الاقتصاد المصري: في براثن الدولة العميقة
في منتصف العام 2019، تلقت مصر آخر قسط بقيمة ملياري دولار من القرض البالغ 12 مليار دولار الذي قدمه صندوق النقد الدولي في العام 2016، معلنًا مُستكملةً بذلك البرنامج المتفق عليه بنجاح. لكن المراجعة النهائية التي أجراها صندوق النقد الدولي لإصلاحات مصر التي شكّلت الأساس للموافقة على الصرف النهائي لم تكن مقنعة تمامًا. فالاقتصاد المصري يعتمد بشكل كبير على القطاع العام الذي تقوده المؤسسة العسكرية، الذي أثبت عدم قدرته على تحقيق النمو طويل الأجل والذي يعتبر ضروريًا لانتشال ملايين المصريين من براثن الفقر.
ولكن وللإنصاف، نفذت مصر إصلاحات عدة لطالما صعب على الحكومات المصرية السابقة إنجازها، من بينها تحرير سعر الصرف (وإن لفترة محدّدة وحسب)، وخفض الدعم على الوقود والغذاء، وتنفيذ تدابير تقشّفية معيّنة، ورفع أسعار الفائدة لتعويض الأثر التضخمي لتخفيض قيمة العملة. كما كانت هناك بداية مشجعة لإصلاح بيئة الأعمال من خلال تحديث بعض القوانين والقواعد التنظيمية، إلا أن هذا التقدم المحدود الذي حققته مصر في هذه الفترة لا يفسّر أسباب تراجع الاقتصاد المصري الكبير عن نظرائه في الدول الناشئة.
تقدم اقتصادي سطحي وغير مستدام
عملت اتفاقية صندوق النقد الدولي أيضًا على تنشيط حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي نفذت مشاريع بنية تحتية كبرى وتوجهت إلى مجتمع الاستثمار الدولي بثقة مستجدة. كان اكتشاف حقل غاز عملاق داخل حدود مصر الدولية في البحر الأبيض المتوسط في بداية البرنامج الممول من الصندوق بمثابة دفعة جيدة إلى الأمام. كذلك، كان رد الفعل الرسمي من دول الخليج الصديقة ومن أوروبا إيجابيًا للغاية وجلب المزيد من الأموال. والأهم من ذلك أن مستثمري الأسواق الناشئة، الغارقين في بحر من أسعار الفائدة المنخفضة أو السلبية، توافدوا على سندات الخزانة المصرية التي اقترنت بأسعار فوائد تفوق العشرة في المئة يصحبها الحد الأدنى من مخاطر سعر الصرف، وعلى عروض سندات الدين بالعملة الأجنبية (اليوروبوندز) التي أصدرتها مصر بمعدلات متوسطة نسبيًا. ولهذا، أصبحت البلاد خلال هذه الفترة إحدى أكثر الوجهات المقصودة لتدفقات رأس المال قصيرة الأجل في الأسواق الدولية.
ساعدت عودة الاستقرار في مصر بعد اضطرابات الربيع العربي المقلقة وما تلاها من أحداث، في إنعاش القطاع السياحية إلى حدٍ ما وكذلك في تحفيز نشاط القطاع الخاص المرتبط بمشاريع البنية التحتية الحكومية. كذلك، تعافى النمو الاقتصادي إلى معدّلٍ يزيد عن 5 في المئة وتحسنت آفاق العمالة. وحين شارف البرنامج على نهايته، كان العجز المالي قد تقلّص، وانخفض التضخم بشكل كبير عن المعدّل الذي بلغه بعد تخفيض قيمة العملة.
من منظور صندوق النقد الدولي والأسواق المالية الدولية، كان برنامج مصر ناجحًا بشكل معقول لأنه ساعد في تخفيض حدّة الاختلالات والتشوهات على صعيد الاقتصاد الكلي وفي استقرار الأوضاع المالية. مع ذلك، فشل البرنامج في تحقيق الهدف الأساسي والأهم الذي أكّد عليه كل من مصر وصندوق النقد الدولي منذ البداية، وهو وقف اعتماد الاقتصاد المصري على القطاع العام، بل تحويله إلى اقتصاد تحركه قوى السوق ويقوده القطاع الخاص.
في السياق المصري، تطلب هذا الهدف أساسًا تقليصًا تدريجيًا للدور المباشر للمؤسسة العسكرية المستحكمة في قطاعات مهمة من الاقتصاد. بينما يمكن للمرء أن يتفهم إحجام صندوق النقد الدولي عن الضغط على مصر للقيام بمثل هذا التحوّل (الذي من المفترض أن يكون من مهام البنك الدولي)، تجاهلت حكومة السيسي القضية برمتها وشرعت في توسيع نطاق دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد بشكل واضح وصريح.
القطاع العام الذي تقوده المؤسسة العسكرية لا يزال مهيمنًا
من خلال نظرة تاريخية واسعة على مسار النمو الاقتصادي في مصر، يمكن القول إن الانقلاب العسكري في العام 1952 أحدث انقطاعًا مع قرن من النمو الرأسمالي في مصر وشرع في استراتيجية تنمية بقيادة الدولة تستند إلى موقف معادٍ للاستعمار خارجيًا وبرامج إصلاح شعبوية داخليًا. هذا التوجه الأخير يعني في الأساس تأميم الصناعة، وإعادة توزيع الأراضي على نطاق واسع، وفرض ضرائب تصاعدية للغاية على الدخل والثروة.
ونظرًا إلى أن الحكومة الجديدة كانت بقيادة ضباط شباب اختبروا شخصيًا هزيمة مصر المهينة في فلسطين في 1948‒1949، فهي عمدت إلى إنشاء وزارة الإنتاج الحربي وشرعت في ترسيخ الدور المهم للمؤسسة العسكرية في الاقتصاد. وقد ساهمت الحروب اللاحقة مع إسرائيل وتأسيس حالة من التعبئة الوطنية في تعزيز هذا الدور. يُضاف إلى ذلك أنه في أعقاب اتفاق السلام مع إسرائيل في العام 1978، مُنحت القوات المسلحة دورًا مباشرًا في إطلاق أنشطة مربحة، للتعويض عن خفض ميزانية الإنفاق العسكري، الذي نُفِّذه لإرضاء المانحين آنذاك، وليس من أجل تقليص نفقات المؤسسة العسكرية. كما تم نقل بعض الإنفاق العسكري خارج الميزانية بينما وجدت المؤسسة العسكرية مصادر جديدة للإيرادات من خلال الانخراط في النشاط الاقتصادي العادي.
مع ترسبخ جذور المؤسسة العسكرية، نما نفوذها في الاقتصاد بشكل مطّرد، بما في ذلك التوسع في إنتاج السلع والخدمات مثل الإسمنت والصلب والأجهزة المنزلية والسياحة، بينما ظل القطاع العسكري معفيًا إلى حد كبير من المنافسة مع القطاع الخاص، لا بل استفادة في الكثير من الحالات من المزايا الضريبية وغيرها. ومنذ العام 2013، وسّع السيسي دور المؤسسة العسكرية وامتيازاتها الخاصة. على سبيل المثال، وضع التشريع الذي تم 2014 وتجديده في العام 2016، جميع "المرافق العامة والحيوية" ضمن الاختصاص القضائي العسكري حتى العام 2021، وهو الموعد المحتمل لتجديد القانون. كذلك، تعزّز دور المؤسسة العسكرية في استغلال الأراضي العامة والتحكم بعملية استخدامها من قِبل القطاع الخاص، ما زاد فرص السعي إلى تحقيق الريع والفساد على نطاق واسع.
لا شكّ أن دولًا نامية أخرى شهدت في السنوات الأولى بعد نيلها الاستقلال نقل السلطة السياسية إلى المؤسسة العسكرية، مثل الصين وكوريا الجنوبية وتركيا وإندونيسيا والعديد من دول أمريكا اللاتينية. ومع ذلك، أعادت معظم البلدان مع مرور الوقت ترسيخ مبدأ السيطرة المدنية، وغالبًا مل اقترن ذلك بضمانات دستورية، وتوفير أطر قانونية ومؤسساتية قوية تضمن تأسيس نظام اقتصادي أكثر ليبرالية وانفتاحًا. لكن مصر لم تشهد مثل هذا التحول خلال العقود السبعة الماضية تقريبًا.
فبالنسبة إلى مصر، وبالإضافة إلى سيطرة المؤسسة العسكرية المباشرة، ظلّت قطاعات مهمة من الاقتصاد تحت التأثير غير المباشر للمؤسسة الأمنية من خلال شبكة واسعة من كبار الضباط المتقاعدين الذين يشغلون مناصب إدارية عليا أو يعملون كأعضاء في مجالس إدارة شركات في جميع فروع المؤسسات العامة المترامية الأطراف وكذلك في أجزاء من القطاع الخاص. كذلك، يتولّى رئاسة غالبية السلطات المحلية في الأقاليم وجميع الهيئات العامة تقريبًا (في النقل البحري والطيران والسكك الحديدية وقناة السويس) جنرالات سابقون أو أمثالهم من الضباط المتقاعدين رفيعي المستوى وذلك منذ عقود. وبالتالي، تساعد هذه الشبكة من الضباط العسكريين المتقاعدين في ضمان بقاء السياسات الاقتصادية والقرارات الاستراتيجية لشركات القطاع الخاص ضمن المعايير التي تحددها المؤسسة العسكرية. هذا هو السبب الرئيس وراء عدم نجاح الخصخصة الحقيقية في مصر مقارنةً مع دول ناشئة أخرى، باستثناء فترة وجيزة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
الرجاء النفر هنا لمتابعة التحليل العميق...