فريدريش شيلر والعالم العربي: بداية واعدة مع "حب ودسيسة"
بدأ تلقي شيلر في العالم العربي في وقت مبكّر جداً، بحيث يمكن القول إن تلقي الأدب الألماني عربياً قد بدأ بترجمة وعرض إحدى مسرحيات شيلر، ألا وهي مسرحية "حبّ ودسيسة" Kabale und Liebe التي قام نيقولا فياض ونجيب طراد سنة 1900م بترجمتها عن الفرنسية وتمثيلها في القنصلية الروسية ببيروت. فمن الناحية التاريخية بدأ تلقي فريدريش شيلر في العالم العربي قبل أن يبدأ تلقي أي أديب ألماني آخر.
وتواصل تلقي شيلر على امتداد القرن العشرين وإلى يومنا هذا، ولكنه تلقٍّ تخللته فترات من التوقف التي كانت تطول في بعض الأحيان. فمسرحية "حبّ ودسيسة" قد تُرجمت إلى العربية مرّة ثانية سنة 1907 من قبل طانيوس عبده بعنوان "غرام واحتيال"، ومرّة ثالثة سنة 1936 من قبل حسن صادق بعنوان "الحبّ والدسيسة" (القاهرة: مطبعة الاعتماد)، ثمّ ترجمها الدكتور عبد الرحمن بدوي سنة 1994 بعنوان آخر هو "المؤامرة والحبّ"، وقد صدرت تلك الترجمة في الكويت ضمن منشورات "المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب".
لقد تمّت الترجمات الثلاث الأولى عن لغة وسيطة، هي الفرنسية، بينما تمّت الترجمة الأخيرة وحدها عن الألمانية. وبذلك برزت على صعيد تلقي شيلر في العالم العربي ظاهرتان ملفتتان للانتباه، ألا وهما: تعدد ترجمات العمل الأدبي الواحد، وترجمة الأعمال الأدبية عن لغات وسيطة، لا عن الألمانية، لغتها الأصلية. ولم يقتصر تلقي مسرحية "حبّ ودسيسة" على الترجمات السابقة الذكر، بل مُثّلت هذه المسرحية في بيروت والقاهرة. فبعد عرضها في بيروت أوّل مرة سنة 1900 قام أعضاء "جمعية الهلال الأدبية" سنة 1904 بعرضها في "التياترو" المصري بالقاهرة بعنوان "غرام واحتيال"، ومثّلها اسكندر فرح على مسرحه في القاهرة سنة 1907، كما عرضتها "دار التمثيل العربي" في القاهرة سنة 1914، ومثّلتها "الفرقة القومية المصرية" عام 1936، وقد وثّقت الصحافة المصرية تلك العروض وتناولتها بالنقد.
سهرة طويلة مع "اللصوص"
السهم الذي أصاب تفاحة على رأس صبيّ
وشمل تلقي شيلر في العالم العربي، وفي وقت مبكر، مسرحية Wilhelm Tell (فيلهلم تلّ). فقد تُرجمت هذه المسرحية عدّة مرّات، نرجح أن تكون أولاها تلك الترجمة التي أنجزها فؤاد جبارة عن الفرنسية وصدرت عن "مطبعة الفتى العربي" بدمشق بعنوان "غليوم تلّ أو في سبيل الحرّية"، دون تاريخ. أما الترجمة الثانية فقام بها المترجمان عباس أبو شوشة وزين الدين فرج عن الإنكليزية، وصدرت في القاهرة سنة 1948 دون ناشر. وفي عام 1965 صدرت في القاهرة عن "مؤسسة سجلّ العرب" ترجمة ثالثة بعنوان "وليم تلّ"، وقد أنجزها المترجمان ألفونس يعقوب وميخائيل إيزيس. ونظراً لأنّ المترجم الأول مدّرس للغة الألمانية يميل المرء لأن يفترض أن تلك الترجمة قد تمّت عن الألمانية، ولكن ما يضعف تلك الفرضية هو أنّ "وليم" اسم علم إنكليزي وليس ألمانياً.
وصدرت في عام 1982 ترجمة عربية رابعة للمسرحية نفسها، بعنوان "فلهلم تلّ 1804"، ضمن سلسلة "من المسرح العالميّ " الكويتية، وقد تولّى الدكتور عبد الرحمن بدوي الترجمة والتقديم. وكانت قد صدرت في العاصمة العراقية بغداد سنة 1931 ترجمة أخرى لهذه المسرحية، قام بها أنور شاؤول، ولكنّ المترجم نسب مسرحية "فيلهلم تلّ" خطأً إلى الكاتب الإيرلندي رتشارد شيريدن R.B.Sheridan. ومُثلت هذه المسرحية، بترجمة شاؤول، على مسرح "المدرسة الثانوية" ببغداد في السنة نفسها، كما مثّلتها فرقة "المدرسة الأهلية" في البحرين سنة 1933، ولكن باللغة الإنكليزية وعلى شكل اقتباس.
العذراء التي أصبحت بطلة وطنية وقدّيسة
ومن مسرحيات شيلر التي حظيت في العالم العربي باهتمام ملحوظ مسرحية "عذراء أوليانز" Die Jungfrau von Orleans ، فقد صدرت في عام 1928 ترجمة جزئية لها ضمن مجلة "المورد الصافي" بعنوان: "جان دارك عذراء أورليان على الطريقة الرومانية"، وقد أنجز تلك الترجمة شديد حداد. وفي عام 1936 نشرت مجلة "الهلال" المصرية ترجمة جزئية أخرى للمسرحية نفسها بعنوان "عذراء أورليان"، أنجزها نظمي خليل، الذي قدّم فيما بعد ترجمة عربية كاملة لهذه المسرحية، وقد صدرت تلك الترجمة دون تاريخ عن "الدار القومية للطباعة والنشر" بالقاهرة ضمن سلسلة "كتب ثقافية".
أما أحدث ترجمة عربية لمسرحية "عذراء أورليانز" فقد صدرت عام 2004 في الكويت ضمن سلسلة "إبداعات عالمية" التي ينشرها "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب". ونظراً لسعة انتشار سلسلة "إبداعات عالمية" يمكن اعتبار الترجمة العربية لمسرحية "عذراء أورليان" التي صدرت ضمنها أكبر اختراق استقبالي حققه أدب شيلر في العالم العربي.
ماريا ستيوارت وانتقال حقوق النشر
وتمتعت مسرحية شيلر "ماريا ستيوارت" Maria Stuart باهتمام استقبالي عربي ملحوظ. فقد صدرت عام 1964 في القاهرة ترجمة عربية لها، أنجزها المترجم المعروف حلمي مراد عن لغة وسيطة، وبعد ذلك بثلاث سنوات صدرت في القاهرة ترجمة ثانية عن دار "كتابي" ضمن "مكتبة المسرح العالمي"، وقد أنجز تلك الترجمة شوقي محمود. إلاّ أنّ "دار البشير" في دمشق وبيروت، التي تنشر سلسلة كتب بعنوان "روائع الأدب العالميّ"، حصلت عام 1998 على حقوق الترجمة والنشر المتعلقة بهذا العمل المترجم، فأعادت طباعة مسرحية "ماريا ستيوارت" بترجمة حلمي مراد. واليوم فإن هذه الترجمة التي تمّت عن لغة وسيطة هي مؤلَّف شيلر الوحيد المتوافر في المكتبات السورية واللبنانية، وربما في المكتبات العربية كلها، وتلك إحدى المفارقات الكبيرة في تلقي أدب شيلر في العالم العربي.
يوسف وهبي يمثّل المتآمر الكبير
ومن مسرحيات شيلر التي قُيض لها أن تُترجم في وقت مبكّر إلى العربية مسرحية "مؤامرة فيسكو في جنوه" Die Verschwörung des Fiesco zu Genua. فقد ترجمها فائق رياض، وصدرت الترجمة في القاهرة سنة 1932 عن "دار المجلة الجديدة" بعنوان "الطاغية الكونت فيسكو". وعرض "مسرح رمسيس" في القاهرة هذه المسرحية، وأدى نجوم المسرح المصري في تلك المرحلة: يوسف وهبي وفاطمة رشدي وأحمد علام أدوار البطولة في ذلك العرض.
ترجمة مسرحيات مقتبسة ومترجمة
ولفريدريش شيلر مسرحية بعنوان "توراندوت" Turandot كان قد اقتبسها عن مسرحية للكاتب الإيطالي كارلو غوزّي Carlo Gozzi (1720-1806م)، حيث نظمها شعراً، وعمّق شخصياتها وطوّرها إلى مستوى الأدب العالمي. ومع أنّ هذه المسرحية، التي استلهمت حكايات "ألف ليلة وليلة"، ليست من أعمال شيلر المسرحية الأصيلة، فقد قامت المترجمة المصرية الدكتورة نبيلة إبراهيم بنقلها إلى العربية، ووضعت لها مقدمة نقدية، وقد صدرت تلك الترجمة سنة 1988 ضمن سلسلة "من المسرح العالمي" الكويتية. وامتدّ الاهتمام العربي بأعمال شيلر المسرحية إلى مسرحية مقتبسة أخرى هي "ابن الأخ بصفته عمّاً" Der Neffe als Onkel، وهي في الأصل لكاتب اسمه ل.ب بيكارد L.-B. Picard، وقد نقلها شيلر إلى الألمانية وإعدادها ضمن ما ترجمه وأعدّه من أعمال أدبية أجنبية. قام الدكتور أمين رويحة بترجمة هذه المسرحية عن الفرنسية، ونشرتها (المطبعة الهاشمية) بدمشق سنة 1950م، كما قام المخرج السوري محمد شاهين بإخراجها في العام نفسه، وعرضها المسرح العسكري بدمشق باللهجة العامّية الشاميّة.
ملاحظات واستنتاجات حول التلقي الترجميّ
إذا أنعمنا النظر فيما تُرجم إلى العربية من أدب شيلر، فإننا نستطيع أن نتوصل إلى بعض المقولات والاستنتاجات، وفي مقدمتها أنّ الترجمة عن لغات وسيطة، كالفرنسية والإنكليزية والبلغارية، قد طغت على تلقي أعمال شيلر ترجمياً في العالم العربي من أوائل القرن العشرين إلى أوائل الثمانينيات من ذلك القرن، حيث بدأت تصدر الترجمات التي قام بها الدكتور عبد الرحمن بدوي والدكتورة نبيلة إبراهيم عن الألمانية. وحتى بعد ذلك لم تنته ظاهرة ترجمة أعمال شيلر عن لغات وسيطة.
ويرجع ذلك إلى ضعف حركة الترجمة من الألمانية إلى العربية، وعدم قدرتها على تلبية الحاجات الثقافية العربية. فلو كانت تلك الحركة قادرة على تلبية حاجة المجتمع العربي إلى تلقي الأدب الألماني، لما قام أحد بترجمة أعمال أدبية ألمانية، كأعمال فريدريش شيلر، عن لغة وسيطة. فهذا النوع من الترجمات ليس أكثر من حلّ اضطراري تلجأ إليه المجتمعات والثقافات عندما لا تتوافر ترجمات تتمّ عن اللغة الأصلية.
كذلك فإن شيلر أديب عالمي معروف في فرنسا وبريطانيا، وحتى في بلغاريا، وأعماله مترجمة إلى لغات هذه البلدان. ولذا فإنّ من الطبيعي أن يقوم المترجمون العرب الذين يتقنون تلك اللغات بترجمة أعمال شيلر عنها. وتمحورت حركة تلقي شيلر ترجمياً حول تعريب أعماله المسرحية، مع إغفال كبير لأعماله الشعرية، وتلك الظاهرة ليست وليدة المصادفة، بل نتيجة لأسباب كامنة في الثقافة العربية الحديثة، التي تأخّر ظهور الأدب المسرحي فيها، وما زالت حركة التأليف المسرحيّ الأصيل فيها ضعيفة، مما أوجد حاجة ماسّة إلى النصوص المسرحية الأجنبية. وإلى اليوم ما زال القسم الأعظم مما تعرضه خشبات المسارح في العالم العربي مكوّناً من مسرحيات أجنبية مترجمة أو مقتبسة.
وعلى ضوء تلك الحاجة ظهرت في العالم العربي سلاسل كتب تتضمن نصوصاً مسرحية أجنبية مترجمة إلى العربية، كسلسلة "من المسرح العالمي" الكويتية، التي توقفت في هذه الأثناء، وحلّت محلها سلسلة كتب بعنوان "إبداعات عالمية". وعلى تلك الخلفية يجب علينا أن نفهم ظاهرة تمحور التلقي العربي لأدب شيلر حول مسرحياته.
عبده عبود
حقوق الطبع قنطرة 2005
عبده عبود أستاذ الأدب المقارن والعالمي في كلية الآداب بجامعة دمشق، ومقرر سابق لجمعيتي النقد الأدبي والترجمة باتحاد الكتاب العرب في سورية. له العديد من المؤلفات.