ازدواجية معايير؟

قتلى وجرحي بعد قصف اسرائيلي لمدينة رفح.
قتلى وجرحي بعد قصف إسرائيلي لمدينة رفح في جنوب قطاع غزة.

وقفت غالبية الدول الغربية مع إسرائيل في بداية الحرب، ورغم الارتفاع الكبير لعدد لضحايا المدنيين في غزة ووسط كارثة إنسانية متفاقمة، إلّا أن التفاعل الغربي محتشم للغاية. فهل تأكدت نظرية "ازدواجية المعايير" التي يلاحق بها الغرب، خصوصا مع مقارنة طريقة تفاعله مع غزو أوكرانيا؟

الكاتبة ، الكاتب:  إسماعيل عزام

في التاسع عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2022، صرّحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن "الهجمات التي تستهدف البنى التحتية المدنية لأجل قطع المياه والكهرباء والتدفئة عن الرجال والنساء والأطفال مع قدوم الشتاء، هي أعمال إرهابية خالصة وعلينا أن نطلق عليها هذا الاسم".

لكن المسؤولة الأوروبية ذاتها، ورغم أن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، أعلن في اليوم الثالث لاندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، قطع كافة إمدادات الماء والكهرباء والوقود عن قطاع غزة، إلّا أنها استمرت في تأكيد أنها تقف إلى جانب إسرائيل دون أيّ تعليق حول مسألة قطع هذه الخدمات الضرورية عن قطاع يعيش فيه أكثر من مليوني إنسان، واضطر فيه عدد من الناس لشرب المياه المالحة.

Here you can access external content. Click to view.

وقف الغرب بشكل واضح مع إسرائيل بعد الهجوم الدامي المباغت، الذي شنته حركة حماس صبيحة السابع من أكتوبر 2022، وأوقع حوالي 1400 قتيل إسرائيلي بينهم عدد كبير من المدنيين فضلاً عن أسر واختطاف أكثر من مئتين. يذكر أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يصنفان حماس بأنها "حركة إرهابية"، وكررت فون دير لاين أن "إسرائيل تملك حق وواجب الدفاع عن نفسها".

لكن السياسية الألمانية فون دير لاين استدركت لاحقاً القول بإضافة أن الرد العسكري الإسرائيلي ينبغي أن يتم "في تناسق مع القانون الدولي الإنساني" في تغريداتها على تويتر، بعد ارتفاع عدد الضحايا المدنيين في الجانب الفلسطيني إثر القصف الإسرائيلي، وهو الرقم الذي تجاوز حالياً 4300 قتيل وآلاف الجرحى، فضلاً عن انهيار شبه تام للقطاع الصحي، دون أن تقدم على أيّ انتقاد، ولو بسيط، لأسلوب الرد العسكري الإسرائيلي.

Here you can access external content. Click to view.

مصادر تحدثت عن شكاوى داخل المفوضية من تجاوز فون دير لاين لصلاحياتها، خصوصاً عندما قامت بزيارة غير مقرّرة لإسرائيل حسب ما نقله موقع "بوليتيكو"، ولم تدع إسرائيل للالتزام بالقانون الدولي الإنساني، ما دفع جوزيف بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، إلى القول إن هذه الأخيرة لا تمثل وجهات الاتحاد في السياسة الخارجية، بل يقررها زعماء دول الاتحاد، ثم وزراء الخارجية تحت رئاسة بوريل.

وكشف موقع إذاعة راديو فرنسا، رسالة معممة من 842 موظفا من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ينتقدون فيها "انحياز" رئيسة المفوضية، وقالوا: "إننا بالكاد نتعرف على قيم الاتحاد الأوروبي بسبب اللامبالاة الظاهرة التي أظهرتها مؤسستنا خلال الأيام القليلة الماضية تجاه المذبحة المستمرة ضد المدنيين في قطاع غزة"، مبرزين إدانتهم لهجوم حماس وكذلك لـ"رد الفعل غير المتناسب من إسرائيل".

تركيز على المساعدات و"ازداوجية معايير"؟

في البداية قررت المفوضية الأوروبية تجميد كل المساعدات الموجهة للفلسطينيين، بعد يومين على هجوم حماس، بمبرّر أن "حجم الإرهاب والوحشية ضد إسرائيل وشعبها يمثلان نقطة تحول" حسب كلام أوليفر فارهيلي، مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون التوسع، لكن بعد ثلاثة أيام تراجعت المفوضية عن هذا القرار إثر انتقادات واسعة من داخل أوروبا، خصوصاً أن القرار اعتبرته أوساط كثيرة قرارا أحادياً، ولاحقاً قرّرت المفوضية مضاعفة المساعدات ثلاث مرات.

لكن هناك أصوات كثيرة تشير إلى أن اختزال الدعم الموجه للفلسطينيين في المساعدات أمر غير كافٍ، وأن على الغرب أن يقوم بما هو أكبر من ذلك، سواء في دعم الفلسطينيين لتأسيس دولتهم المستقلة، أو السعي حالياً لوقف مؤقت لإطلاق النار، وهذا المطلب الأخير ترفضه الولايات المتحدة التي استخدمت الفيتو لمنع صدور قرار في مجلس الأمن، قدمته البرازيل، بسبب ما تراه واشنطن عدم "ذكر حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".

وفي قضية "ازدواجية المعايير"، يحيل مصطفى بيومي، أستاذ الإنجليزية في كلية بروكلين الأمريكية، في مقال على الغارديان البريطانية، على موقف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي شدد أكثر من مرة على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ويتساءل بيومي: "هل سيقول زيلينسكي الشيء نفسه بالنسبة لروسيا على أراضي دولته؟ بالطبع لا. يجب عليه أن يرى أن غزو أراضيه هو أقرب إلى وضع الفلسطينيين"، علما أن زيلينكسي كان قد شبه ظروف بلاده بظروف إسرائيل، قائلاً في الكنيست الإسرائيلي إن البلدين ينالان "التهديد نفسه، أي التدمير الكامل للشعب والدولة والثقافة".

"ازدواجية المعايير" تُتهم بها كذلك الحكومة الألمانية. الصحفي الألماني فابيان شيدلر كتب مقالا بعنوان "غزة: معايير أولاف شولتز المزدوجة"، ذكر فيه أنه كان على المستشار الألماني أن يقول كذلك إنه "يقف بثبات إلى جانب القانون الدولي وضحايا أيّ أعمال عنف، بغض النظر عن جنسيتهم أو عقيدتهم أو لون بشرتهم"، وأن "يدعو إلى إنهاء دوامة التصعيد"، بجانب قوله "نقف بحزم إلى جانب إسرائيل".   

Here you can access external content. Click to view.

لكن شولتس لم يفعل هذا، حسب شيلدر، أحد الأصوات الصحفية الألمانية القليلة التي انتقدت موقف بلاده، وذكر شيلدر إنه إذا وقف المستشار "خلف الحكومة الإسرائلية دون وضع أيّ مسافة، فهو يتخلى  عن القانون الدولي ويتحول إلى شريك في عمل انتقامي غير قانوني يخلف تأثيرات أكثر تدميراً من جرائم حماس".

أصوات حقوقية تتعالى

لكن لا يمكن وضع الدول الغربية في بوتقة واحدة فيما يتعلق بالموقف من الصراع. على المستوى الرسمي، خرجت أصوات من شبه الإجماع الغربي على الدعم المطلق لإسرائيل.

الرئيس الإيرلندي مايكل دانييل هيجينز وجه انتقادات رسمية لرئيسة المفوضية الأوروبية على عدم توازنها، وإيوني بيلارا، وزيرة الحقوق الاجتماعية بالوكالة في إسبانيا (تنتمي لليسار) نددت بشدة بالهجوم الإسرائيلي في غزة، ما دفع السفارة الإسرائيلية في مدريد للاحتجاج، لكن حكومتا البلدين حاولتا البقاء على التوازن في نظرتهما للصراع الجاري.

Here you can access external content. Click to view.

لكن الانتقادات صدرت أكثر من المنظمات الحقوقية. منظمة العفو الدولية التي نشرت تقارير متعددة تنتقد السياسات الإسرائيلية، ذكرت مؤخراً أن هناك "أدلة دامغة على ارتكاب جرائم حرب في هجمات إسرائيلية قضت على أسر بأكملها في غزة"، وأن إسرائيل "انتهكت القانون الإنساني الدولي بما في ذلك شن هجمات عشوائية فشلت في التمييز بين المدنيين والأهداف العسكرية".

وفي التقرير ذاته، ورد تصريح أنياس كالامار، الأمينة العامة للمنظمة التي طالبت "حماس، وغيرها من الجماعات المسلحة، بإطلاق سراح جميع الرهائن المدنيين بشكل عاجل، والتوقف فورًا عن إطلاق الصواريخ العشوائية إذ لا يُعقل أن يكون هناك أي مبرر للقتل المتعمد للمدنيين تحت أي ظرف من الظروف".

كما عارضت الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، مقرها باريس، بشكل كامل "أمر إخلاء المدنيين من شمال غزة الذي أصدرته إسرائيل"، واستنكرت هذه الأوامر بـ"اعتبارها نقلاً قسريًا وغير مشروع للمدنيين"، وطالبت الدول بـ"عدم التواطؤ في الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني".

Here you can access external content. Click to view.

وفي الواقع لا يدرك الغرب وضمنه الولايات المتحدة أن عدم التوازن في معالجتهم لهذه الحرب في الشرق الأوسط يؤثر بشكل كبير على مصالحهم في محاولات عزل روسيا على الصعيد الدولي، خصوصاً أن هذه الأخيرة تحاول اتخاذ موقف لا يتماشى مع الإجماع الغربي ولا يصل كذلك إلى دعم الفصائل الفلسطينية.

ويقول لويس شاربونو، مدير مكتب هيومن رايتس ووتش بالأمم المتحدة لرويترز: "إذا أرادت الولايات المتحدة وبقية الحكومات الغربية إقناع العالم بجديتهم بشأن حقوق الإنسان وقوانين الحرب، فإن المبادئ التي تطبقها بحق على الفظائع الروسية في أوكرانيا، وفظائع حماس في إسرائيل، يجب أن تنطبق أيضًا على استخفاف إسرائيل الوحشي بحياة المدنيين في غزة".

 

حقوق النشر: قنطرة 2023