المسيحيون العرب - قلق متراكم وتخويف منظم
تشهد المنطقة العربية تغيرات سياسية لم نشهد لها مثيلا منذ أكثر من نصف قرن. رغم ذلك فإن الكثير من المسيحيين العرب يبدون قلقا كبيرا ويتخذون مواقف متحفظة من الثورات العربية. لماذا؟
طارق متري: أنا من الذين يقولون أن القلق شعور مفهوم وممكن النقاش في أمره. هناك قلق مسيحي متراكم، تزايد في العقود الثلاث الأخيرة لأسباب كثيرة: تناقص أعداد المسيحيين، الهجرة، ما حصل في العراق والذي أدى إلى هجرة الكثير من المسيحيين وإلى الاعتداء على الكثير منهم أيضا، ما حصل في لبنان من تراجع النفوذ المسيحي في الحياة السياسية اللبنانية وأسبابه كثيرة وليس تناقص أعدادهم سببه الوحيد، الهجرة من فلسطين، عدد المسيحيين في القدس أصبح دون 10000. كل هذا أسبابه متعددة والمسؤولية عنه يتشارك فيها كثيرون. والآن حصل تغير كبير غير متوقع في العالم العربي، ثورات بالمعنى الحقيقي للثورات والقيم التي تنادي بها هذه الثورات معظمها يتصف بالحرية والديموقراطية وكرامة الإنسان.
وكان يتوقع المرء بسبب ما يعرفه عن المسيحيين في هذه المنطقة لا سيما منذ عصر النهضة مطلع القرن العشرين أن ينحاز المسيحيون إلى الثورات بسبب هذه القيم هذه التي تحركها. تجاوب قسم من المسيحيين لكن قسما آخر كان متحفظا وهناك فئة قليلة معادية أيضا. سبب التحفظ هو هذا القلق المتراكم القديم الذي زرع عند فئة من المسيحيين شكا في كل ما يجري وعدم ثقة بفرص التقدم في الوطن العربي. نلاحظ نوعا من الاستسلام أمام فكرة التقهقر الدائم. هناك نوع أنا أسميتها "الخيبة المستعجلة". ومنذ أن تبين لا سيما في مصر أن الحركات الإسلامية قد تكون الجهة الأكثر شعبية بين المصريين وبالتالي قادرة على الفوز بأصوات أكثرية الشعب المصري. ومرشحة أن تحكم البلاد، زاد هذا القلق. يضاف إلى ذلك الخوف من حرب اهلية في سورية.
ولكن ألا تلاحظ أيضا استغلالا لهذا القلق؟
متري: نعم، هناك استغلال. ما يقلقني أن المسيحيين تعرضوا إلى عملية تخويف مهندسة منظمة مسيسة لمصلحة الأنظمة، لا سيما في سورية. لنكون أكثر صراحة. نرى آل الأسد في سورية يخيف المسيحيين ثم يطمأنهم، يخيفهم من مواطنيهم المسلمين، من أن هذه الثورة سوف تكون إسلامية في آخر المطاف وأنها في الأساس إسلامية. يقول أنا الدرع الواقي لكم، أنا أحميكم من هؤلاء. ووقع بعض المسيحيين بسبب ذلك القلق ضحية للتخويف. لكن أنا أيضا يهمني أمرآخر لا علاقة له بالقلق ولا بالتخويف، له علاقة بالرؤية، رؤية المستقبل والأمانة للذات. أنا أحسب أن المسيحيين العرب لا سيما في القرن العشرين أصبح عندهم نوع من الوعي ولعبوا دورا كبيرا في المنطقة. يحرك هذا الدور مجموعة من القيم الكونية، قيم مشتركة تجمع المسيحيين والمسلمين ولا تضع الأقلية المسيحية في مواجهة الأغلبية الإسلامية. حين اختار المسيحيون أن يكونوا وطنيين أو قوميين أو اشتراكيين أو مناضلين من أجل حقوق الإنسان أو من أجل حقوق المرأة، وحين كانت كنائسهم ومؤسساتهم التربوية والاجتماعية تخدم المجتمع بقطع النظر عن الانتماءات الدينية، وراء كل ذلك كانت رؤية تريد النهوض بالمجتمع ككل. هذه الرؤية تقوم على المصائر المرتبطة بين المسلمين والمسيحيين، ليس مصير في مواجهة مصير.
ماذا حدث إذاً؟
متري: أنا أسميه نكوصا، رجوعا إلى الوراء. أسميه خروجا عن دورهم التاريخي، الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر واستمر طيلة القرن العشرين. أسبابه كثيرة: تناقص الأعداد، الهجرة، الخوف من الحركات الإسلامية المتطرفة، علما أن الحركات الإسلامية المتطرفة مشكلتها مع المسلمين الآخرين أكثر مما هي مع المسيحيين. هناك فشل الدول العربية الحديثة وهو شعور يشترك فيه الكثير من المواطنين مسلمين ومسيحيين، شعور بالفشل المرير. اخفقت كل الانظمة في تحقيق الوعود التي أغدقتها على شعوبها. أحيانا هناك فئة في المجتمع خيبتها أقوى من خيبة سواها ولا سيما أن إمكانيات الهجرة كانت في وقت معين متاحا أكثر من غيرها. هذا أدى غلى نوع من الاستقالة، من العزوف، نوع من الانطواء على الذات. طبعا صعود الحركات الإسلامية أثر بعض الشيئ ولو ان الحركات الإسلامية لم تهدد المسيحيين بشكل مباشر، إلا أن لغتها طغت في الحياة السياسية والاجتماعية. هذا جعل المسيحيين أكثر ميلا للحذر مما يخبئه المستقبل لهم.
نسمع منذ بداية الثورة السورية تصريحات من شخصيات كنسية لبنانية وسورية تعلن ولاءها ودعمها للرئيس السوري. كيف تفسر هذه التصريحات؟
متري: صحيح هناك رجال دين ممن وقعوا في أسر هذا الخوف المنظم المستثمر من قبل الأنظمة السياسية ووقعوا فريسته وبات هاجس البقاء الأقلوي يطغى على ما سواه، بما في ذلك على المسؤولية الأخلاقية. أعتقد أن رجل الدين المسيحي أو المسلم أو أي رجل دين آخر لا يستطيع التنصل من واجباته الأخلاقية. حين يجد أمامه جريمة ضد الإنسانية، يجب أن يسمى الجريمة جريمة وأن تكون عنده إدانة أخلاقية. لسوء الحظ هناك من أعمى الخوف أبصاره حتى أنه بات غير قادر على اتخاذ مواقف أخلاقية مما يجري. ولكن لا يجوز التعميم. انا أعرف عددا كبيرا من رجال الدين على كل المستويات الذين لا يوافقون على الإطلاق على هذا الموقف الخائف. لكن هناك بعض الشخصيات صوتها عال وقد سُمعت هنا وفي الغرب ولكن لا يمثلون كل المسيحيين. الأمور تتغير، عندنا في العالم العربي هناك نوع من تسارع التاريخ، ما كان متعذرا أمس أصبح ممكنا اليوم. ما جرى في مصر وتونس وليبيا وسورية لم يتوقعه أحد!
ماذا تطلب من المسيحيين العرب؟
متري: المسائل مفتوحة وليست مغلقة. شارك مسيحيون في الثورة المصرية مثلا، شارك الأقباط بنسبة عالية. كانت القيادات الكنسية خائفة وتنصحهم بالحذر وهم كانوا يتجاوزن حذرها. ، لكن تحتاجين أيضا إلى أطر للمشاركة. في المرحلة الثورية قد لا تكون الأطر متوفرة. يعني لو كنت مسيحية سورية ضد النظام، فمن الصعب أن تذهبي إلى مسجد خالد بن الوليد في حمص مثلا والتظاهر يوم الجمعة، هذا ليس مكانك. تفتقرين أحيانا إلى الوسائل التي تسمح لك بالتعبير سياسيا عن مواقفك. بسبب طبيعة الأنظمة القمعية لا توجد مساحات للعمل السياسي الوطني التي يلتقي فيها الناس من مختلف انتماءاتهم السياسية. هناك ارتداد لمواقع تقليلدية للتجمع والتظاهر. فطبيعة الحال حين يكون المسجد هو مكان التجمع والتظاهر، المسيحيون الذين يشاركون المسلمين نفس الموقف السياسي يصبحون بمثابة مقصيين من المشاركة. ليست هذه هي المشكلة الأكبر ولكن أيضا تؤخذ في عين الاعتبار.
المشكلة أيضا في بلادنا أن مساحات الاختلاط ضاقت، رغم أن ما كان يسمى "حارة النصارى" أيام العثمانيين لم يعد موجودا، هناك الآن اختلاط في السكن. لكن يبدو في السنوات الماضية، أنا أتحدث كلبناني، ولكن هذا صحيح أيضا في مصر وسورية، ألاحظ أن المسيحيين يعيشون بجوار مسيحيين آخرين، يرسلون أولادهم إلى مدارس مسيحية، يعملون في مؤسسات مدراؤها مسيحيون. لم يكن هذا الحال أيامي. هناك أسباب كثيرة، في لبنان بسبب الحروب، في مصر هناك تشدد ديني وطائفي لدى المسلمين والمسيحيين أدى إلى انحسار هذا الاختلاط. كل ذلك ظهر الآن عند مراحل التغيير. كل مشكلات المجتمع تنفجر دفعة واحدة.
طرحَتَ فكرة النهضة والدور المحوري الذي قام به المسيحيون خلال هذه الحقبة. هل من الممكن استعادة هذا المشروع اليوم؟
متري: أنا لم أتحدث عن المشروع بقدر ما تحدثت عن القيم. لأن المشروع كان قوميا وحديثا. المشروع القومي العربي أخفق ومشروع الحداثة تأزم، فاستعادة مشروع النهضة ليس مسألة سهلة. ولكن مشاركة المسيحيين في عصر النهضة مشاركة فاعلة كانت تقوم على فكرة كونية. قيم العدالة والمساواة للجميع، تحرر المرأة، حرية البحث العلمي تؤدي إلى تقدم المحتمع ككل. فكرة إعطاء الكوني أهمية أكبر من الخصوصي، هي الفكرة التي علينا أن نستعيدها. لأكون صريحا أكثر. خرج المسيحيون من نظام الملل العثماني الذي كان يحجر عليهم، كان لديهم حقوق وحريات ولكن كانت أشبه بطوق. كُسر هذا الطوق عند سقوط الدولة العثمانية وبداية قيام الدول الحديثة. فالمسيحيون أحسوا أن استكمال كسر هذا الطوق يتم ببناء أوطان تقوم على، لا أقول على العلمانية، تقوم على هوية تجمع الأقلية والأغلبية، كانوا يحلمون بعصر تذوب فيه الفوارق بين الأغلبية والأقلية، لا أن يحجر عليهم في زاوية كانت تسمى جغرافيا "حارة النصارى" والآن تسمى "أقليات". لا أحب هذا المصطلح لتأثري بحركة النهضة. حاول المسيحيون الخروج من قوقعة الأقليات. هناك كثيرون يعرفون أن لا خيار لهم في المستقبل إلا هذا ولو أن هذا بدا لهم صعب التحقيق. الخيار الآخر هو ماذا؟ الهجرة أو الإنكفاء؟
أصدرت مشيخة الأزهر بالتعاون مع بعض المثقفين وثيقة "عن منظومة الحريات الأساسية". ما رأيك بهذه الوثيقة؟
متري: مشيخة الأزهر كانت في خدمة السلطة والآن أصبحت تستعيد استقلالها. في مصر السلفيون ولكن أيضا بعض الأخوان المسلمين لا يقيمون أي وزن لأي من هذه القيم التي تنادي بها وثيقة الأزهر، مثل حرية الاعتقاد ليس فقط الحرية الدينية، حرية الاعتقاد أي حرية الكفر، حرية الابداع الفكري والفن. هناك من يطالب بإحراق الكتب، بمنع السينما والمسرح. وثيقة الأزهر تواجه هذا التيار. أنا أرى في هذه الوثيقة جرأة وتجديدا، لم أر وثيقة إسلامية بنفس القوة في موضوع الحريات كوثيقة الأزهر، رغم ما تشير إليه بضرورة احترام الثوابت القرآنية ومراعاة مشاعر المسلمين. إذا التزم الإسلاميون المصريون الذين هم الآن أكثرية برلمانية بوثيقة الأزهر، ستكون مصر بألف خير. أنا لا أريد المبالغة في تعظيم هذه الوثيقة ولكنها الأولى من نوعها تذهب إلى هذا الحد في موضوع الحريات.
أجرت المقابلة منى نجار
حقوق النشر: قنطرة 2012