حين شكلت الجاليات الأجنبية نصف سكان طنجة
اختلفت المدينة عندما افتتحت بها مقاهي جديدة تسُمّى “Salon du the” أي قاعات الشاي التي تستخدم ماكينة ضاغطة لصناعة كوب قهوة أو الشاي. هكذا تعصرنت مدينة طنجة وأصبح لديها مقاهي "شعبية" وأخرى كثيرة جداً ذات صفة عصرية، من بينها يوجد مقهى واحد تحت مسمّى "ثقافيّ" يقبع في المدينة القديمة.
تشيع ثقافة المقاهي على ثقافة حمل الكتاب بمدينة طنجة شمال المغرب، وتشيع على حساب اهتمامات تربي الذوق والسمو الحضاري، فالمدينة تنمو اقتصادياً وعمرانياً بشكل مهول يتجاوز السرعة الطبيعية لنموّ المدن أو الإنسان فيها.
نعود للـ"الزمن الجميل"، وقتما كانت طنجة مدينة دولية حيث شهدت طفرة ثقافية ساهمت بجعلها استثناءً مكانياً حضر في مخيلة كتّاب وفنانين عالميين ومحليين. لم يبقَ أحد منهم تقريبا، بول بولز، هنري ماتيس، ويليام بوروز، محمد شكري وأسماء لا حصر لها تُوُفيَت جميعها، وظلّ إرثهم صورة المدينة المقدسة، البوابة الحقيقية للتعبير عن جوّها الثقافيّ حينها.
"لم أنخرط في المدرسة لكن والدي أورثني حبّ القراءة"
يدعم هذا الإرث ذاكرة جمعية- شعبية ما زالت تمارس سلطة على الواقع الثقافي عند مقارنته بالماضي. لم تنفك المدينة من هذه الذاكرة، يقول الحاج نوفل بوهوت الذي عاش بالمدينة منذ عشرينيات القرن الماضي لموقع قنطرة: "خالفت رغبة والدي في القراءة، فلم أنخرط في المدرسة أو المسجد لأصبح متعلّماً وكنت أفضل الحرية، لكنه أورثني حبّ القراءة عندما كنت أشاهد الكتب معه على الدوام.
أقول لأصدقائي دوما: "لقد أنهيت المرحلة الإعدادية في سينما (ألكازارو كابيتون) نهاية ثلاثينيات الماضي والثانوي في سوق (ادّبرا) والدكتوراه في (سوق الداخل). كغيري بدأت أدخل إلى السينما في سنّ العاشرة لمشاهدة أفلام إسبانية حيث عشقنا المغنية مورينا كلارا، حينها كانت تزدحم القاعة"..."لقد كان جوّ المدينة معرفيّ- ثقافيّ، أغناها تنوع الجاليات والإثنيات وكلّ يحترم عقيدة الآخر، وكان الإسبانيون أكبر وأقدم جالية بعدد يقدر بِخمسين ألف إسباني وهم أول من أحضر الآلات التقنية إلى طنجة بعد الحرب الأهلية الإسبانية سنة 1936، كذلك مارسوا الفلاحة والصناعة والثقافة، وبنوا مسرح سيرفانتس عام 1913، وقد اكتسب منهم المغاربة تقنيات المسرح وشكلوا بدورهم فرقة "صلاح الدين" المسرحية وجمعية خاصة بهم".
"مسرح لمواجهة الهيمنة الغربية والتعبير عن تطلعات الفئات الشعبية"
في سياق تطور الحركة المسرحية، استطاع رواد المسرح أواخر العشرينيات أن يؤسسوا مسرحاً لمواجهة الهيمنة الغربية والتعبير عن تطلعات الفئات الشعبية، يقول أستاذ التعليم العالي بجامعة الملك السعدي، خالد أمين: "بالنظر إلى وضع طنجة الدولي بين 1923 و1956، فقد فرض حالة ثقافية استثنائية في المدينة؛ إذ شكلت الجاليات الأجنبية أكثر من 50% من السكان. وكانت الأنشطة الثقافية والفنية (بما فيها المسرحية) في مجملها موجهة إلى الأجانب، كما برزت إلى الوجود فرق مسرحية مغربية في أواخر العشرينيات، وقدمت عروضاً ممانعة للجمهور الطنجاوي المغربي حينها".
ويضيف: "ومع زيارة الأديب والسياسي اللبناني شكيب أرسلان للمدينة التي تزامنت مع اختلاق السلطات الاستعمارية للظهير البربري، وبروز طنجة آنذاك بوصفها أحد المعاقل المهمة للحركة الوطنية؛ ازداد منسوب المقاومة في الحركة المسرحية بخاصة نظراً لقدرة المسرح على مخاطبة الجمهور الواسع باعتماد نصوص فارقة مثل "صلاح الدين الأيوبي"، بذلك نجد أن الحركة المسرحية بدأت غربية، ولكن سرعان ما تم تملكها واستعادتها من لدن الرواد المغاربة لتصبح سلاحاً ذا حدين: يواجه الهيمنة الغربية من جهة، ويعبر عن تطلعات ومعاناة الفئات الشعبية من جهة ثانية".
المدينة تُعلّم أيضا، فلم يكن تنقصها الكتب أو الصحف التي كانت تصل من مصر ولبنان، يقول الحاج بوهوت: "كنت أتابع كتابات الطنجاوي عبد القادر الشط في جريدة المصري، وكنت أطالع صحف الهلال والمصور والعالم ومجلات إسبانية كذلك، كذلك سلسلة "اقرأ" الصادرة عن "دار المعارف" المصرية والأدب المصري المرافق لبروز طه حسين وتوفيق الحكيم".
نضج ثقافي يختلف من جيل إلى جيل
بين جيل وجيل تعيش طنجة نضجاً ثقافياً مختلفاً، لكل نضج أو فورة سمات معينة، فقد وسم القديم مساهمة الجاليات الأجنبية في تحريك الفعل الثقافي، أمّا آنياً فهي "فورة غير قابلة للاختزال رغم التحديات" وفق أمين، ويوضح: "لم يعد الفعل الثقافي حكراً على المؤسسات الأجنبية فقط، أو بعض المؤسسات والهيئات الثقافية الوطنية، بل أصبح بإمكان جمعيات المجتمع المدني والفاعلين صناعة الحدث الثقافي (المسرحي) بالمدينة، بكل تأكيد، هناك نقص مهول في البنيات التحتية وهذا ما يجعل المؤسسات الأجنبية تبدو أكثر حضورا وفاعلية ومع ذلك، فإننا محكومون بالأمل".
أسس أستاذ التعليم العالي تجربة مسرحية مهمّة أضافت للمسرح المغربي الكثير وتقاطعت مع تجارب أوروبية قائمة على الأرشفة، يقول إن " المركز الدولي لدراسات الفرجة هو في الأصل جمعية غير نفعية من أجل النهوض بالممارسة المسرحية، ننظم من خلالها مهرجان "طنجة الدولي للفنون المشهدية" منذ عقد تقريبا وننشر أعمال ندواتنا ضمن مصنفات جماعية فاقت 50 إصداراً، ونهدف من خلاله إلى مدّ جسور تواصل للحوار مع المعهد الدولي لتناسج ثقافات الفرجة التابع للجامعة الحرة ببرلين، وجامعة لندن بباريس ومع جامعات محلية أيضاً".
تفتقر المدينة لمركز ثقافي أو مسرح تابع لوزارة الثقافة بإمكانه استضافة الفرق الزائرة وتوطين فرق محلية، لكنه "فراغ تغطيه المبادرات الجمعوية"، وفق أمين.
دُور نشر مغربية: من يشتري كتبنا ويقرأها؟
بعيداً عن المسرح، وقريباً من الكتاب، وصل عدد دور النشر التي توجد بمدينة يبلغ عدد سكانها (947 ألف ) نسمة إلى دارين تقريباً، دار "ومضة" ودار "سليكي أخوان" و (32) داراً في المغرب كاملاً. أحد الأخوين، طارق سليكي، يقول لموقع قنطرة: "يمكن القول إن الحركة الثقافية السائدة بالمدينة أفضل مما سبق. إن المرحلة الدولية التي تجاوز فيها كتّابها البقعة الجغرافية وكتبت أعمالهم أو ترجمت إلى أعمال عدة هي مرحلة خاصة. نحن اليوم ليس لدينا من يقرأ بلغات أجنبية، وحتى بالعربية. وتعاني المكتبات من فقر شديد في البيع. وهنا نواجه كدور نشر سؤالا مقلقاً: من يشتري كتبنا ويقرأها؟".
يردف: "يصل الكتاب ليد القارئ فقط من خلال حفلات التوقيع رغم أن الكتاب يصل للمكتبات، لكن عدة سلوكيات تزيد من نسبة بيع الكتاب في الحفلات، منها أن القارئ يريد توقيع الكاتب، أو قادمٌ مجاملةً أو ليستفيد من الخصم".
"لا يمكن استغباء القارئ" وهو الأمر الذي يزيد من التحديات أمام دور النشر، يقول سليكي: "لقد قللنا من نشرنا للإبداع، خاصة الشعر، الناس لم تعد تثق بالشعر لما يتطلبه من بلاغة ومعرفة باللغة، نركز على إصدار الدراسات النقدية والفلسفية والصوفية والروايات". يردف: "نحن مرهونون بالسوق أيضا، توجد كتب ذات جودة جيدة لكنها لا تباع".
أصدرت "دار سليكي أخوان" خلال عام 2016 حوالي (12) كتاباً لكتّاب طنجاويين يكتبون في مجالات مختلفة، إلّا أن تحدياً آخر يواجه إصدار الكتاب يتمثل في "إيمان القارئ بالجديد".
"إقبال بائس على الكتاب المحلي"
تساهم وزارة الثقافة المغربية بدعم الكتاب مادياً من خلال دور النشر بحوالي (50%)، وبهذا أصبحت حصيلة دار "سليكي إخوان" تصل إلى (30) عملاً سنوياً، رغم ذلك يعاني بيع الكتاب من كساد كبير ولم تسعفه الجوائز الكبرى التي يحصل عليها، يقول سليكي: "حصلنا على جائزة المغرب للكتاب مرتين، للمؤلف عز الدين التازي، والكاتب محمد طريبق، بالمقابل لم تتجاوز مبيعات كتبهم 500 نسخة، كذلك رواية "رسائل زمن العاصفة" لعبد النور مزين التي وصلت اللائحة الطويلة للبوكر العربية لكن لم يُبَع منها سوى 1500 نسخة".
ويعزو سليكي ذلك إلى "الإقبال البائس للمغربي على الكتاب المحلي، كذلك هيمنة هيئات التوزيع بالمغرب والتي تفتقد إلى استراتيجيات توزيع الكتاب بحسب اهتمامات القارئ"، يقول: "المغرب يشكل حالة استثنائية من ناحية المقاهي التي يدفع فيها الشخص يورو ونصف مقابل كاسة قهوة على أن يشتري جريدة بأقل من نصف يورو"، "ندفع باتجاه التشجيع على شراء الكتاب من خلال رمزية ثمنه التي تصل إلى أربعة يورو، لكن مشاكل الفقر والأمية والجهل المركب دفعت حتى بالطبقة المثقفة إلى عدم القراءة".
يقول سليكي: "نحن نخاف من الكتاب ومن فكر الآخر ومن الاعتراف ونمارس الإقصاء. نحن بحاجة إلى التكتل والاختلاف ضمن إطار واحد وليس مجموعات أو مبادرات متفرقة تؤسس للديكتاتورية".
يظل التباس القارئ/الجمهور ناحية الفعل الثقافي محطّ سؤال ورغبة في الكشف عن عدم حالة الرضا التي يعيشها المتتبع للشأن الثقافي أدت إلى انعزال البعض. يجد خالد أمين بأنّ "الالتباس أمر عادي، بقدر ما يوجد تنوع في الفعل الثقافي؛ هناك أيضا جماهير مختلفة، الكل يعبر عن آرائه وقناعاته بحسب قدراته على التحليل واستيعاب الأشياء وميولاته، مع ذلك، هناك بعض المزاجيين الذين لا شغل لهم سوى ترصد أخطاء الآخرين للاكتفاء بانتقادهم".
تتنفس المدينة الصعداء بعدما عاشت فقراً مهولاً بالبنيات التحتية الثقافية، إلّا أن الكساد الثقافي هو السائد، لذلك عندما أطلق مشروع "طنجة الكبرى" الاقتصادي والسياحي عام 2011 رافقه اهتمام بمكانتها الثقافية على مستوى البنيات، ففي الأحياء البعيدة بدأت تتأسس نقاط للقراءة ومكتبات ونوادي تشجع الشباب على للقراءة الثقافة وتعزيز إمكانيات المرأة كذلك.
"مصالحة طنجة مع قديمها من خلال إعادة إحياء معالم تاريخية"
يقول المدير الجهوي للثقافة محمد تقال لموقع قنطرة: "يهدف المشروع إلى مصالحة طنجة مع قديمها من خلال إعادة إحياء بعض المعالم التاريخية ذات الأبعاد الثقافية والاقتصادية، كتأهيل مغارة هرقل وفيلا بيرديكاريس فضلا عن ترميم سور المدينة، وهي معالم ذات التقاء حضاري تدلل على التعايش الذي شهدته المدينة، كذلك سجلّنا 200 معلمة تاريخية وثقافية بالمدينة للإشراف عليها"، يؤسس المشروع كذلك لإنشاء بنيات تحتية منها قصر الثقافة والفنون الذي يضم ثلاثة مسارح وأروقة للمعارض، وإنشاء المكتبة الوسائطية بطنجة، وإنشاء بنيات ثقافية صغيرة ومتوسطة في الأحياء البعيدة.
وتنشأ هذه المؤسسات من "سياسة القرب" التي تنتهجها المديرية الجهوية لطنجة- تطوان- الحسيمة، إذ تشرف على أكثر (470) مؤسسة ثقافية موزعة بين مكتبات (42 مكتبة بالجهة) ومتاحف ومواقع أثرية، كذلك تؤدي المديرية الجهوية للثقافة مهمة دعم المنتجين الثقافيين من خلال وزارة الثقافة، على عكس مراكز البعثات الأجنبية مثل المركز الفرنسي أو الإسباني أو الأمريكي المتواجد بالمدينة التي تقوم بتنشيط الثقافة.
تثير بعض المؤسسات الثقافية أو التي حملت اسماً لكاتب ما كمؤسسة "محمد شكري" ومؤسسة "بوكماخ" الحديثة والتي كان يجب أن تكون معهداً موسيقياً؛ سجالاً حول مهمتها الثقافية ومصادر تمويلها، فقد شكلت "بوكماخ" جدلاً واسعاً حول تلقيها لثلاثة ملايين يورو موزعة على ثلاث سنوات وهي مؤسسة لم تنتهِ فيها بعد أعمال البناء، يقاس عليها مؤسسات أخرى فتحت أبوابها لكن مناسباتياً شأنها أن تحيي أحد كُتّاب المدينة دون أن تضيف أو تراكم رصيداً ثقافياً خاصاً بها، أو يضيف للجمهور.
واستعدت المديرية الجهوية خلال عام 2017 لتجهيز قصر الثقافة والفنون وترميم سجن القصبة وتحويله لمركز ثقافيّ، وإطلاق مبادرات مسرحية موجهة للأطفال، كذلك إعادة النظر بالمعهد الموسيقيّ بطنجة لما يعرف من اكتظاظ ومشاكل في الانخراط بصفوفه.
وصال الشيخ- طنجة - المغرب
حقوق النشر: موقع قنطرة 2018