إحياء القيم الإنسانية العربية...ضرورة للحوار بين الثقافات
كثيراً ما تشير في كتاباتك إلى اِنتمائك الثقافي لمنطقة البحر المتوسط. ما سبب ذلك؟
غازي قهوجي: هناك العديد من المميزات التي تتمتع بها المنطقة المحيطة بالبحر المتوسط. إنها مميزات فريدة من نوعها لن تجدها في أية منطقة أخرى من العالم. فهنا نشأت ثلات حضارات عظيمة الأثر وثلاث ديانات سماوية مازالت تشكل العالم حتى يومنا هذا.
أما هذة الأديان فقد اسست ثلات ثقافات كبرى أسهمت كل منها في ازدهار الأخريين، وأعني بذلك الثقافات اليهودية والمسيحية والإسلامية. لنا نحن شعوب البلدان المطلة على البحر المتوسط أن نفخر بفضل ثقافاتنا على الحضارة الإنسانية.
علينا فقط وضع منطقة البحر المتوسط انطلاقاً من جنوب أوروبا عبوراً بمصر وصولاً إلى الساحل اللبناني تحت مجهر التاريخ لنرى منطقة متنوعة الثقافة وعلى درجة هائلة من التقدم. لقد كانت هناك عروة وثقى تربط بين شعوب البحر المتوسط، وذلك بالرغم من الخصوصية الثقافية لكل شعب منها. لقد جمعت الهوية المتوسطية آنذاك بين ثقافات كافة شعوب المنطقة وجعلتها متحدة في منظومة من القيم الانسانية، لترسي بذلك ركائز لهوية متوسطية جمعية لسكان المنطقة في شتى الأصقاع.
إنها هوية تميزت بالانسانية والحرص على التفاعل والتكامل مع الآخر. في عصرنا الحالي علينا أن نحاول بشتى السبل إحياء هذة الهوية أو على الأقل منظومة القيم الإنسانية التى ارتكزت عليها. فبعدما كان التكامل مع الآخر هو الشغل الشاغل لشعوب منطقة البحر المتوسط تجدنا اليوم في دول الجنوب نفتش عن الوسائل التي تتيح لنا الوصول إلى ما وصل إليه الآخر واللحاق بركابه العلمي والثقافي والاقتصادي.
لقد بات شغلنا الشاغل إقامة روابط مع الآخر الأوروبي دون التلاشى داخله أو الانصهار في بوتقته. وأصبحنا نبحث عن وسائل تمكننا من الاستقلال عن الآخر والتطلع معه إلى ذات النجم في الأفق في نفس الوقت، وأعني بذلك التقدم العلمي والازدهار الثقافي.
أليس من الضرورى أن تعمل أولاً على إحياء منظومة القيم الإنسانية هذه في بلدك لبنان قبل أن تبحث عن وسيلة للتكامل مع الآخر؟
قهوجي: هذا صحيح، لا سيما وأن النزاعات والصراعات الداخلية لن تمكننا أبداً من إحياء المنظومة الإنسانية، بل ستؤدي إلى تحول الإنسانية إلى وحشية. وهو الأمر الذي عنينا منه الأمرّين خلال النزاع الطائفي البشع الذي شهده لبنان خلال الحرب الأهلية. لقد تنازع اللبنانيون حول الطريق المؤدي إلى الله وحول التفرعات المنبثقة من هذة الطريق. يا له من حوار سخيف يبعث على السخرية.
أعتقد أن ثمة طرقاً عدة تفضي إلى الله وليس مسلكاً واحداً فحسب. وأعتقد أن التنازع حول صحة هذة المسارات لن يؤدي أبداً إلى الوصول إلى الله.
تتميز كتاباتك بأسلوب نقدي ساخر في إطار معالجة القضايا المأساوية التي يتعرض لها لبنان والمنطقة العربية على نحو مستمر...
قهوجي: أعشق الكوميديا وأفضل رسم الابتسامة على وجه القارئ بدلاً من إراقة دموعه...
لكنها كوميديا داكنة بعض الشيء... لماذا يميل السواد الأعظم من الأدباء العرب إلى التشاؤم؟
قهوجي: إذا تحدثنا بشكل عام فإن أغلبية الأدباء العرب تميل إلى التركيز على النواحي الإيجابية لبلادهم وشعوبهم وعاداتهم وتقاليدهم. أما أنا فعلى النقيض من ذلك تماماً، فأنا لا أكتب إلا عما هو سلبي. لم ولن أكتب ذات يوم عن أمر أعتبره ايجابياً.
لماذا؟
قهوجي: الإيجابيات من وجهة نظري لا تعدو مجرد بديهيات لا تستحق الذكر. لن تجدني يوماً ما أكتب عن أمر يهلل له الناس فرحاً بينما هو في الحقيقة من مسؤوليات الحكومة أو المجتمع أو الفرد. إنني أهتم بالدرجة الأولى بالنواحي السلبية في مجتمعاتنا فأوثقها وأكتب عنها وأنتقدها حتى النخاع. وفي هذا الإطار أصب جام سخطي على السلبيات والمتسببين فيها، وذلك بأسلوب نقدي ساخر.
لا تزال الثقافة اللبنانية متأثرة بالحرب الأهلية التي شهدها لبنان في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم. هل ساهم في ذلك ما صدر من أعمال أدبية خلال وبعد فترة الحرب؟
قهوجي: إن الثقافات لا تولد من أرحام الحروب وليس هناك ما يسمى بـ"ثفاقة الحرب". إن الحروب لا تأتي سوى بالدمار المادي والمعنوي. هناك بالطبع ما يسمى بـ"أدب الحرب"، إلا أنني أعتبر البيئة المشحونة بالعنف والدم والدمار محيطاً قاتلاً للابداع. لكي يبدع الفنان لابد للحرب أن تضع أوزارها أولاً.
وبمرور الوقت تأخذ الأفكار في النضوج ويتمكن المبدع من الكتابة بموضوعية. لقد لمست ذلك في أعمال كتاب فرنسيين كألبرت كاموس أو جين بول ساتره على سبيل المثال. كلاهما كتب عن موضوعات لها علاقة بالحرب العالمية الأولى لكن بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على انقضائها. ذلك لأن الأمور لا تكون واضحة أو مثيرة للإبداع بالنسبة للكاتب المشارك بصورة مباشرة في الحرب.
هناك فرق كبير بين تسجيل واقعة ما بعد انقضائها أو الكتابة عنها إبان حدوثها. هناك أعمال أدبية وأعمال وثائقية، ويمكن للأخيرة أن تكون في فترة ما بعد الحرب بمثابة أرضية للإبداعات الأدبية في مجال الشعر والمسرح والقصة القصيرة وما غير ذلك.
لقد عانى لبنان خلال فترة الحرب الأهلية من ضعف الإنتاج الأدبي. ولم تشهد سنوات الحرب أعمالاً أدبية مميزة. نعم، لقد كتب كثير من اللبنانيين عن الحرب قبل أن تنتهي إلا أنهم كانوا يعيشون آنذاك في بلاد المهجر. إن من يكتب من خارج الوطن حول أحداث لم يعايشها بنفسه يَبنِ عمله الأدبي في العادة على فرضيات من وحي الخيال أو معلومات مكتسبة من الوثائق أو الأفلام أو الأخبار أو من المأساة الذاتية أو من مآسي الآخرين. لا أعتقد أن الأعمال الأدبية القائمة على أرضية كهذه ترقى إلى مستوى الإبداع.
وماذا عن الأعمال المسرحية اللبنانية الشهيرة التي أُنتجت في لبنان خلال فترة الحرب الأهلية؟
قهوجي: كافة الأعمال المسرحية التي تم إنتاجها خلال الحرب الأهلية هى اليوم في طي النسيان. لقد كانت الأفكار غير ناضجة بعد، لذلك لم تدُم طويلاً حتى خلال السنوات الخمسة عشر للحرب. إن الفن المسرحي على وجه الخصوص في حاجة إلى بيئة آمنه لكي يقدم رسالته.
لقد عايشت الحرب بكافة تفاصليها من داخل وخارج لبنان. في تلك الفترة كنت المدير والمشرف الفني العام لمسرح الأخوين رحباني والسيدة فيروز. وساهمتُ في كافة الأعمال التي عُرضت في مسارح لبنان والأردن وسوريا وبريطانيا وفرنسا ودول شمال إفريقيا ومصر، وذلك بجانب تواجدي بصورة منتظمة في لبنان بطبيعة الحال. إنني أعتبر ما أنتجه الأخوان رحباني في تلك الفترة كمسرحيات "بترا" و"لولو" و"ميس الريم" وغيرها من الأعمال كـ"المؤامرة مستمرة" والحفلات الغنائية مع فرقة السيدة فيروز نماذجَ هامة للغاية للتحدي والصمود أمام ويلات الحرب.
حاوره: علاء الدين سرحان
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013
غازي قهوجي من مواليد صور عام 1945. شغل قهوجي على مدى عشرين عاماً منصب المدير والمشرف الفني لفرقة الرحابنة وأيقونة الغناء الشرقي فيروز. يشتهر غازي قهوجي داخل لبنان وخارجه بمقالاته النقدية ذات الأسلوب النقدي الساخر التي تعالج شتى أوجه الطائفية والأصولية والفساد والظلم الاجتماعي في المنطقة العربية. وفي الفترة ما بين عامي 2008 و2010 تم جمع هذة المقالات وإعادة نشرها تحت عنوان "قهوجيات" في سلسة من ثلاثة أجزاء.