رواية "على خط جرينتش" لـ شادي لويس.. ما بعد مفترق العالم
تنتهي منها، تُغلق الكتاب وتضعه جانباً وتفكّر في ما بناه الكاتب المصري شادي لويس في روايته "على خط جرينتش"، هذه الأيديولوجيا من الشكل واللغة والصيغة التي اختارها وعلاقتها بما يحدث خارج الأدب، في ما نسمّيه الواقع الذي بات يحمل هويةً مزدوجة أيضاً، بصفته قد يكون افتراضياً.
دفع لويس (1978) في عمله الصادر مؤخّراً عن دار "العين" في القاهرة، بعالم مصاب بالخلل السياسي والاجتماعي والعنصري إلى الرواية عبر سلسلة قصص صغيرة تبدو وكأنّ لا رابط حقيقياً بينها، فقدّم من خلالها صورة لهوية عصرنا ومزاجه المتعصب وأدائه البيروقراطي.
تأتي رواية لويس لتقترح علينا أن لا شيء من حولنا سوى السقم الإنساني الذي يدفعنا إلى أن نهرب من مكان ما، أو ننتمي إلى شيء يبدو لنا محدَّداً؛ هذا المجتمع أو ذاك، ذلك الدين أو هذه الهوية أو تلك، ذلك اللون أو درجة أقلّ منه.
" الهوّة أصبحت واسعة بين صورة المهجر بشكله القديم وما نقرأه في الرواية اليوم"
قلّما تشغل هذه الأمور الناس في حياتهم اليومية العادية إلى أن يشعروا بالتهديد، كأن يكونوا مهاجرين أو لاجئين، مثلما هي شخصيات الرواية، التي بين أيدينا، المشغولة بتصنيف بعضها والتنظير لعلاقة العرق بالطبقة وطبيعة العمل وحتى درجة لون البشرة.
في رواية لويس الثانية، (صدرت روايته الأولى "طرق الرب" عن "الكتب خان" قبل عام فقط)، سبع حكايات أساسية، ومشاهد أكثر منها بُنيت على طريقة المشاهد المسرحية؛ حيث شخصيات بأدوار صغيرة لكنها مؤثّرة. هؤلاء هم المحرّكات المرحة للسرد، تلك التي تخفّف بسرياليتها من وطأة قصص ثقيلة معظم مصائر الناس فيها تراجيدية.
هناك قصّة الراوي نفسه، وغيّاث الشاب السوري الميت من الصفحة الأولى، والسيدة "أ" اللاجئة المشرّدة والمضطربة نفسياً، والجدة بديعة الحاضرة بقوّة، سواء كانت ميتة وتزور حفيدها في الأحلام، أو حيّةً بينما تخسر عقلها بالتدريج للزهايمر، وهناك الخال طانيوس الذي يمثّل في الرواية الجيل الأوّل من المهاجرين، ونايل الجندي المصري الذي لم يعد من الحرب في حفر الباطن، وكايودي مدير الرعاية النفسية والمهاجر من نيجيريا، والذي يستبسل في أن يكون جزءاً من المؤسّسة الرسمية الإنكليزية، حالماً في لحظة العودة إلى بلاده ليبني بيتاً ويصبح الرجل الأبيض فيها.
"مئات الغرباء يموتون وحدهم كل عام ولا يجدون من يمشي في جنازاتهم"
ثمّة أيضاً رجل يقف في مقبرة "رأس الراهبة"، جنوب شرق لندن، يقول إنَّ مئات الغرباء يموتون وحدهم كل عام، ولا يجدون من يمشي في جنازاتهم، في يده باقة من الزهور يناولها للراوي الذي وضع الكاتبُ على كاهله مهمّة ثقيلة وغريبة؛ أن يدفن غياث الذي مات وحيداً على سريره في لندن وليس هناك من يشيّعه.
من هذه المهمّة يبني لويس خريطة مسار الراوي؛ البيت، الوظيفة، المستشفى، الحديقة، مأوى المشرّدين، والمقبرة. وأثناء مهمّاته بين هذه المحطّات (الأماكن الأساسية في الحياة اليومية)، نقرأ وصفاً لـ لندن، لفضائها العام والهايد بارك والوايت شابل وسنتمترية البيوت. ولولا أن المقال لا يحتمل، لكان من الممكن الحديث عن صورة المدينة ووجوهها في هذا العمل، ثمّة لندن البيروقراطية، ويظهر أيضاً طيف جميل لمدينة العمّال القديمة، وتأويلات لعمارتها وشكلها، بل إن ثمّة صورة سياسية للندن الثمانينيات نراها بعين الخالة الأمّية التي أحبّت مارغريت تاتشر من أخبارها على الراديو.
لا يقول لويس شيئاً مفصّلاً في هذا الخصوص، ولا يخوض في كل ذلك، لكنه أيضاً يقول الكثير بعبارات صغيرة هنا وهناك وأفكار تسقط من الراوي في تجواله طيلة النص من مكان إلى الثاني، وبحكايات يترك لك أن تقرأ أسباب التئامها.
"لندن شادي لويس لا تشبه في شيء لندن الطيب صالح"
وصف لندن في "على خط جرينتش" يحيل إلى صورة هذه المدينة كما ظهرت في الكتابات العربية عنها وعن مدن المهجر بالعموم منذ الستّينيات، فبقراءة رواية لويس وروايات أخرى صدرت في السنوات القليلة الماضية، يظهر أن الهوّة أصبحت واسعة بين المهجر بشكله القديم وما نقرأه اليوم، فلندن لويس مثلاً لا تشبه في شيء لندن الطيب صالح.
وربما بات من الممكن اليوم التفكير في أن الرواية العربية المعاصرة المكتوبة في هذا السياق خاصة في العقد الأخير، هي رواية ما بعد الهجرة؛ والتي تكاد تشترك في أنها سرد لا يفكر في العودة أو يتجاهلها كموضوع، وتتبلد فيه الشخصيات ويتباطأ بناء الزمن.
يقابل تجوال راوي لويس أو رحلته الإنسانية التي استغرقت ثلاثة أيام، رحلة أخرى أكثر تعقيداً استمرّت عشرة أشهر، خاضها غيّاث قبل أن يموت، فهو الذي حفر نفقين بيديه؛ الأول ليهرب من سجن النظام، والثاني ليهرب من سجن المعارضة، وقطع البلدان وأربع قارات وعشرات الحدود سباحةً ومشياً، وكادت أن تأكله الوحوش مثلما استطاع أن يصادق الحيوانات، ألا تبدو مغامرة غياث أختاً لمغامرات أبطال الأساطير أوليس أو هرقل، الفرق أن دافعها كان الهروب من الهزيمة والموت وليس بحثاً عن المجد.
ربما تقترح الرواية ضمنياً أنه لو كان هناك من تصوُّر أدبي لواقع إنسان اليوم، فإن له وجهين؛ الأوّل يماثل رحلةً معقّدة للإنسان العادي (يجسّده الراوي)، والآخر رحلة أوليس الأسطورية التي تكرّرت حتى فقدت فرادتها (يمثّلها الشاب السوري غياث).
كأن لويس يقول إن الرحلتين تحدثان في وقت واحد اليوم، إنما بنُسَخ تشبه كل شيء فقد حرارته من حولنا، وكل قصة بردت وكانت فوق عادية في زمن آخر، كل شيء عظيم جرى سحقه في عالم يعيش حالة الطوارئ منذ عقدين من الزمن، ومع بشر خسروا شيئاً حميماً من إنسانيتهم.
من العادي أن يُدفن الغرباء في أماكن مجهولة، غير أن هناك طرقاً أخرى لفعل ذلك يكشفها نص لويس، كأن تدفنهم أحياء بالإجراءات، بالسيستم نفسه، تحت سياسات الأمل التي تقوم عليها أنظمة الرعاية الاجتماعية والنفسية والإسكان، وهذه ليس لديها ما تقدّمه لهم تقريباً سوى الأمل الكاذب، وهذا قد ينتهي بهم إمّا إلى اليأس والقبول بالشرط اللاإنساني الذي يعيشون فيه أو بالانتحار.
يقيم المؤلف تسلسلاً سياسياً لأسباب الموت؛ يعيدنا إلى التسعينيات وحرب العراق ويروح ويأتي إلى أن يقع موت غياث، الناس في "على خط جرينتش" تختفي في الصحراء مثلما تختفي في الزهايمر، وقد تتحوّل إلى رماد في حريق أو نقرأ خبر وفاة من نحبّ في فيسبوك، الناس تختفي طيلة الوقت، تتلاشى في شيء ما، والأحياء مخدّرون عاطفياً ونفسياً، والـ "إنفيرنو" قد يكون موجوداً في مبنى حكومي تعطّلت فيه التدفئة؛ كل شيء كان غريباً وخطراً في ما مضى أصبح عادياً ومبتذلاً في عصرنا؛ في هذه "الما بعديات" المخيفة؛ ما بعد الحرب، ما بعد الثورة، ما بعد المنفى.
نوال العلي
حقوق النشر: العربي الجديد 2019