عن «براءة المسلمين» وخجل الإسلاميين
يذكِّر ردّ الفعل الذي يشهده العالم العربي والإسلامي على خلفية بث مقاطع من فيلم «براءة المسلمين» بقضايا مماثلة أدّت إلى موجات شبيهة من الغضب والعنف، كحادثة الرسوم الدنماركية أو دعوة القس الاميركي تيري جونز إلى إحراق القرآن وصولاً إلى القضية الأم، أي كتاب سلمان رشدي.
وعلى رغم الفوارق بين تلك الحوادث (لا يمكن إطلاقاً مقارنة أعمال رديئة هدفها إثارة النعرات الدينية وأعمال فنية تُفهم كإساءة للدين)، يوجد مشترك على الأقلّ في الشكل، يربط بين تلك الأحداث وكأنها محطات متتالية في مسلسل سوء التفاهم بين الغرب والعالم العربي والإسلامي، إن لم تكن حقيقته الوحيدة.
غير أن على رغم التشابه السطحي أو الشكلي بين مسألة فيلم «براءة المسلمين» والقضايا الأخرى، هناك اختلافان مهمان طرآ على ذلك المسلسل. الاختلاف الأول في سخافة الموضوع المطروح اليوم. ففيلم الهواة «براءة المسلمين» ليس عملاً جدّياً يمكن الدفاع عنه بأية طريقة، بل هو مجرّد مادة للاستفزاز لا يتعدى النشر على الإنترنت. وتوجد المئات، إن لم يكن الآلاف، من تلك الأفلام التي تطاول كل المعتقدات، والتي لا يتعدى جمهورها العشرات من المعتوهين. والسخرية أنّه لولا رد الفعل العنيف، لكان اختفى هذا الفيلم في دهاليز الإنترنت، إلى جانب آلاف الصفحات المنسية، التي لا يشاهدها أحد.
رصد تحولات جديدة
وسخافة الفيلم إنما ظهرت في الإجماع الكامل والشامل على رفضه، ما لم يحصل مثلاً مع قضية الرسوم الدنماركية أو سلمان رشدي، حيث كان من الممكن الدفاع عن الفعل المُدان باسم حرية التعبير واستقلالية الإبداع الفني. فلم يبق أحد على هذا الكوكب إلا ونبذ ذاك الفيلم، من الفاتيكان إلى الحكومة الأميركية وصولاً حتى إلى إسرائيل نفسها، حيث وصف الناطق باسم وزارة الخارجية الاسرائيلية الفيلم بأنه «تعصب لا يطاق». فبدا المتظاهرون كغاضبين على لا أحد، يتظاهرون في وجه السفارات الأميركية بوصفها حاكمة العالم، وإن كان من غير الواضح ما يطالبون تلك الدولة بفعله.
ففي العالم الذي نعيش فيه (وهو العالم نفسه الذي يعيش به السلفيون وإن أنكروا تلك الفكرة)، من المستحيل وقف تلك الممارسات، ومن المؤكد أن فيلماً تافهاً آخر سيُنتج كـ «براءة المسلمين». ففي هجومهم على السفارات الأميركية، كان السلفيون النضاليون كأنهم يعترفون بتفوق هذه الدولة، واهمين أنفسهم بقدرتها على وقف التاريخ. وليس من الصعب هنا إظهار البعد النفسي لذاك الهجوم، والبحث المستميت عن أب جبّار في أروقة السفارات.
لكن التحوّل الثاني، والأهم، يطاول سياق حفلات العنف هذه. فمنذ قضية سلمان رشدي وصولاً إلى قضية الرسوم الدنماركية، والعالم العربي والإسلامي ضائع في متاهات الصراع الحضاري والثقافي، الذي غالباً ما شكّل ترياقاً للحياة في مجتمعات قابعة تحت قمع عسكري. وهذا السياق تحوّل (أو على الأقل، نتمنى أن يكون قد تحوّل) مع الثورات العربية وأفقها الديموقراطي.
أسئلة مطروحة
إن حدوث مثل تلك الحادثة في مجتمعات تحررت من القمع وبدأت مسيرتها المفترضة نحو الديموقراطية يطرح عدداً من الأسئلة، بصرف النظر عمّا إذا كانت تلك الهجومات مدبّرة من القاعدة أو عفوية.
السؤال الأول مستوحى من التساؤل الوجودي لوزيرة خارجية الولايات المتحدة هيلاري كلينتون عندما صرّحت: «أسأل نفسي كيف يمكن ان يحدث هذا في بلد ساعدناه على التحرر، في مدينة ساعدنا على إنقاذها من الدمار؟ هذا السؤال يعكس ببساطة مدى التعقيد وأحياناً مدى الارتباك الذي يمكن ان يكون عليه العالم». فإذا كان جوابها كوزيرة خارجية دولة غربية «ديبلوماسياً»، فهذا لا يلغي أن السؤال الفعلي موجّه لأبناء تلك المنطقة، وهو لا يمكن أن يكون «ديبلوماسياً». فإذا قرر الليبيون أو غيرهم الانفتاح على العالم واتباع البراغماتية في سياساتهم الدولية وقبول دعم الناتو لثورتهم، فلا بد من البدء بتحديد نمط علاقة جديدة مع ذاك الغرب. النفاق الذي ساد أيام القمع، أي الانفتاح الأمني على الغرب والكره الثقافي له، لم يعد مقبولاً أو حتى معقولاً في زمن الديموقراطيات.
أما السؤال الثاني، فيطاول موقف الأكثرية في الدول الاسلامية، التي لم تتظاهر، ممّا حدث. الموقف الأكثر تقدّماً الذي صدر كان إدانة للحدث ولرد الفعل في آن، وكأنهما متساويان. وهنا الخجل تجاه خطاب السلفيين. فكأن الرسالة هي أنهم على حق، لكن ردود فعلهم أكثر (بعض الشيء) من المطلوب. فإذا كان هذا سقف النقاش، فقد انتصر السلفيون، وإن تمّت إدانتهم اللفظية. فالموقف الذي لم نسمعه هو رفض ذاك العنف فقط، من دون تبرير أو تفسير أو تلفيق.
إعطاء هذا الفيلم أية قيمة هو إهانة للعقول كما أن مساواته بموجات العنف إهانة للأخلاق. إنه لا شيء، وطالما ان اللاشيء سيحركنا أكثر من كل مصائبنا الفعلية، فلا ديموقراطية ولا كرامة ولا ثورات عربية. وما تساؤل بعض الثوار السوريين عن العزة المستجدّة لتلك الحركات الاحتجاجية، وسكوتها التام على القتل اليومي في سورية، سوى الدليل الأكبر على هذا السقوط الأخلاقي والمنطقي.
بداية مرحلة الرشد السياسي
هذا كله للقول إنه مع الثورات العربية وبداية مرحلة الرشد السياسي، لم يعد من الممكن التعاطي مع تلك الأحداث وفقاً للنموذج القديم القائم على لوم الغرب وكأنه الفاعل السياسي الوحيد، واعتبار السلفيين أن مشكلته لا علاقة لنا بها. فالتبريرات والتفسيرات القديمة، كمقولة القمع المولّد للعنف أو التمثيل الضعيف لتلك الحركات، لم تعد تفيد في عهد إعادة اكتشاف الداخل وتحدي الديموقراطية. فالثقافة الضدية المطلقة أصبحت عبثية: إنه اللا-حدث الذي حركنا ضد لا-أحد في انفجار من العنف اللا-محدود.
تلك الأسئلة في عهدة من انتصر في اللعبة الديموقراطية، أي الإسلاميين، أو من بدأ يعرِّف نفسه كإسلامي معتدل في وجه السلفيين الغاضبين على المطاعم الأميركية. غير أنّ خطر السلفيين ليس في قدرتهم على الانتصار في الانتخابات والسيطرة على النظام السياسي، كما يروّج من يحاول تجديد الابتزاز القديم القائم على قضية الإسلام السياسي، بل في قدرتهم على السيطرة على الخطاب السياسي. فالحركات السلفية تشبه في طريقة عملها اليمين المتطرف في أوروبا أو حزب الشاي في الولايات المتحدة، وخطرها هو في قدرتها على تحديد عناوين الخلاف السياسي وعلى التأثير في أداء الأحزاب الأكثر اعتدالاً. هكذا دخل مثلاً الخطاب الديني على الانتخابات الأميركية، أو الخوف من الهجرة على السياسة الأوروبية.
وعلى رغم ضعفها الانتخابي، نجحت الحركات السلفية في فرض عناوينها على سياسات الحركات الإسلامية، التي ما زالت تواجهها بخجل من يستحي من اعتداله المفترض وانفتاحه على الآخر المزعوم. ويظهر هذا الانتصار في المحاولات السخيفة للإسلاميين لسحب المبادرة من السلفيين من خلال تبني خطابهم، ليصبح الخلاف معهم على الأسلوب وليس على الهدف.
هذا الخجل هو ما يجعل السلفيين يبدون وكأنهم «الحقيقة» في وجه من ساوم، والإسلاميين الآخرين كمن باع القضية من أجل مكسب سياسي.
فطالما لن يكون للإسلاميين جرأة على رفض ممارسات كهذه واعتبار الفيلم غير جدير بالتعليق عليه، وطالما لن تكون لهم جرأة الاعتراف بالآخر، ليس من باب الضرورة السياسية بل من باب القيمة الإنسانية، وطالما أنهم لن يعترفوا لأنفسهم بأنهم لم يخطئوا عندما وافقوا على أن يكونوا براغماتيين، فسيبقى السلفيون الأقوى، وسيبقى العالم العربي يتحرك على إيقاع مخرج هاوٍ قابع في قبو بيته في أصغر مدينة أميركية. هذه ليست مسألة سياسة أو فقهاً أو أخلاقاً، بل تتعلق بجدية الإسلاميين ورشدهم.
سامر فرنجيّة
حقوق النشر: الحياة اللندنية 2012