''روك القصبة''......رحلة في موسيقى البوب والاحتجاج في الشرق
لعبت الموسيقى الشبابية دورًا كبيرًا في الفترة التي سبقت ثورات العالم العربي ضد الأنظمة الدكتاتورية. وفي تونس على سبيل المثال كان مغني الراب الشاب حمادة بن عمر، المعروف باسمه الفني "الجنرال"، يوجِّه انتقادات صريحة في نصوص أغانيه إلى الدكتاتور التونسي زين العابدين بن علي. كما أنَّه كان مع الكثيرين كغيره من الموسيقيين الشباب صوت الشباب في تونس ولسان حالهم. فموسيقى الهيب هوب بصورة خاصة كانت تعمل على حشد جيل الشباب، إذ إنَّ كلمات مغني الراب الناشطين سياسيًا تستنكر وتدين سوء الأوضاع الاجتماعية والظلم السياسي والفساد، وبالتالي فقد كانت تعمل كعامل محفِّز لزيادة استياء جيل الشباب. قام الصحفي والباحث في مجال العلوم الإسلامية والسياسية، أريان فاريبورز قبل بدء الاضطرابات الأخيرة في العالم العربي مع نهاية عام 2010 بنشر كتاب مثير للاهتمام تحت عنوان "روك القصبة - موسيقى البوب والحداثة في الشرق" لدى دار نشر بالميرا؛ يسلط فيه الضوء على التغير السريع الذي مرت به الموسيقى في العالم العربي والإسلامي وفي إيران.
البعد السياسي للموسيقى
يؤكِّد أريان فاريبورز على أنَّ الموسيقى في العالم العربي تستخدم أيضًا وبطبيعة الحال للترفيه. ولكن للموسيقى أيضًا بعد سياسي قوي جدًا في الدول المستبدة داخل العالم العربي، مثلما يبيِّن ذلك مثال الموسيقي التونسي "الجنرال". وحتى في أثناء إنتفاضة الخبز في الجزائر عام 1988 ظهرت أيضًا حركة احتجاجات موسيقية، كانت تندِّد بسوء الأوضاع وبالفساد وسوء استخدام السلطة في هذا البلد المغاربي. يقول فاريبورز: "لقد حدث ذلك في عام 1988، والآن يعيد التاريخ نفسه. نحن نعيش ذلك أيضًا في يومنا هذا. وفي السابق كانت موسيقى الراي هي التي أثارت إعجاب الشباب وشكَّلت نوعًا من ثقافة الاحتجاج، والآن تثير موسيقى الهيب هوب إعجاب جيل الشباب العرب المحبطين كما أنَّها تعتبر لسان حالهم".
بيد أنَّ مجموعات موسيقى الهيب هوب مثل المجموعة الجزائرية "م. ب. س." (Le Micro Brise Le Silence "المكرفون يكسر الصمت") لا تهاجم في أغانيها النخب الحاكمة فقط، بل تنتقد أيضًا الجماعات الإسلاموية؛ ففي الجزائر على وجه الخصوص وقع الشعب لعدة أعوام ضحية بين الجبهات في الحرب التي دارت بين الجيش والجماعات الإسلاموية المسلحة. يوجد في العالم العربي والإسلامي وخاصة في إيران الكثير من المجموعات الموسيقية الأخرى التي تعزف أيضًا ألوانًا موسيقية أخرى مثل موسيقى الروك وموسيقى البوب وموسيقى البلوز أو موسيقى الهيفي ميتال. وهؤلاء الفنَّانون الموسيقيون الشباب يستخدمون من ناحية آلات موسيقية تقليدية، ولكنهم يقومون بدمجها من ناحية أخرى في الألوان الموسيقية الحديثة ويبتكرون من خلال ذلك شيئًا جديدًا. وفي لقاءاته الكثيرة التي أجراها مع عدد من الموسيقيين الشباب في بعض البلدان العربية والإسلامية لاحظ أريان فاريبورز أنَّ "هناك الكثير من المجموعات والفرق الموسيقية التي تبقى في الحقيقة محافظة بمهارة فائقة على تقاليدها الثقافية وتظل مخلصة لها، ولكنها في الوقت نفسه تدمج في موسيقاها قدرًا معقولاً جدًا من عناصر الموسيقى الغربية".
الرقابة والبيروقراطية قبضة حديدية
ولكن كثيرًا ما يعتبر هذا المشهد الموسيقي متعدِّد الألوان مثل المخرز في العين، ليس فقط بالنسبة للحكام المستبدين، بل أيضًا بالنسبة للمتديِّنين المتعصِّبين. ولذلك يقوم الطرفان بممارسة ضغوطات على الموسيقيين الشباب الذين يعبِّرون عن إبداعاتهم من خلال الموسيقى. وفي إيران مثلاً تصل الرقابة إلى درجة إجبار الفرق والمجموعات الموسيقية على الإبلاغ لدى دائرة حكومية عن حفلاتهم وإنتاجاتهم الموسيقية.
كما أنَّ حرّاس الفضائل والأخلاق الإسلامية يتأكدون بأنفسهم في الجمهورية الإسلامية من إلتزام الموسيقيين بقواعد معينة وارتدائهم ملابس محافظة في أثناء ظهورهم في الحفلات الموسيقية؛ وعلى سبيل المثال لا يجوز للنساء قطّ الغناء المنفرد، بل فقط في جوقة موسيقية. وبالإضافة إلى ذلك إنَّ مجرَّد استخدام الفنَّانين لأنواع من الموسيقى الغربية مثل الهيب هوب والبانك أو الهيفي ميتال يعدّ أمرًا مشبوهًا بالنسبة للكثيرين من المتديِّنين المتعصِّبين.
ضدّ الاستغلال التجاري
لكن أريان فاريبورز يبرز في الجزء الأخير من كتابه أنَّ هناك أيضًا ضغوطات تجارية كبيرة تواجه الموسيقيين في رفضهم التكيّف معها ولا بدّ لهم أيضًا من مواجهتها للمحافظة على المشهد الموسيقي متعدِّد الألوان. ويقول إنَّ طابع الفنَّانين الأصلي يتعرَّض للخطر من خلال منطق الاستغلال التجاري الخاص بصناعة الموسيقى العالمية التي لا تخضع إلاَّ لقوانين السوق وتقيس قيمة العمل الفنِّي قبل كلِّ شيء بأرقام المبيعات والإعلانات واستراتيجيات التسويق. ومنذ أواخر التسعينيَّات تم تأسيس العديد من قنوات الموسيقى الخاصة مثل قناة تلفزيون روتانا؛ وهذه القنوات حسب رأي فاريبورز لا تنشر سوى "تفاهة موحّدة من ثقافة البوب". ويضيف الكاتب أنَّ الكثير من الموسيقيين يشتكون من هيمنة تلفزيون روتانا وأحاديته الثقافية. حتى وإن خفَّت الآن حدة الرقابة بفضل التغييرات السياسية، فإنَّ الهيمنة المتزايدة لسوق الموسيقى سوف تتعامل مع الموسيقى على أنَّها سلعة ثقافية شعبية. وسنرى إذا كان هؤلاء الموسيقيون الشباب الناشطين سياسيًا سيصمدون في مواجهة هذا الخطر.
إرين كوفرجين
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011