تطرف أحزاب الوسط الحاكمة لأوروبا - ترهيب وهستيريا وتقويض لقيم الديمقراطية
أحداث جارية على حدود الاتحاد الأوروبي مع تركيا تقدم بصورة جلية فرصة للتعرف على حقيقة الإرادة السياسية الأوروبية. فها هي كتائب الشرطة اليونانية على الحدود مع تركيا تطلق الغازات المسيلة للدموع على اللاجئين الراغبين في العبور إلى أوروبا، بعد أن سمح لهم الرئيس التركي إردوغان بتخطي الضفة التركية الحدودية.
ومن ينجح من اللاجئين خفيةً بتخطي السياج الحدودي -أو بعبور نهر إيفروس الحدودي بين تركيا واليونان- تتم مطاردته، ويُلقى القبض عليه، ويُعاد بالقوة إلى الجانب التركي الحدودي. أما أولئك اللاجئون الموجودون قبالة السواحل التركية -ممن يحاولون الوصول إلى الجزر اليونانية باستخدام الزوارق المطاطية- فليسوا أفضل حالاً، إذ يتم ضربهم من قبل بعض "المتحضرين" الأوروبيين، كما قامت وكالة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي -فرونتكس Frontex- بإرسال تعزيزات لمساعدة الحكومة اليونانية.
وما تعبر عنه أوروبا قولاً لا يقل وضوحاً عن أفعالها هذه، فها هو السياسي عن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس -الذي يطمح لقيادة "المعسكر البرجوازي" في ألمانيا ولخلافة المستشارة أنغيلا ميركل في منصبها- لا يتوانى عن توجيه كلامه للاجئين قائلاً: "لا يمكننا الترحيب بكم هنا".
ولتبرير ذلك يعزف ميرتس على وتر الخوف من "فقدان السيطرة"، وهو مفهوم انتشر في أوساط المحافظين الألمان، الذين انتقدوا "سياسة الحدود المفتوحة" للمستشارة ميركل وفقدان الدولة الألمانية السيطرة على حدودها، ويعبر عن ضرورة منع تكرار ما حدث في عام 2015. هذه هي النسخة المختصرة من التطرف، نسخة تتهرب من مواجهة السؤال الحقيقي، ألا وهو: "هل يمكننا أن نعامل هؤلاء البشر بهذه الطريقة؟"!
وفي المقابل، لا يتردد السياسي الأوروبي مانفريد فيبر -رئيس الكتلة البرلمانية للأحزاب المحافظة في البرلمان الأوروبي وعضو الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري- في الخوض في التفاصيل، إذ يُقدِّم خلال مقابلة له مع راديو "دويتشلاند فونك" تبريراً قانونياً لإغلاق الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي في وجه اللاجئين بصورة تامة. وحين سُئِلَ عن إنْ كان يجوز ذلك، أجاب بـ "نعم".
خوف هستيري من "الهجوم الجماعي"
ولدعم أجابته، يستشهد فيبر بقرار صدر مؤخراً عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في فبراير/ شباط 2020. إذ أجازت هذه المحكمة رفض طَلبَيْ لجوء تقدم بهما لاجئان -من مالي وساحل العاج- على الحدود بين المغرب ومنطقة مليلة الإسبانية، دون الاستماع إليهما أو محاولة فهم قضية كل منهما.
يحظر القانون الدولي هذا النوع من رفض طلبات اللجوء. وقد وقعت جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على الاتفاقية التي تتضمن هذا الحظر. وتبرر المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مشروعية قرارها هذا بذريعة أن طالبَيْ اللجوء الأفريقيين حاولا تسلق السياج الحدودي، الأمر الذي من شأنه الإخلال بالأمن وبالنظام العام.
يتبنى مانفريد فيبر تبرير المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان هذا، ويطبقه على الوضع الراهن على الحدود التركية-اليونانية. وبذلك لم يجد صعوبة في الحديث عن "هجوم جماعي" يهدد حدود أوروبا هناك.
وبناءً على ذلك فهو يرى أنه يحق للشرطة اليونانية إطلاق الغاز المسيل للدموع على مَن يهددون الحدود الأوروبية. ويقارن فيبر الوضع على الحدود اليونانية بالمظاهرات في ألمانيا، مشيراً إلى حق الشرطة الألمانية أيضاً في المواجهة بحزم في حال مَارَسَ المتظاهرون العنف.
لكنْ مهلاً! ألا يبدو مصطلح "هجوم جماعي" وكأنه يشير إلى وجود جيش من الغزاة على الحدود يستعد للهجوم على أوروبا؟! غير أن هذا السلوك لم يُقْدِم عليه اللاجئون المقتربون من الحدود اليونانية والمتجاوز عددهم عشرة آلاف لاجئ.
ففي البداية قوبل اللاجئون برفض عبورهم إلى الطرف اليوناني من الحدود، ما أدى إلى وقوع اشتباكات فردية عنيفة بين بعض اللاجئين وعناصر من الشرطة اليونانية، لم تشارك فيها الغالبية العظمى من اللاجئين. وماذا أيضاً عن العائلات التي تضم أطفالاً ممن يقاسون الأوضاع الصعبة هناك؟ لكن بحسب رؤية السياسي المحافظ مانفريد فيبر لدور الدولة، فإن جميع اللاجئين المتواجدين هناك هم مشاركون في هذا "الهجوم الجماعي".
السياسي الألماني البارز فيبر شرح رؤيته خلال المقابلة الإذاعية التي شدد فيها على أن "أولئك ليسوا بضعة أفراد يعربون عن رغبتهم في التقدم بطلب للحصول على اللجوء في اليونان". وفي الواقع تمثل رؤية فيبر رفضا لا لبس فيه لحق كل إنسان في تقديم طلب الحماية. وفضلا عن ذلك فإنه يمكن اعتبار هذا الطرح بمثابة النسخة الأكثر تفصيلاً لتطرف الوسط السياسي، فهى تعتمد على قلب حقيقة الشعور بالذنب، فيصبح المهاجرون هم الطرف الذي بدأ "الهجوم الجماعي"، ما يبرر استخدام القوة لصدهم.
القومية والتطرف يصلان إلى الوسط السياسي الألماني
يدعم سياسةَ العزلة المتطرفة هذه متحدثون باسم الأحزاب الحاكمة في أوروبا، ممن يروق لهم نعت أنفسهم بـ "الوسط". هؤلاء السياسيون يرسلون إشارات مطمئنة إلى القوميين بأنهم يتبنون مطالبهم.
وفعلياً أصبحت أفكار وأطروحات الأحزاب الشعبوية اليمينية -على غرار حزب "البديل من أجل ألمانيا" وحزب التجمع الوطني الفرنسي وحزب المصلحة الفلمنكية البلجيكي وحزب الحرية النمساوي- جزءا من سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الاجتماعي المسيحي الألمانيين وكذلك سياسة كل من المستشار النمساوي سيباستيان كورتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
هذه الأحزاب وهؤلاء السياسيون يعتبرون أنفسهم مدافعين عن مصالح الدولة وهيبتها. ويبقى السؤال -الذي يحتاج إلى إجابة- يدور حول ماهية الدولة التي يتنطعون متفاصحين من أجل تمثيلها: هل هذه ما زالت ديمقراطية؟ يثير هذا التساؤل الشكوك، إذ بدأ بعض مغاوير أحزاب الوسط في نقل مفاهيم الأيديولوجية القومية المتطرفة إلى قانون الدولة.
فالديمقراطية لا تحصر الحقوق الأساسية على شعب ما ضمن حدود دولته الضيقة، مثل حق الحياة وحق العيش بصحة وحق تقرير المصير. وعندما تنكر الدولة الديمقراطية هذه الحقوق الأساسية لكل البشر الذين يعيشون خارج حدودها، فإن ذلك يعني التخلي عن مُثُل الديمقراطية العليا.
فأولئك الذين يحرصون على الاستحواذ على مكاسب الاقتصاد المعولم الخالي من الحواجز، ويريدون إبعاد البؤس واليأس خارج أسوار دولهم وحدودها المحمية بشكل صارم، ليسوا إلا لهاةً، يتلاعبون بالديمقراطية، وكأنهم في روضة للأطفال المدللين الذين يعيشون منفصلين عن الواقع المعاش خارجها. أولئك إما نسوا المعنى الحقيقي للديمقراطية أو لم يتعلموا معناها بالأصل.
من الذي يستخدم اللاجئين كأدوات لتحقيق مصالحه؟
إحدى الأدوات الخطابية الشائعة في المناقشات الراهنة هي الإشارة إلى "توظيف" اللاجئين من قبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. وليس من العسير التعرف على المتطرفين، فهم أولئك الذين ينعتون أنفسهم بأنهم على صواب، ولكنهم في الوقت عينه يعرّون هذا الصواب من مضمونه وسياقه الأكبر.
منذ سنوات يكابد عشرات الآلاف من اللاجئين ظروف الحياة الصعبة في مخيمات اللجوء المكتظة في جزر بحر إيجه اليونانية. وقد تم تشخيص أعراض صدمات نفسية غريبة من الشعور باللامبالاة لدى الأطفال هناك، إلى جانب رصد حالات انتحار لقاصرين. والسؤال هنا: ألا تستخدم أوروبا هذه الجموع البشرية كأدوات؟ الجواب: نعم. فحالة هؤلاء تقدم رادعاً حياً لمن يفكر بالهجرة إلى الاتحاد الأوروبي، والرسالة هنا موجهة إلى كل من يفكر باللجوء إلى أوروبا، وهي: حذارِ! سينتهي بك المطاف في هذا المخيم البائس.
أوروبا تختزل نفسها بفضل سياسة الحدود المغلقة إلى فكرة ضيقة، فكرة يدافع عنها من يعتبرون أن الحرب ضد المهاجرين الضعفاء العزل هي حرب يمكن كسبها. وقد يرى بعضهم في المسألة الوجه الآخر لعظمة إمبريالية سالفة العهد، إلا أنها الوجه المعاكس لأفكار حقوق الإنسان وحرية الفرد والتضامن العالمي. وهي أفكار لم تخترعها أوروبا، إلا أنها طورتها على نطاق واسع، وجعلت منها قيماً منشودة في جميع أنحاء العالم.
أوروبا تشيح بوجهها بعيداً عن الحرب في شمال سوريا
لا ريب في أنّ الوضع الراهن في إدلب يمثل جزءاً من السياق الأوسع للأزمة على الحدود الخارجية لأوروبا. وهو وضع سوداوي يدفع الناس هناك، بحسب روايات شهود عيان، إلى الإيمان المطلق بدنو أجل العالم واقتراب نهايته. لكن أوروبا لا تريد أن يكون لها علاقة بالأحداث السياسية في المنطقة الشمالية من سوريا. وربما تقدم النداءات العديمة الصدى -التي أطلقها وزير الخارجية الألماني هايكو ماس والداعية إلى وقف إطلاق نار في سوريا- دليلاً لمن لا يصدق ذلك.
ورغم محاولات أوروبا التملص من هذه العلاقة فإن الصلة التاريخية بين منطقة إدلب وأوروبا وثيقة جداً. فقبل ثلاثمائة عام من شاعر إيطاليا دانتي أليغييري، وصف ابنُ إدلب الأشهر الشاعرُ والفيلسوف أبو علاء المعري زيارةً إلى الجحيم. ومن يدري، فلربما إذا كرر الشاعر الكبير هذه الزيارة إلى الجحيم فإنه سيقابل هناك فريدريش ميرتس وسيباستيان كورتس وغيرهما من "متطرفي أحزاب الوسط الأوروبية".
شتيفان بوخن
ترجمة: حسام الحسون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
شتيفان بوخن صحفي استقصائي ألماني بارز يعمل لمجلة بانوراما التابعة للقناة التلفزيونية الألمانية الأولى أيه آر دي ARD.
[embed:render:embedded:node:39291]