بنات بطوطة...نساء أوربيات في الشرق
ظلت الأسفار حتى أواسط القرن التاسع عشر نشاطا رجاليا، والحالات الاستثنائية القليلة الحاصلة في هذا المجال إنما هي شواذ تحفظ ولا يقاس عليها. واحدة من هذه الاستثناءات كانت الليدي فورتلي مونتاغو(1689-1762) التي رافقت في بداية القرن الثامن عشر زوجها الذي عين سفيرا في الإمبراطورية العثمانية.
وقد أصبحت مراسلاتها التي كانت تلتمس من ورائها تفهما أفضل ونشرت بعد وفاتها تحت عنوان "رسائل من المشرق" من كلاسيكيات أدب الرحلة: "ترون إذن"، هكذا تكتب في التاسع عشر من ماي 1718، "أن هؤلاء الناس ليسوا خشنين بالشكل الذي نصفهم به". بل إنها تضيف كذلك بأنها تعتقد "أن لديهم فهما أسلم للحياة." يعود الفضل في نجاح هذا الكتاب أساسا إلى كون الكاتبة كان بإمكانها الدخول إلى عالم الحريم. وبما أن الرحالة الرجال لم يكن بإمكانهم ولوج هذا الوسط، فقد أضرم ذلك جذوة خيالهم لقرون عدة، وأفرز الكثير من التصورات العجيبة. لقد اشتهرت كاتبات بريطانيات بشكل خاص ككاتبات أدب رحلة.
في أواخر القرن التاسع عشر، الحقبة الذهبية لكتابات رحلات المغامرات، سافرت كل من إيزابيل بيرتون(1831-1896) وإيزابيلا بيرد (1831-1904) وآن بلونت(1867-1917) وغرترود بيل(1868-1926) عبر البلدان العربية. أما فرايا ستارك(1893-1993) الإنكليزية التي ولدت في باريس وترعرعت في إيطاليا فقد قامت بزيارات متكررة لبلدان الشرق الأدني بين 1928 و1983، واكتسبت شهرتها آنذاك كمصورة.
زوجات متفانيات، وشخصيات غريبة
كانت المناسبات والبواعث الدافعة على السفر متنوعة. فإلى جانب المتحذلقات والمتمسكات بصرامة بالنمط السائد، نجد المغامرات الغريبات الطبع. زوجات متفانيات يرافقن أزواجهن الذين كانوا يتنقلون في مهمات بحوث أركيولوجية أو كدبلوماسيين أو مغامرين، بينما النساء اللاتي يسافرن لوحدهن فكن من الهاربات من سطوة التقاليد الاجتماعية الصارمة لأوروبا البرجوازية. إلى جانب البريطانيات انطلقت أيضا كل من إيدا بفايفر أصيلة فيينا (1797-1858)، والألمانية إيدا غرافين فون هان-هان(1805-1880) وهما أشهر كاتبات أدب التسلية في عصرهن، في رحلة إلى بلاد المشرق.
أما الحياة القصيرة لإيزابيل إيبرهارد(1877-1904) ابنة عائلة من نبلاء روسيا المهاجرة في جنيف، فقد كان لها من الأثر البديع ما جعل سيرتها توضع على الدوام مجددا موضع الشك. كانت إيزابيل إيبرهارد تتنقل متنكرة في زي رجل عبر الصحراء الجزائرية وتكتب أشعارا باللغة العربية، ثم ماتت غرقا وهي في السابعة والعشرين من عمرها على إثر فيضان في الصحراء. ولا تقل الليدي هيستر ستانهوب(1776-1839) غرابة وغموضا، هي التي كان بيتها اللبناني يجلب إليه الرحالين عبر بلاد المشرق من أمثال ألفونس لامرتين أو ألكسندر كينكلاك. وعلى قدر اختلاف الدوافع كانت طباع الرحالين هي أيضا كثيرة التنوع. ويتوزع سلوكهم بين الفضول المعرفي المنفتح والتعاطف من جهة، والغرور والعنصرية من الجهة الأخرى. وفي هذا المضمار أيضا لا تختلف السيدات الرحالات في شيء عن زملائهن من الرجال.
رحلة إلى الخرطوم بصحبة بيانو
بعض الرحلات قد تحولت إلى ضرب من المآثر من حيث العدة والعتاد. هكذا سافرت ليدي باشكوف الروسية سنة 1872 إلى تدمر مصحوبة بقافلة مكوّنة من 33 بغلا و35 جملا وعشرين حمارا وإثني عشر حصانا. أما ألكسين تينّه (1835-1869) وريثة أحد أباطرة صناعة السكر من هولندا فقد انطلقت بصحبة أمها في بعثة إلى النيل لا تقل ثراء في عدتها هي الأخرى. كانت تتنقل محفوفة بكوكبة هائلة من الخدم جعلت زملاءها من الرحالة الرجال الذين أحسوا بأنفسهم مهانين في كبريائهم المغامِرة يعلقون متذمرين من كون رحلات الاستكشاف الإفريقية المليئة بالمصاعب والتضحيات قد وقع الحطّ من شأنها وتحويلها إلى نزهات نهايات أسبوع. وقد بلغ الأمر أن حملت كاترين بيثريك التي اصطحبت زوجها سنة 1861 في رحلته إلى السودان آلة بيانو عبر الطريق الوعرة والمليئة مخاطر عبر بلاد النوبة. وعلى أية حال فقد تم اختيار آلة من إعداد خاص يمكن من تفكيكها إلى جزئين لهذا الغرض.
لندن- بغداد في ثمانية أيام
غدت بعض الأماكن التي يقصدها المسافرون خلال القرن التاسع عشر ذات شعبية واسعة مما جعلها تصبح مزعجة بالنسبة للكثير من الرحالة. وهاهي إميلي بوفور التي قامت برحلة عبر مصر في سنة 1858 تسخر من "النيل المكتظّ بالمتوافدين الذين تسوقهم الموضة". بعد سنوات قليلة يتحدث رحالة القارة الإفريقية صموئيل بايكر ساخرا من بعثة ألكسين تينّه، وقد تحولت تلك الرحلة تدريجيا إلى موضة حسب رأيه بحيث غدا من المناسب "أن يُفتح خان في المنطقة الإستوائية يستطيع المسافرون التوقف فيها من أجل بيرة." كانت السياحة الجماهيرية الوجه الآخر للسفرات المريحة والآمنة.
و قد تم الاستغناء عن البغال والحمير والجمال بخطوط السكة الحديدية. "Safety,Rapidity,Economy " كان شعار الحملة الإشهارية لـ"Simplon-Orient-Express&Taurus-Express " التي غدت تمكن من قطع مسافة لندن-بغداد في ثمانية أيام؛ رقم قياسي، وفي عربة نوم خاصة إضافة إلى ذلك. وقد استعملت الكاتبة أغاتا كريستي(1890-1976) هذا الخط مرات عديدة بصحبة زوجها عالم الحفريات ماكس مالوان. أما الطريقة الأسرع للسفر بالطائرة، التي كانت متوفرة في ذلك الزمن-كانت هناك الخطوط الجوية الأولى الرابطة بين إنكلترا والقاهرة وكذلك بغداد- فلم تكن لها أن تستميل الكاتبة. هذا النوع من السفر كان يعد باهظ الثمن ومملا بالنسبة إليها.
أندرياس فليتش
ترجمة: علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2005