مساهمة ألمانية إنسانية وإعمارية للموصل المدمرة
يقول نجم عبد الله الجبوري، محافظ محافظة نينوى الجديد في شمال العراق: "أوَّل شيء أريد فعله بناء الجسور، فقد تم تدميرها كلها تقريبًا". تولى نجم عبد الله الجبوري قبل عدة أسابيع سابقة فقط منصب محافظ نينوى ومركزها مدينة الموصل. وهو جنرال في الجيش العراقي عمره ثلاثة وستون عامًا، شارك مشاركة حاسمة في تحرير ثاني أكبر مدينة عراقية من مخالب ميليشيات تنطيم داعش الإرهابية. والآن بات يتعيَّن عليه القيام بمهمة شاقة - أي تنظيم إعادة إعمار مدينة الموصل المدمَّرة تمامًا.
"توجد أضرار جسيمة في مدينة الموصل نتيجة الحرب ضدّ داعش، وهي بحاجة ماسة لإعادة الإعمار". يخبرنا نجم عبد الله الجبوري بأنَّ مليون شخص تقريبًا عادوا يعيشون في المدينة، بينما كان عدد سكَّانها في السابق أكثر من مليوني نسمة. لا يزال الكثير من أهالي الموصل يعيشون في المخيَّمات أو في المناطق الكردية. "لكن الحكومة العراقية تتركنا من دون مساعدات"، مثلما يضيف المحافظ مستسلمًا: لقد قدَّمت الحكومة المركزية في بغداد نحو مائة مليون دولار أمريكي لكلّ محافظة نينوى، مثلما يقول نجم الجبوري: "وهذا لا شيء".
مخذولون من الحكومة المركزية
في الأعوام الماضية منذ تحرير الموصل من جهاديي تنظيم الدولة الإسلامية، قام المهندس فارس نعيم الجنابي بترميم وتجديد - أو بالأحرى وبحسب تعبيره "بترقيع" ألف وخمسمائة وسبعة مباني. غير أنَّ الأموال المخصصة لذلك لم تأتِ من بغداد، بل من ألمانيا. يبدو فارس نعيم الجنابي مستسلمًا قليلاً عندما يقول إنَّه حصل فقط على نحو ثلاثة آلاف وثلاثمائة دولار لكلّ مبنى: "هذا قليل بالنظر إلى حجم الدمار".
كثيرًا ما كان يضطر فارس نعيم الجنابي إلى تخييب آمال الناس عندما كان يخبرهم بأنَّهم لا يستطيعون إعادة بناء سوى غرفة واحدة أو غرفتين. وأحيانًا كان يستطيع فقط - مثلما يُقال - بناء السقف "ليستر تحته الناس"، بعد أن دمَّرته الغارات الجوية. وفي حالات أخرى كان يُعِيد بناء صالة مدخل تم تدميرها بسيارة مفخخة. ولكن مع ذلك فهو يريد مساعدة أكبر عدد ممكن من الناس.
فارس نعيم الجنابي مهندس مدني عراقي من بغداد، يُخيِّم عليه الحزن عندما يصف معاناة ويأس الناس الذين كان يتعامل معهم. ويقول: "لا يزال من الممكن العيش في شرق الموصل. فقد تم هناك تدمير عشرين في المائة من المباني تقريبًا". بينما يبلغ حجم الدمار في غرب الموصل - حيث تمت محاصرة المدينة القديمة طيلة أسابيع من قِبَل ميليشيات داعش الإرهابية ودارت معارك عنيفة - إلى أكثر من ثمانين في المائة.
غرب الموصل لا يزال حقلًا من الأنقاض
ذُكر في مقال تم نشره مؤخرًا في مجلة "بلوس ميديسين" الأمريكية المتخصصة أنَّ في الموصل مائة وثلاثين ألف مبنى تم تدميرها بالإضافة إلى قتل تسعين ألف شخص. لا يزال حجم الدمار واضحًا حتى يومنا هذا - بعد عامين ونصف من تحرير مدينة الموصل من الجهاديين. وفي حين بدأت الحياة تعود ببطء إلى شرق المدينة وعادت المحلات التجارية والمطاعم والجامعة إلى عملها، وبدأ الأهالي يعودون إلى منازلهم، لا يزال غرب الموصل حقلًا من الأنقاض.
المهندس فارس نعيم الجنابي فخورٌ بأنَّه ومنظمته كانوا أوَّل من بدأ إعادة الإعمار في الموصل بعد القضاء على إرهاب تنظيم داعش. في شهر تموز/يوليو 2017، تم الإعلان عن تحرير المدينة، وفي شهر أيلول/سبتمبر من العام نفسه تم إطلاق "البرنامج التوظيفي لإعادة إعمار العراق" (RIRP). على الرغم من أنَّ هذا الاسم إنكليزي، إلَّا أنَّ هذا البرنامج هو منظمة غير حكومية من ألمانيا - وهي المنظمة الألمانية غير الحكومية الوحيدة الموجود مقرها منذ أعوام في بغداد والتي تعمل من هناك في جميع أنحاء العراق. واسمها "Rebuild" يعبِّر عن مهمتها، أي: إعادة الإعمار. كيف يصبح المرء بعد أن يشاهد طيلة أعوام الأنقاض فقط ويعاني من الدمار والبؤس؟ "هذا هو العراق"، مثلما يُجيب فارس نعيم الجنابي، البالغ من العمر تسعة وأربعين عامًا.
"شكرًا ألمانيا!"
هتفت سلمى مرحبةً بنا عندما أحضرنا كرسيًا متحرِّكًا لابنتها: "شكرًا ألمانيا، شكرًا للألمان لأنَّهم يساعدوننا". ابنتها أمل عمرها خمسة عشر عامًا وتعاني من إعاقة شديدة منذ ولادتها: لا تستطيع المشي ولا حتى تناول الطعام بمفردها. ذراعاها أيضًا مُتدليان ومرتخيان إلى أسفل. يقول جار سلمى: "الألمان فقط يعملون هنا"، ويضيف أنَّ دولة قطر توفِّر الأموال لبناء المدرسة. نحن هنا في حيّ الانتصار، وهو واحد من أكبر أحياء الموصل ويقع في شرق المدينة.
يصل عدد الساكنين في مباني هذا الحي البالغ عددها نحو سبعة آلاف مبنى إلى مائة ألف شخص. وهنا يعيش أفقر أهالي الموصل الذين يعانون أصلًا من الفقر. توجد خمس لوحات مختلفة معلقة على هذا المبنى المدرسي الوحيد في المنطقة، الذي تضطر إلى تقاسمه خمس مؤسَّسات تعليمية مختلفة.
خاسرون في الانتصار
وعلى الرغم من أنَّ اسم هذا الحي هو انتصار، إلَّا أنَّ سكَّانه يشعرون بأنَّهم خاسرون. عندما جاء تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، هربت أعداد غير قليلة منهم من الموصل إلى منطقة الحكم الذاتي الكردية وإلى المخيَّمات، التي تم بناؤها من أجلهم. وانتقل مقاتلو داعش إلى المباني الفارغة.
ومع احتدام المعارك على الموصل، شنَّ أيضًا الأمريكيون غارات جوية على هذه المباني والمنازل. لا تزال الأضرار مرئية حتى يومنا هذا. توجد الآن أكوام من الأنقاض حيث كانت توجد في السابق مبانٍ ومنازل. يقول جار سلمى: "لقد قصفوا بدقة شديدة. كانوا يعرفون بالضبط مكان تواجد مقاتلي داعش". وعندما عاد أصحاب المباني إلى أملاكهم بعد التحرير، لم يجدوا سوى الأنقاض والركام.
لكن سلمى وأمل لم تغادرا. وكيف يمكنهما الهرب؟ فقد كان الهرب من المدينة مع بنت معوَّقة أمرًا شبه مستحيل. وعندما بدأ فارس نعيم الجنابي وفريقه بترميم بيتهما لأنَّه تعرَّض لانفجار سيارة مفخخة في الشارع، لاحظوا إعاقة الابنة وأنَّها لا تملك حتى كرسيًا متحرِّكًا. يخبرنا فارس نعيم الجنابي أنَّ هذه حالة من حالات لا تحصى.
وبعدما استنتجوا أنَّهم "بحاجة إلى كراسٍ متحركة من أجل الموصل"، سارعت السفارة الألمانية في بغداد بتقديم الأموال من أجل شراء الكراسي المتحرِّكة. استطاع فارس نعيم الجنابي ورجاله شراء مائة كرسي. وحول ذلك يقول: في البداية فكَّرنا في الأتراك لأنَّ صناعتهم تدوم فترة أطول. ولكن في الموصل لا توجد كراسٍ متحرِّكة تركية الصنع للبيع، ولذلك فقد اشتروا كراسٍ "صنعت في الصين".
تعتبر جمهورية ألمانيا الاتِّحادية حاليًا أكبر جهة مانحة تموِّل العراق. إذ بلغ حجم المساعدات المتدفِّقة خلال الثلاثة أعوام الماضية من ألمانيا إلى بلاد الرافدين أكثر من مليار يورو. من المعروف أنَّ الولايات المتَّحدة الأمريكية وعدت بتقديم مساعدات مالية أكبر، ولكن حتى الآن لم يتم تسليم العراقيين سوى جزء بسيط من المساعدات المالية الأمريكية.
قدَّمت ألمانيا أكبر مساعدة مالية وقد تم إنفاقها على اللاجئين الداخليين البالغ عددهم نحو أربعة ملايين لاجئ: من أجل الغذاء والبنية التحتية في المخيَّمات. وبعد النصر المزعوم على تنظيم داعش في نهاية عام 2017، أصبحت المساعدات المالية ضرورية الآن من أجل إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار.
مساعدة محدَّدة بدل المساعدات العشوائية الشاملة
يتم توزيع الأموال بشكل أساسي من خلال الوزارة الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية ووزارة الخارجية الألمانية. وبحسب تقدير صندوق النقد الدولي فإنَّ إعادة إعمار شمال العراق المدمَّر تحتاج تمويلًا يبلغ ثمانية وثمانين مليار دولار، بينما تحتاج الموصل وحدها ثمانية وعشرين مليار. وفي المقابل حدَّدت ميزانية الحكومة العراقية للموصل مائة وعشرين مليون دولار فقط.
بعد وقت قصير من الانتصار على داعش في شهر تموز/يوليو 2017، كان هناك استعداد كبير لمساعدة هذه المدينة المدمَّرة. ولكن الإدارة كانت تسير بشكل سيِّئ وكان الفساد متفشيًا، ولذلك فقد باتت سمعة الموصل سيِّئة جدًا. محافظ الموصل نجم عبد الله الجبوري هو الرجل الثالث في هذا المنصب. يقول المحافظ معترفًا: "حتى الآن حدثت أخطاء كثيرة". ولكنه - مثلما يقول - يعمل الآن بجد ونشاط من أجل تغيير ذلك.
"نحن بحاجة ماسة إلى شقق سكنية وبيوت جديدة حتى يتمكَّن الأهالي من العودة إلى الموصل. أريد الحفاظ على المباني التاريخية، خاصة في المدينة القديمة. ولكن إذا تم تدمير بعض هذه المباني تدميرًا تامًا، فأنا أُفضِّل بناء مباني سكنية جديدة بتصميم حديث. عرضتُ على أبناء محافظتي أفلامًا من برلين تُظهر كيف تعامل الألمان مع الوضع بعد الحرب العالمية الثانية. بالنسبة لي هذا نموذج يحتذى به. وأخبرتهم عن نساء الأنقاض اللواتي ساعدن في إعادة إعمار المدن، وخاصة برلين. نحن بحاجة إلى الجميع - حقًا جميع القادرين على المساعدة. ولكن الكثيرين ما زالوا متردِّدين".
في الختام أعرب محافظ الموصل عن رغبته التالية: "هل يمكن لألمانيا بناء أو ترميم حيّ أو شارع في شرق الموصل وغربها؟". وأضاف أنَّ ذلك سيكون رائعًا بفضل الخبرة والمعرفة العملية التقنية والمعمارية والاجتماعية التي تمتلكها ألمانيا: ليس على شكل المساعدات العشوائية الشاملة، بل مساعدة محدَّدة، "حتى نستطيع إظهار ما قامت به ألمانيا".
بيرغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020