الإسلام والطعام...بحث ألماني ملتبس في تاريخ وأدب الطبخ

تتركك تجربة الخوض في كتاب الطبخ لپيتَر هاينِه، والمتوفر باللغة الإنجليزية، شعورًا وكأن المؤلف قد تناوَل أكثر مما تحمل خبرته في هذا المجال. إذ يبدو كتاب "الهلال الطهوي" وكأنه خليطٌ عجائبي من ألفِ فنٍّ وفنٍّ مطبخي. الناقدة الأدبية مارسيا لينكس كويلي تُشرِّح الكتاب لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: مارسيا لينكس كويلي

يبدأ كتاب پيتَر هاينِه المُترجَم [من اللغة الألمانية إلى الإنجليزية] "الهلال الطهوي: تاريخ الطهو الشرق أوسطي" بافتتاحية غريبة نوعًا ما. إذ يؤكد في مقدمة الكتاب أن "أغلب كتب الطبخ التي تتناول البلدان المختلفة في العالم الإسلامي مُكرّس للمطبخ المغربي" وبأن "الخبيرة في هذا المجال دون منازِع هي المؤلفة الفرنسية زِيتّ چينودُو-فرانك".

قد يُعزى هذا النثر المتخبِّط إلى ترجمة پيتَر لُوِيس [الإنجليزية] أكثر مما هي كتابة هاينِه بالألمانية. مع ذلك، نتساءل عن نوعية البحث الذي قام به هاينِه والذي دفعه لليقين بأن أكثر الكتب في هذا المجال – أيًا كان – هي مُكَرَّسة للأكل المغربي. ما الذي يؤهل الكاتبة الفرنسية چينودُو-فرانك بأن تكون هي "الخبيرة الأولى" في هذا المجال؟ ومن هو المتلقي الذي تم تنصيبها خبيرة عليه؟

هذا النوع من التعميمية المُربِكة هو ما يتسم به كتاب "الهلال الطهوي" برمته، في محاولةٍ لمؤلفه الكتابة عن الطهو بدءًا من القرن السادس ووصولًا إلى القرن الحادي والعشرين، عابرًا خلال هذه الرحلة عشرات البلاد وآلاف الكيلومترات.

هاينِه بروفيسور متقاعِد في الدراسات الإسلامية، فلا عجب إذًا أن يفتتح الكتاب بالبحث في العلاقة ما بين ثقافة الطعام والإسلام. ولكن الأمر المفاجئ هو الفصل الأول "بلا لحم الخنزير، بلا كحول"، والذي نراه مزيجًا من ملاحظاتٍ تافهة ومعلوماتٍ غير موَثَّقة، بحيث يبدو المليار ونصف مسلمًا ومسلمة وكأنهم يحملون نفس الآراء وبذات الدرجة من التشدُّد.

ولعٌ شديد بالحوارات الذاتية

مع أن الكتاب يحمل فهرسًا للمراجع، إلا أنه بلا هوامش، ومعظم ادعاءات هاينِه مسنودة بمواد أشبه بالنوادر الشخصية. على سبيل المثال، من أجل أن يؤكد مقولته بأن "المسلمين يحملون كرهًا دفينًا، إن لم نقل اشمئزازًا، تجاه لحم الخنزير"، يُقدم هاينِه الدليل بأنه "من السهل أن يقوم إنسان شيوعي النزعة ذو أصولٍ عربية ولا يحمل نفس الشعور السلبي تجاه كأسٍ من الويسكي بانتقاد زميلة له مصرية مسلمة لأنها تأكل لحم الخنزير".

 

الباحث الألماني في العلوم الإسلامية پيتَر هاينِه مؤلف كتاب "الهلال الطهوي". Foto: picture-alliance/dpa
Professor Peter Heine ist Islamwissenschaftler und Ethnologe und hat lange Jahre am Südasien-Institut der Berliner Humboldt-Universität gelehrt. Zu seinen letzten Buchpublikationen zählen u.a. "Allah und der Rest der Welt" sowie "Im Garten Allahs. Der Islam".

 

{"يخلق كتاب "الهلال الطهوي" من تأليف پيتَر هاينِه تعميماتٍ مُربِكة عن الشرق الأوسط، كثيرًا ما توضعُ كنقيض لغرب راسخ بأفكاره النمطية" - الناقدة الأدبية مارسيا لينكس كويلي}

 

هناك أيضا العديد من الحوارات الشخصية التي تم طرحها بضبابية شديدة لدرجة أن بعض الإدعاءات قد تُقرأ وكأنها حِكَمٌ شائعة. يخبرنا هاينِه مثلًا بأن المسلمين لا يروق لهم منظر "عصارة اللحم الأحمر".

وهو يدعم هذا الادعاء بأن "الكثير من الطُّهاة الكبار المُكلَّفين بتحضير المآدِب الرسمية" للضيوف المسلمين "يُدرِكون بأسفٍ شديد أن ضيوف الدولة الأجانب سيستذوقون اللحم بطريقة أفضل إذا قُدِّم لهم وهو كامل الاستواء". من هم إذًا هؤلاء الطُّهاة؟ وأين قابَلَهُم الكاتب؟ لا يُخبرنا، للأسف.

وفي الحالات التي تبدو وكأن الكاتب قد كَلَّف نفسه عناء البحث، نجِده ملتَبس الطبيعة. يستشهد هاينِه مثلًا بدراسةٍ "تم تحقيقها من قبل عالِم اجتماع عربي" لتوضيح ريبة المسلمين تجاه اللحوم عامة. في تلك الدراسة، تم إجراء استبيان مع فلاحين مصريين بخصوص شرائهم اللحم من أحد الجزارين إن كان شيعيّ المذهب، "وكان جوابهم:ˈمُطلقًا! لا يعلم أحدنا ما يفعل هؤلاء في هذه اللحوم!ˈ".

ليس من الواضح هنا إن كانت الإجابة على السؤال أعلاه خيارًا في الاستفتاء، أم إن كان هؤلاء الفلاحون الغريبي الأطوار قد أدلوا بأجمعهم بنفس الإجابة لعالِم الاجتماع الذي لم نُعَرَّف حتى باسمه".

الإسلام والجِندرية (الجنسانية) – المرحلة التمهيدية

بعد تقديم طروحاته بخصوص الكحول ولحم الخنزير، ينتقل هاينِه لتقديم شهر رمضان بطريقةٍ تبدو لأي إنسان راشد يعيش في القرن الحادي والعشرين وكأنها درسًا من دروس المرحلة الابتدائية.

يقوم المؤلف بتَتبِيل هذه الشروحات البسيطة بتصريحاتٍ شعواء مثل: "تتمحور الحياة العامة في البلاد الإسلامية حول شهر الصيام". وبخصوص الوجبات الرمضانية، يخبرنا هاينِه: "فوق كل هذا، يتجاذب الناس أطراف الحديث عن الوجبات التي تناولوها". كيف تمكَّن المؤلف من الوصول إلى هذا الاستنتاج؟ هل قام بإجراء استطلاعٍ ما؟ أو حتى مُعايَنة؟ يبدو الأمر مُبهَمًا بعض الشيء.  

كما يقترح الكِتاب في ثنايا صفحاته أن عمليتي شراء وإعداد الطعام تَقَعَانِ كليةً على عاتق "ربّات البيوت"، إذ يخبرنا هاينِه بأن "الطهو العثماني أضحى مُتاحًا لرَبَّة المنزل المعاصِرة". كما أنه يُعْلِمُنا بأن الرجال في الشرق الأوسط قد يتناقشون في أمور الطعام "لتفادي موضوعاتٍ أخرى شائكة كالنقاشات السياسية والخلافات الدينية"، بينما في المقابل يكون الكلام عن الطعام بالنسبة للنساء "فرصةً لاستعراض مهاراتهن المنزلية".

يُكرِّر هاينِه مرارًا أن هناك شُحًّا في المراجع الأكاديمية بخصوص ثقافة الطعام المحلية والإقليمية في البلدان المختلفة، وهو بهذا يخلق عُذرًا لأي نقصٍ في المعلومات قد يجده القارئ في كتابه. في إحدى محاولاته، يقوم بالإدلاء بدلوٍ غريب مفاده أن "المحاولات الوحيدة لإماطة اللثام عن التاريخ السالِف تَحدُث حاليًا وحَصريًّا في مجتمَعات المَهجَر المختلِفة وكذلك في مخيمات اللاجئين التي يعيش سكانُها ملتصقين بعضهم بببعض في أوروبا والأمريكتين".

أغلب صفحات كتاب "الهلال الطهوي" تُقرَأ وكأنها ثرثرة وافِدٍ أجنبي حول مائدة الطعام، كما هو واضح في فقرة هاينِه التالية: "أصبَحَت دعوة الضيوف على الولائم من المعالِم الثابتة في العادات الاجتماعية للشرق الأوسط". هنالك المزيد من هذه الترهات، إلا أن التالية هي المفضلة عندي: "يجد الشباب الشرق أوسطي في المُجَمَّعات التجارية المكان الأمثل للقاءات الاجتماعية ولتناول الطعام في مطاعم الوجبات السريعة، حيث تُشَكِّل الأخيرة المحطة الأبرز في زياراتهم لتلك المُجَمَّعات". 

أما بالنسبة لفهرس المصطلحات فهو أيضًا مليئ بالتعريفات المُضَخَّمَة. يُخبِر هاينِه القارئ – وكأن الأخير لا يفقه شيئًا – بأن النَّعناع هو "عشبٌ واسع الانتشار ومتواجد في أجناس متعددة"، وبأن الزّبيب هو "عِنَبٌ مُجَفَّف يحتاج أن يُنقَعَ في الماء لتتجدَّد بنيَته قبل أن يُضاف إلى الأطباق الحلوة والمالحة". أما الفلفل، يخبرنا هاينِه بأنه "تابلٌ واسعُ الاستخدام في أرجاء المعمورة ومتواجد في أجناس متعددة التنوع".

"هؤلاء المسلمون، ما أغربهم"

في كلٍّ من صفحات الكتاب التي يبلع عددها (233) صفحة، نتجول كقُرّاء عبر الزمان والمكان والموضوع، دون معرفة موقعنا الزمني والمكاني. هذا من شأنه أن يخلق تعميماتٍ مُربِكة عن الشرق الأوسط، كثيرًا ما توضعُ كنقيض لغرب راسخ بأفكاره النمطية.

 

بهارات وتوابل شرقية. Foto: Fotolia/Yana
Zu wenig an Leserwissen vorausgesetzt: Das Glossar informiert den Leser darüber, dass Minze "weit verbreitetet und in vielen verschiedenen Sorten erhältlich ist" und es sich bei Rosinen um "getrocknete Trauben handelt, die in Wasser eingelegt werden müssen, bevor sie süßen oder herzhaften Gerichten hinzugefügt werden". Und über den Pfeffer erfahren wir, dass es sich hierbei um "ein universell verwendetes Gewürz handelt, das in verschiedenen Sorten erhältlich ist".

 

{"أغلب صفحات كتاب "الهلال الطهوي" (لمؤلفه الألماني پيتَر هاينِه) تُقرَأ وكأنها ثرثرة وافِدٍ أجنبي حول مائدة طعام" شرقية - الناقدة الأدبية مارسيا لينكس كويلي}.

 

أما بالنسبة لسِياسِيِّي الشرق الأوسط، نراهم يبلون بلاءً حسنًا في هذا الكتاب، والسبب المطروح لنا هو: "براعتُهم في الطهو"، مع إدراج المعلومة بأن عائشة القذافي كانت تعتبر نفسها طاهيةً جيدة. يُتابع هاينِه القول بأن "التناقض بين سِياسِيِّي الشرق الأوسط ونظرائهم الغربيين والأشخاص المرموقين الذين يفضلون الطهو المُبَسَّط، هو تناقضٌ جَلِيّ ومدهِش". 

هناك المئات من المَحَطّات في كتاب "الهلال الطهوي" التي كان من الممكن أن تُشَوِّق القارئ بالفعل، مثل: تاريخ القهوة، وأصول مهلبيّة الـ "بلُومُونج"، وكيفية طرح كتب الطهو البريطانية في القرن التاسع عشر للوصفات العربية والتركية. كما نجد متفرقاتٍ من الاقتباسات الظريفة، كتلك المنقولة على لسان جلال الدين الرومي: "ما إن يبدأ الكَفتُ في الغليان، حتى تقفزُ حبوب الحمصةِ رقصًا ووَجدًا"، إلا أن الكاتب لا يأخذ أي اقتباس إلى المرحلة الأبعد. إذ يشغل كلّ من هذه الاقتباسات مساحةَ صفحةٍ أو إثنتين قبل أن ينتقل هاينِه بسرعة البَرق إلى الاقتباس اللاحق، وهلم جرّا.

هنالك العديد من الأبحاث المميزة عن تاريخ الطعام في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى ترجماتٍ ممتازة من اللغة العربية لكُتُبِ طبخٍ تعود إلى القرون الوسطى، خصوصًا تلك التي تمّت ترجمتها على أيدي باحثين مستقلين أمثال نوال نصر الله وتشارلز پِيرِي. كما أن هنالك مدونات للطعام المحلي والإقليمي عمادها البحث الدقيق كمدونة "في مطبخي العراقي" لنوال نصرالله والأخرى "شيئًا فَشيئًا: الطَّبخ مع غُول" للباحثة آنِي غُول.

على النقيض من ذلك، يبدو كتاب "الهلال الطهوي" الذي تم نشره بالألمانية عام 2016 وبالإنجليزية هذا العام 2019 وكأنه سلسلة أبحاثٍ لطُلّابٍ في المرحلة الثانوية. أبحاثٌ تعجُّ بسخافاتٍ ذات نكهةٍ غريبة لمجرد إرضاء مُدَرّسِ الفصل بعددٍ لا بأس به من الكلمات كأولويةٍ للكَمِّ قبل الكيف.

 

 

 

مارسيا لينكس كويلي

ترجمة: ريم كيلاني

حقوق النشر: موقع قنطرة 2019

ar.Qantara.de