقيق العدالة. طموحاتي عالية: آمل في المساءلة والعدالة وتعويض عائلات الضحايا. 

مع إدراكي أنّ أيّ إجراء من إجراءات العدالة لا يُمكن أن يُعيد المفقودين إلى أحبائهم، فإن ضمان الحقيقة والمساءلة هو أقل ما يُمكننا فعله لدعمهم. 

قنطرة ©