سقوط أنظمة الاستبداد لا يكفي لمواجهة الإجحاف في حق المرأة
بدأت رحلة سماهر القاضي الشخصية في عام 2003 عندما غادرت فلسطين من أجل الدراسة في المعهد العالي للسينما بالقاهرة. وبعد عشرة أعوام بدأت العمل على فيلمها الوثائقي "زيّ ما أنا عايزة". وفي ذلك الوقت، كانت البداية الحماسية الجديدة التي بشَّرت بها الثورة المصرية في شهر كانون الثاني/يناير 2011 قد خرجت عن مسارها. وكان الإخوان المسلمون قد فازوا بفارق بسيط في الانتخابات وتولوا السلطة.
وباتت الحرِّيات المكتسبة بصعوبة تتقلَّص أكثر وأكثر، وخاصة بالنسبة للنساء. وتصاعدت التحرُّشات والاعتداءات الجنسية الجماعية على النساء منذ بداية الاحتجاجات وصار يتم استخدامها باستمرار كسلاح ضد الثوَّار، مكتسبةً بُعدًا جديدًا.
وفي الذكرى السنوية الثانية للثورة، في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2013، وقعت من جديد اعتداءات جنسية وتحرُّشات جماعية أثناء الاحتجاجات ضدَّ الإخوان المسلمين. وكانت الأمور أسوأ بكثير ليلة الاحتجاجات الجماهيرية ضدَّ الرئيس محمد مرسي في مطلع شهر تمُّوز/يوليو 2013.
بيد أنَّ هذه الجرائم -التي وصلت إلى حدّ عمليات الاغتصاب الجماعي الشديد القسوة- هي مجرَّد قمة الجبل المرئية من تجريد النساء وحرمانهن الممنهج من حقوقهن في المجتمع المصري. فقد وَثَّق تقرير شامل صادر عن منظمة العفو الدولية في عام 2015 حجم المشكلة: حيث أفادت تسعةٌ وتسعون في المائة من جميع النساء والفتيات في استطلاع للآراء أجرته منظمة الأمم المتَّحدة للمرأة بأنَّهن قد تعرَّضن لتحرُّشات جنسية (في مصر).
وقبل أربعة أعوام من بدء حركة "أنا أيضًا" (ـ metoo# ـ) في إثارة الكثير من النقاشات في الولايات المتَّحدة الأمريكية وأوروبا في عام 2017، احتجَّت سماهر القاضي وزميلاتها ضدَّ هذه الاعتداءات التي لا تُطاق - وضدَّ النظام الاجتماعي الذي يضطهد النساء باستمرار. ونهضن ضدَّ هياكل السلطة التي تسمح للرجال بأن يقرِّروا كيف يجب على النساء أن يلبسن ويتحدَّثن ويتحرَّكن - وباختصار: ضدَّ الهياكل الذكورية المتطرِّفة.
وسماهر القاضي لا تقوم فقط بتوثيق ذلك، بل تخرج مع صديقاتها إلى المظاهرات وتدعو النساء إلى الدفاع عن أنفسهن، وتُصوِّر الرجال الذين يتحرَّشون بهن وتواجههم بإهاناتهم الجنسية وأحكامهم الخادعة التي يُزعم أنَّ لها قيمة أخلاقية. ظهرت خلال هذا الوقت في مصر الكثير من المبادرات لمواجهة الاعتداءات على النساء.
"التغيير يأتي مع أطفالنا ومع ما نعطيه لهم"
غير أنَّ الواقع الاجتماعي مختلف: فإذا صرخت النساء المُعتَدى عليهن في وجوه الرجال المُعتدِين، فعندئذ يُطلب منهن أن يصمتن؛ وإذا دافعت النساء عن أنفسهن باستخدام العنف، فعندئذ يتعرَّضن هن بالذات لتهديدات خطيرة؛ وإذا قمن بتوثيق الاعتداءات فعندئذ تتم إهانتهن؛ وإذا سمحت النساء بوقوع الاعتداءات، فعندئذ يجب عليهن التعايش مع "العار" المزعوم. أمَّا الشرطة فلا تُقدِّم أية حماية لهن وقد يتحوَّل رجال الشرطة أنفسهم في حالة الشكّ إلى خطر على النساء.
دائمًا وأبدًا يتعلَّق الأمر بأفكار حول العار والشرف - يقوم نظام التعليم والمجتمع الذكوري بتلقينها مثل اللقاح للنساء. وحول ذلك قالت سماهر القاضي في حوار مع موقع قنطرة: "يُفرض علينا أن نخجل من ضحكتنا وأكتافنا ومن الصور ومن الرغبة في الحرّية. ولكنني أصبحت أُدرك ذلك الآن فقط - بعد عشرات السنين من التربية التي علَّمتني هذه الأمور". صوَّرت سماهر القاضي في القاهرة بنات صغيرات -ترسَّخت لديهن هذه الأفكار كما هي تمامًا- وهن يُنبِّهنها إلى ضرورة ارتدائها ملابس محتشمة والتصرَّف "بعفة وأدب".
لقد كانت المخرجة أيضًا في الماضي فتاة مثل تلك البنات الصغيرات. تقول سماهر القاضي: "استغرق إنجاز الفيلم وقتًا طويلًا لأنَّه يُمثِّل مواجهة شخصية جدًا حول هذا الموضوع أيضًا". فبينما كانت تنزل مع غيرها من الناشطات الأخريات إلى الشوارع في القاهرة بصوت يرتفع دائمًا أكثر وأكثر من أجل المطالبة بحقوق المرأة، كانت تواجه ماضيها وبيئتها الخاصة.
منذ أجيال يتم تزويج النساء لدى عائلتها في سنّ مبكرة. فأختها منال أصبحت جدةً حتى قبل بلوغها الأربعين. ولم يكن من المتوقَّع لها أن تسلك طريقًا مختلفة. وبالرغم من موقف والدها الليبرالي كان يجب على البنات في أسرتها أن يخضعن للتوقُّعات الاجتماعية. ومع ذلك فقد استطاعت من خلال انتقالها إلى القاهرة تخليص نفسها من هذه الأدوار النمطية التقليدية. وحول ذلك تقول: "كنت أنا الخروف الأسود [المختلف] في أسرتي".
وهي تعرف قيمة حرِّيتها - وتأسف لأنَّ أُمَّها المتوفاة لم تتمتَّع بالحرّية، ولم يكن بإمكانها حتى التفكير فيها. يتخلل الفيلم حوارها الخيالي مع أُمِّها، والذي لم يكن من الممكن أن تخوضه معها في الواقع. والآن فقط، بعد نحو عشرين عامًا من مغادرتها بيت أهلها، أصبحت لديها القوة لمواجهة التجارب التي كان بعضها صادمًا في طفولتها.
تمت في الفيلم إعادة تمثيل بعض الحِقَب من هذا الزمن، والشخصيات الرئيسية هي: أقاربها. وبما أنَّ عائلتها أصبحت جزءًا من قصة الفيلم فهذا أمر حتمي ومرهق بالنسبة لها. وحول ذلك تقول: "لا أعرف ما الذي سيحدث عندما يتم عرض الفيلم في أيَّام فلسطين السينمائية في رام الله وأذهب إلى هناك مع والدي وأخوتي وأخواتي".
فيلم مَعْنِيٌّ بالأجيال القادمة
صحيح أنَّ فيلم سماهر القاضي يقتصر إلى حدّ كبير على فترة حكم الإخوان المسلمين، ولكنه يتجاوز هذه الحقبة الخاصة. تتشابه الأسباب الهيكلية لاضطهاد النساء في جميع أنحاء العالم، ولكن العمل لمواجهتها يعتبر بالنسبة لسماهر القاضي مهمةً عالمية.
ويوثِّق الفيلم الابتهاج بانقلاب السيسي في شهر تمُّوز/يوليو 2013 وتبدو نهاية حكم الإخوان المسلمين بالنظر إلى الماضي مفهومة وكذلك مأساوية. واليوم، لم يعد من الممكن منذ فترة طويلة خروح مظاهرات كتلك التي كانت تخرج ضدَّ الرئيس محمد مرسي، وقد اضطرت سماهر القاضي أيضًا إلى التوقُّف عن تصوير الفيلم بعد فترة قصيرة من الانقلاب.
غادرت المخرجة سماهر القاضي مصر في عام 2017، لأنَّ الأوضاع لم تتحسَّن هناك، بل على العكس. إذ إنَّ انتهاكات حقوق الإنسان في عهد الرئيس السيسي تتجاوز أي شيء شهدته مصر في العقود الأخيرة. واعتداءات قوَّات الأمن ليس لها حدود تقريبًا: من إخفاء قسري وتعذيب وعمليات قتل.
صحيح أنَّ الفيلم يشير إلى قانون ضدَّ الاعتداءات الجنسية صدر عام 2014 في عهد الرئيس السيسي، ولكن حتى الآن لم يتغيَّر سوى القليل أو حتى لم يتغيَّر أي شيء في الثقافة اليومية المعادية للنساء والأوضاع السيِّئة في الدولة. ومع ذلك فقد أدَّت في الآونة الأخيرة موجةٌ جديدة من النشاطات أيضًا إلى اتِّخاذ إجراءات قضائية جنائية.
وقد ساهم في ذلك مساهمةً أساسية حسابُ "شرطة الاعتداءات الجنسية" (Assaultpolice)، الذي يضم أكثر من مئتين وأربعين ألف متابع على موقع إنستغرام.
ولذلك فإنَّ سماهر القاضي تظل متفائلة بالرغم من خيبة أملها من المسار الذي سلكته مصر. ولم تفقد الأمل في أن تتكَّمن يومًا ما من عرض فيلمها هناك. وفي هذا الصدد تقول: "ربَّما تكون الثورة قد فشلت، بيد أنَّها أدَّت من ناحية أخرى إلى جعل الناس يعرفون على الإطلاق ما هي حقوقهم!". وفيلمها يُشِعُّ أيضًا بهذه الطاقة الإيجابية. وهي مَعْنِية في نهاية المطاف -مثلما تقول- بالأجيال القادمة.
لقد كان ابنها "زين" لا يزال طفلًا صغيرًا خلال فترة الاضطرابات في مصر. أمَّا ابنها الثاني "رامي" فقد وُلِدَ أثناء أعمال التصوير. تشعر سماهر القاضي بعبء ثقيل لأنَّها قد عرَّضت طفليها لمثل هذا الخطر الكبير. ولكن من المهم بالنسبة لها أن يفهم طفلاها لماذا تعمل أمُّهما من أجل التصدّي للمقاومة التي تواجهها النساء ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في جميع أنحاء العالم.
تقول سماهر القاضي: "التغيير يحتاج وقتًا. ويحتاج أكثر من مجرَّد سقوط أنظمة وتغيير حكومات أو قوانين. التغيير يأتي مع أطفالنا ومع ما نعطيه لهم".
رينيه فيلدأنغل
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
.......................
طالع أيضا
الفيلم السعودي "المرشحة المثالية" للمخرجة هيفاء المنصور
صورة عن نساء ورجال السعودية أصدق مما في الأخبار الغربية
.......................
[embed:render:embedded:node:40632]