رحلة في ظلام الإرهاب.... إبحار في المصير المجهول

أحدث روايات شيركو فتاح التي صدرت مؤخرا بعنوان "السفينة المظلمة" تستعرض قصة شاب ينضم إلى "المجاهدين" ثم يهرب إلى ألمانيا. ولكن -مثل ايديبس في الأساطير الإغريقية- يبقى الماضي يلاحقه. فولكر كامينسكي يستعرض هذه الرواية.

أحدث روايات شيركو فتاح التي صدرت مؤخرا بعنوان "السفينة المظلمة" تستعرض قصة شاب ينضم إلى "المجاهدين"، ثم يهرب إلى ألمانيا ولكن يبقى الماضي يلاحقه. فولكر كامينسكي يستعرض هذه الرواية.

الكاتب الألماني العراقي شيركو فتاح
على خطى إدغار ألن بو وألبير كامو

​​عندما يدور الحديث في هذه الأيام عن رواية مكتوبة باللغة الألمانية عن مغامرات خطرة في عرض البحر وعن مسافرين مندسِّين ومختبئين في الأماكن المخصَّصة لشحن البضائع أو عن ركّاب غرقت سفينتهم ووصلوا إلى جزيرة معزولة، فإنَّنا نشعر من دون إرادتنا بانتقالنا إلى أحداث هذه الرواية التاريخية المليئة بالمغامرات. فإلى هذا الحدّ نتأثَّر بتأكدنا من أمننا ومن حياة الرفاهية التي نعيشها وأخيرًا وليس آخرًا بشعورنا المألوف بأنَّنا على اتِّصال ببعضنا في كلِّ وقت وفي كلِّ مكان، بحيث أنَّنا نكاد لا نستطيع تصوّر أنفسنا نطوف على غير هدًى فوق عوامة هشة في البحر.

ورواية شيركو فتاح "السفينة المظلمة" تتحدَّث تحديدًا عن هذه الأمور "التي لا يمكن تصوّرها" - وهي مع ذلك رواية معاصرة بمعنى الكلمة، تدور أحداثها في وقتنا الراهن. ويصف شيركو فتاح بأسلوب واضح وواثق وقصصي سلس رحلة تيه الشاب العراقي كريم الذي كان فراره إلى الغرب رحلة مليئة بالمغامرات.

في البدء يبدو هذا الشاب السمين وابن صاحب مطعم كردي شخصًا غير مناسب ليكون بطل رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر والمغامرات. وصحيح أنَّه كان يتوق إلى المغامرات في وطنه الريفي المعزول عن العالم، غير أنَّ الأحداث التي تغيِّر حياته وتخرجه في آخر المطاف عن مساره لا تقتحم حياته اليومية إلاَّ في فترة متأخرة.

كريم - كرة يتقاذفها الآخرون

ويتم توريط كريم - وكأنَّه الفيلسوف سمبليقيوس في عصرنا الحديث - في اضطرابات حرب يشتد وطيسها مرارًا وتكرارًا؛ حرب تسيطر على العراق منذ مطلع الثمانينيّات. ويفقد كريم أباه الذي اغتيل أمام مطعمه على يدّ ثلة من أتباع نظام صدَّام حسين. وبعد ذلك بفترة قصيرة يتم اختطاف كريم من قبل "المجاهدين" ويُجبر على المشاركة في اعتداءات دموية؛ ثم يهرب ويصل إلى سفينة شحن كبيرة، ويختبئ في المكان المظلم المخصَّص للبضائع، حيث يهدِّده في كلِّ وقت خطر اكتشافه ومعاقبته.

ويظلّ كريم دائمًا كرة يتقاذفها الآخرون؛ إذ إنَّه لا يستوعب في الحقيقة - مثل سمبليقيوس - ما الذي يجري من حوله، حتى عندما يصل إلى برلين ويتم قبول طلب لجوئه. كما أنَّه يعجز عن تولي شؤون حياته وفعل أي شيء.

"مصير في زماننا المعاصر"

​​في روايته هذه التي كانت مؤخرًا مدرجة على القائمة القصيرة للأعمال المرشحة لجائزة معرض لايبزيغ للكتاب، يستخدم شيركو فتاح مادة حياة بسيطة، ليصوِّر بإلحاح وبشكل جدير بالتصديق مصير شخص في زمننا المعاصر. وفي ذلك لا يُعنى شيركو فتاح بانتقاد الحروب المشتعلة في هذا العالم أو انتقاد أعمال العنف التي تحتقر الإنسان ويقوم بها إرهابيون أصوليون.

وكريم شخص يجب أن يتم فهمه من خلال ذاته، وهو يشبه أكثر ما يشبه شخص الغريب الذي كان الكاتب ألبير كامو Albert Comus أول من أدخله إلى الأدب الروائي.

وكريم مثل ميرسو Meursault بطل رواية "الغريب"، يشعر بالاغتراب عن الناس المحيطين به ولكن الأدهى أنَّه مسؤول عن حوادث مشؤومة مفجعة، فهو يعرِّض أشخاصًا للخطر - غالبًا من دون قصد - ويتصرَّف بأنانية. وهو كذلك "قطعة زجاج في الرمل". بمثل هذه الصفة يصف "معلِّمُه" الذي يعتبر قائد "المجاهدين" الناس الحديثين "الملحدين". و"قطعة الزجاج" هذه يمكن من دون ريب أن تجرح وتصيب عابر السبيل بجراح خطرة.

البحث عن الله والمعنى

وكريم الذي تربى في العراق سابقًا تربية علمانية، يتحوَّل في الرواية بصورة متزايدة إلى إنسان منغلق على نفسه يبحث عن الله والمعنى، إنسان هشّ منعزل - "محرّر ومصاب بندوب في الوقت نفسه"، مثلما يرد في الرواية. وصحيح أنَّ كريم يتوق إلى الرفقة والألفة والحب وأنَّه يبدأ في برلين علاقة مع الطالبة سونيا التي أنقذت حياته بمعنى الكلمة عندما انكسر تحت قدميه جليد بحيرة متجمِّدة، إلاَّ أنَّ هذه العلاقة تبقى سطحية ولا تستمر. فلا عجب من أنَّ المحطة الوحيدة في حياة كريم تكمن في ذلك "المعلِّم" الذي درَّبه في جبال شمال العراق ليصنع منه إرهابيًا.

وتسترجع الرواية مرارًا وتكرارًا تلك الأحداث، لتلفت بذلك انتباهنا إلى أنَّ كريم لم يتخلَّص من الإيديولوجيا التي تحتقر الإنسان وتدركه أيضًا بصورة جادة في برلين وتجعله يفشل على نحو محزن في حياته الجديدة.

تشابه مع أعظم روايات المغامرات الإنجلوساكسونية مثل رواية إدغار ألن بو "مغامرات أرتور غوردون بيم"

​​ولا شكّ في أنَّ تلك المغامرات على متن السفينة والعوامة تمثِّل أقوى فقرات الرواية؛ وفي هذا الفقرات تذكِّرنا الرواية كثيرًا بقصة "مغامرات أرتور غوردون بيم" للكاتب الأمريكي إدغار ألن بو Edgar Allen Poe. يعبر الوصف الدقيق لبعض اللحظات المقبضة عن القدرة العظيمة في أسلوب شيركو فتاح، فهو يستطيع أن يستحوذ على انتباهنا خاصةعندما يتعلق الأمر بوصف أصوات أو روائح غريبة تحت ظهر السفينة أو وصف اقتراب الخطر؛ وتبدو هذه التفاصيل مذهلة وعجيبة وتنطبع في ذاكرة القارئ، في حين أنَّ الأجزاء التي تدور أحداثها في برلين تكاد تنمحي قليلاً من ذاكرتنا، مع أنَّنا نبقى نتساءل بقلق حتى النهاية عن مصير كريم. وكون كريم لا يحصل أخيرًا على أية فرصة، فهذا يعود إلى منطق هذه الرواية القاسية في جدِّيتها والمؤثِّرة وكذلك - مع الأسف - المؤلمة كثيرًا.

فولكر كامينسكي
ترجمة: رائد الباش
قنطرة 2008

قنطرة

الكاتب شيركو فتاح:
روائي الأسفار والحكايات
أمضى الكاتب الألماني العراقي شيركو فتاح سنوات طفولته الأولى في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، حيث ولد لأب كردي عراقي مهاجر ولأم ألمانية. تعلّم الكاتب شيركو أن يقف على مسافةٍ من تجربته الخاصة وأن يمعن التفكير في وجهات نظره في وقت مبكر. فولكر كامينسكي يعرفنا بهذا الكاتب.

حوار مع الكاتب العراقي حسين الموزاني:
حين يفقد الإنسان كل شيء
صدرت مؤخرا عن دار هانس شيلر للنشر في برلين رواية للكاتب العراقي حسين الموزاني باللغة الألمانية بعنوان "إعتراف تاجر اللحوم". في هذا الحوار الذي أجراه معه فولكر كامينسكي حديث عن إشكالية الهوية والإخفاق الذي يحول بطل الرواية الى قاتل.

جولة
استعدادات سوق الكتاب الألماني
الإصدارات الحديثة لدور النشر الألمانية والسويسرية هذا الخريف بمناسبة المشاركة العربية في معرض فرانكفورت تتضمن أعمال كتاب عرب معاصرين بالإضافة إلى التراث العربي. شتيفان فايدنر يطلعنا على أهم الكتب الصادرة