اللبنانيات.....من قفص الزوجية إلى فضاء الحرية
"أنا أكثر سعادة من أي امرأة متزوجة على هذا الكوكب"، بجرعة عالية من التفاؤل تبرر ديالا ابنة الواحدة والثلاثين عاما سبب تشبثها بحريتها المطلقة، أي تلك التي تعني في قاموس العزوبية الخاص بها التفلت من قيود أي رجل قد يفرض عليها أي تفصيل مهما كان صغيرا بحجة "المؤسسة الزوجية" التي قد تربط بينهما. بعد ان أنهت دراسة القانون، سافرت ديالا إلى فرنسا للعمل في إحدى المحافل الدولية، ولكن السبب برأيها لا يعود فقط إلى العروض المغرية التي لم تتوفر لها في وطنها الأم ، وإنما من اجل "الهرب من شكوى الأهل برفضي للزواج" على حد قولها. ومع ذلك فوالدتها تهاتفها مرتين أو ثلاث أسبوعيا لتطلب منها الطلب ذاته "ماما..أريد أن أفرح بك" إلى حد يجعلها تفكر بكل الحيل الممكنة للتهرب من زيارتها السنوية إلى لبنان لأن في هذه الزيارة ما يضمر به الأهل لها من لقاءات عدة منظمة بغير علمها للقاء عريس المستقبل المحتمل من رجال العائلة او المحيطين بهم.
الهروب من قفص الزوجية
رفضها للزواج ليس وليد اللحظة كما تقول، إذ "هو قرار اتخذته أثناء دراستي في الجامعة". فالمرأة الشرقية برأيها يكتب لها القدر ذاته وهو حتمية الزواج وإنجاب الأطفال والتضحية بكل ما تطمح إليه "كرمى لعيون الرجل" على حد تعبيرها. "لكني رأيت كيف ذهبت حياة والدتي وخالتي وعمتي هدرا في مساحة محددة لا تتعدى البضع مترات بين المطبخ وغرف المنزل" تقول ديالا بتمرد وتضيف بحدة "لم يكن سعيدات حتى لو حاولن إخفاء ذلك..لا أريد هذه الحياة. لا أريد أن أكون سجينة مثلهن.. وعندما يأتي الرجل الذي يحترم استقلاليتي ويصون حريتي على أساس مبدأ المساواة بين المرأة والرجل، فلن أفكر مرتين".
تبدو أسمى سعيدة بدورها، كأن لا شيء يمكن أن يسلب منها هذه الحالة العاطفية الإيجابية إلى حد كبير. لم تتزوج بعد على الرغم من أن عمرها ناهز الخامسة والثلاثين، وهي صاحبة شركة لتنظيم المؤتمرات أنشأتها بعد حصولها على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال. اعتناءها الفائق بأنوثتها قد يكون للبعض مبالغ فيه قياسا بامرأة لا يعنيها شيئ إلا النجاح في عملها، وهاتفها الذي لايتوقف عن الرنين يشي بشغف علاقة عاطفية ما، فيما أناملها التي ما زالت تفتقد إلى خاتم الزوجية تنقر علبة مفاتيح "البلاكبيري" بعجلة حماسية، "هذا ليس حبيبي..إنه فقط العمل" تعلق مازحة.
"انا لست ضد الزواج بالمطلق" تقول أسمى "لكن هل من رجل شرقي يقبل بأن تكون زوجته سيدة أعمال ناجحة وتعطي لعملها اكثر مما تعطي وقتا لواجبات المنزل"؟ "هل من رجل شرقي يساعد المرأة العاملة في الواجبات المنزلية وتربية الاطفال"؟ لا تخفي أسمى أن هذه الهواجس تراودها كلما التقت برجل أحست بميل عاطفي إليه لتقف هذه الأسئلة بالمرصاد بينها وبين أي خطوة جدية قد تقدم عليها. فهي تخرج صباحا ولا تعود إلى منزلها إلا في وقت متأخر من الليل بعد انتهاء العمل، تخرج مع أصدقاءها وقتما تشاء وتسافر مرات عدة في السنة للترفيه. "بكل بساطة أعيش حياتي كاملة بلا ملامة أو عتاب من أحد". تقول أسمى أن معظم صديقاتها تزوجن وانجبن أطفالا "لكن ينتابني شعور من الشفقة حيالهن، فالعائلة سلبتهن أنفسهن..نسين فعلا ماذا كن أو ماذا أردن أن يحققن قبل الزواج". تستذكر أسمى ان إحدى صديقاتها قالت لها مرة "تنتابني غيرة شديدة منك، لأنك تحظي بحياة فيما أنا لا أحظى إلا برائحة الثوم والبصل وقبلة خاطفة في أفضل الأحوال".
النساء أكثر براغماتية وأقل رومانسية؟
تقول الباحثة وأستاذة علم الإجتماع في الجامعة اللبنانية منى فياض أن تأخر سن الزواج لدى الفتيات هو ليس خصوصية لبنانية بل ظاهرة باتت تنتشر في البلدان العربية خاصة مع تطور علاقة الأسرة بعضها ببعض.أما الخصوصية اللبنانية في هذه الظاهرة فتتعلق في رأيها بأسباب محلية عدة أهمها الحرب الأهلية اللبنانية والحروب الإسرائيلية المتتالية والنزاعات المستمرة، الأمر الذي برأيها انعكس على أوضاع الأسرة اللبنانية. وتقول فياض "أثناء تعليمي بالجامعة في حقبة الثمانينات، كانت معظم الطالبات متزوجات او على وشك الزواج، لكن في فترة التسعينيات فإن الكثير من الطالبات كن يرفضن فكرة الزواج لأنهن حققن هدفهن بالتحصيل العلمي فيما معظم الشباب اللبناني كان منشغلا بالقتال أثناء الحرب الأهلية اللبنانية ولم يعطي أهمية للتحصيل العلمي".ويكمن السبب الآخر بحسب فياض بهجرة الشباب اللبناني مما يجعل نسبة الفتيات في لبنان تفوق بأضعاف نسبة الذكور.
وترى فياض أن طموحات المرأة اللبنانية المعاصرة ومتطلباتها الحياتية تؤدي دورا بارزا أيضا في عزوفها عن الزواج وتقول "الفتيات في يومنا أقرب إلى البراغماتية حيث تلبية أولويات الحياة مثل امتلاك الشقة واقتناء سيارة تعتبر أمورا أساسية لهن".
وبحسب فياض فإن بعض الفتيات يعتبرن أن الحب يخبو بعد سنوات قليلة من الزواج، لذا يبقى الأهم بالنسبة إليهن وهو القدرة المادية للزوج المستقبلي.ويعتبر السبب الاهم بالنسبة إلى فياض هو تحقيق الذات والإستقلالية الذاتية لدى المرأة اللبنانية، إذ يشكل هذان العاملان بالنسبة إليها أهمية تفوق الزواج والإرتباط في أغلب الأحيان.لكن هذه الظاهرة بحسب فياض تنتشر في المدن اللبنانية فقط، أما في الأرياف فإن الوضع يختلف مقارنة مع المرأة الريفية إذ ان الوعي حول تحقيق مبدأ المساواة مع الرجل والإستقلالية الذاتية هي أمور ما زالت غير ذي أهمية.
"وهبت نفسي للقضية ونسيت أن القضية هي أنا أيضا"
لم تختار ليليان هذه النهاية لنفسها، "صرت عانس بالعربي الدارج"، تقول على الرغم من انها تكره إطلاق هذه الصفة على أي أحد. الخصلات البيضاء التي تغزو شعرها تتماهى مع حالة الإحباط التي أصابتها منذ سنوات طويلة قبل أن تصل إلى الثانية والخمسين من عمرها. قضت ليليان معظم عمرها بالنضال السياسي في فترة الحرب الأهلية اللبنانية ثم ناضلت من أجل القضايا الحقوقية بعد انتهاء الحرب. "قدمت في سبيل الآخرين كثيرا إلى حد أني نسيت أو تناسيت أن لدي حياة يجب أن أعيشها" تقول ليليان وتضيف "وهبت نفسي للقضية ونسيت أن القضية هي أنا أيضا". حازت ليليان على شهادتها الجامعية بعد الحرب، وآمنت كما غيرها من المناضلات بأهمية تحرر المرأة وضرورة استقلاليتها الذاتية، لكنها لم تفكر يوما بأن الإرتباط بشريك هو مناقض لتطلعاتها التحررية، "لكن حياتي الحافلة أخذتني بعيدا عن ما تحلم به كل امرأة.. بقيت وحيدة في منزل كبير. أهتم بأولاد صديقاتي كأنهم أولادي ولكن هذا لا يخفف من ألمي بالوحدة".
تستذكر ليليان نصيحة وجهتها لها والدتها يوما "يا ابنتي، تزوجي وأنجبي أطفالا. غدا يمر القطار سريعا وتشعرين أنك لم تحققي شيئا إذا لم يكن لديك عائلة وأولاد". لم تعطي حينها ليليان أذنا للنصيحة المحببة، لكنها اليوم تستذكرها في لحظات وحدتها، وما أكثرها من لحظات.
دارين العمري-بيروت
مراجعة: هبة الله إسماعيل
حقوق النشر: دويتشه فيله 2011