من يفرض إرادته في الجزائر؟ الحراك أم نظام ما بعد بوتفليقة؟
بعد مرور عام على بدء الاحتجاجات الجماهيرية المستمرة فإنَّ النظام الجزائري - وعلى العكس من العديد من التوقُّعات - لم يَنْهَرْ ولم يلجأ إلى استخدام العنف المفرط على نطاق واسع. ومع ذلك فإنَّ الوضع في الجزائر لم يهدأ بعد. ولم تغيِّر في ذلك أي شيء أيضًا عمليةُ انتخاب الرئيس الجديد عبد المجيد تبون المثيرة كثيرًا للجدل في شهر كانون الأوَّل/ديسمبر 2019. من المعروف أنَّ هذا الرئيس الجديد وأطرافًا من حكومته كذلك ينحدرون من بيئة الرئيس السابق بوتفليقة، كما أنَّ هناك الكثير مما يشير إلى أنَّ النخب العسكرية لا تزال تسيطر مثل ذي قبل على مركز السلطة أكثر من الرئيس.
يواصل في الوقت نفسه عشراتُ الآلاف من الجزائريين والجزائريات الاحتجاج بسلام كلَّ أسبوع من أجل انتقال ديمقراطي وسيادة القانون، وضدَّ الرئيس الذي ينظرون إليه بصفته رئيسًا غير شرعي، وكذلك من أجل استقالة جميع الأشخاص المشاركين في الشبكات الفاسدة من عهد بوتفليقة (1999 - 2019). ونظرًا إلى افتقار حركة الاحتجاجات إلى هياكل تنظيمية وإدارية والاختلافات في الرأي حول الاستراتيجيات والأهداف وكذلك عدم تحقيق نجاح ملموس، فمن الجدير بالملاحظة استمرار تعبئة الجماهير وخروجهم في احتجاجات أسبوعية.
ومع أنَّ النظام لا يزال ممسكًا بزمام الأمور حتى الآن، فإنَّ السؤال المطروح بالنظر إلى استمرار وتصميم حركة الاحتجاج (المعروفة باسم الـ"حراك") هو: مَنْ سيكون الأكثر مرونة - النظام أم الحراك؟ كذلك لا يزال من غير الواضح إلى أي جانب ستقف "أغلبية الشعب الصامتة".
الحكومة واستراتيجية "الجزرة والعصا"
يكافح الرئيس تبون منذ توليه منصبه من أجل حصوله على الشرعية. تتأرجح الإشارات المرسلة من قِبَل الرئيس بين وعود بالإصلاح الديمقراطي واستمرارية السلطوية، بين التعاون والقمع، حيث اتَّخذ الرئيس خطوات لإصلاح الدستور، وأطلق سراح نحو عشرة آلاف سجين وأعلن عن تكثيف محاربة الفساد وتبسيط الإدارة وتعزيز ثقافة المُبادَرة. بالإضافة إلى أنَّ العديد من المتعاطفين مع الحراك تم تعيينهم في الحكومة.
وعلى النقيض من إشارات الرئيس تبون الإيجابية، ما يزال يتم في الوقت نفسه اعتقال الناشطين وما يزال منتقدو النظام البارزون يقبعون خلف القضبان. يحاول الرئيس الجديد وكذلك رئيس أركان الجيش - تمامًا مثل أسلافهما - تقسيم الحراك وتشويه سمعته من خلال استغلال المشاعر القومية والتمييز ضدَّ رموز البربر الأمازيغ والتلاعب بمخاوف الشعب الأمنية وكذلك اتِّهام المتظاهرين بأنَّهم يتم توجيههم من الخارج.
من الواضح أن النظام يراهن على إخفاق حركة الاحتجاجات - من دون اضطراره إلى توسيخ أصابعه من خلال استخدامه قوَّات الأمن لقمع الاحتجاجات.
خطرُ تقسيمِ الحراك وتحوُّلِهِ إلى طقوس أسبوعية
ومع ذلك قد لا يتحقَّق هذا الحساب بكل هذه السهولة. يتمثَّل أحد الإنجازات الرئيسية للحراك الجزائري في إعادة تعبئة وإعادة تسييس مجتمع تم منعه طيلة أعوام عديدة من النشاط المدني، وذلك من خلال: حظر المظاهرات واستخدام أجهزة الأمن وصدمة الحرب الأهلية في التسعينيات وكذلك دعم الدولة السخي.
ينظر الحراك إلى استقالة عبد العزيز بوتفليقة ومحاكمات النخب السياسية والاقتصادية في قضايا الفساد على أنَّها انتصارات مرحلية. وكذلك ينوي الحراك الاستمرار في التعبئة طالما لا يلوح في الأفق أي تحوُّل ديمقراطي جدير بالمصداقية.
ومع ذلك من دون وجود بديل واضح لـ"أجندة إصلاح" الرئيس تبون ومن دون وجود هيكل تنظيمي، فإنَّ المسيرات الأسبوعية باتت تخاطر بأن تصبح غايةً في حدِّ ذاتها وتتحوَّل إلى طقوس أسبوعية، تقدِّم للنظام مخرجًا للاختيار والتلاعب. فقد ظهرت خلافات عميقة حول كيفية التعامل مع عروض الحوار المقدَّمة من النظام ومدى التنوُّع (الثقافي)، الذي يتعيَّن أن يحتوي عليه النموذج الاجتماعي المستقبلي. وأخيرًا وليس آخرًا من الممكن مع تزايد الأزمة الاقتصادية أن تطغى المطالب الاجتماعية والاقتصادية على المطالب السياسية.
ولكن في الواقع لم يعد بوسع النظام شراء السلام الاجتماعي مثلما كان يفعل في الماضي. إذ إنَّ الجزائر فشلت حتى الآن في خفض اعتمادها على عائدات بيع النفط والغاز، التي تشكِّل أكثر من تسعين في المائة من عائدات التصدير، التي انخفضت منذ عام 2014 وتقلصت بالتالي احتياطيات العملة الصعبة.
وعلاوة على ذلك، ها هي الاحتجاجات - وسجن رؤساء الشركات ضمن سياق حملة مكافحة الفساد والقيود المفروضة على الاستيراد - قد أدَّت في جميع أنحاء البلاد إلى خفض كبير في أعداد الوظائف وزادت كذلك من حدة الأزمة الاقتصادية. ولذلك فمن غير المرجَّح أن تستطيع الحكومة تجنُّب حدوث أزمة اجتماعية اقتصادية، حتى لو قامت على الفور بإجراء إصلاحات.
لتوقُّعات المستقبلية: خطر فشل الدولة
ولهذا السبب على الأرجح أن يكون الوضع الاقتصادي هو العامل الحاسم في جميع السيناريوهات المستقبلية المحتملة. وعلى هذه الخلفية يمكن النظر إلى الوعد الحالي بالإصلاح السياسي من جانب الرئيس والحكومة، أي ما يعرف باسم "عقد جديد لبناء جزائر جديدة"، باعتباره هروب إلى المستقبل. وفي ذلك من الممكن جدًا قوع حادث من الأعلى: أي أن تخرج الإصلاحات المعلنة عن سيطرة النظام وتؤدِّي إلى انتقال ديمقراطي.
من المفارقة أنَّ انعدام الثقة في الحكومة المنتشر على نطاق واسع لدى الشعب يمكن أن يعيق هذه الدينامية: فحتى لو كان النظام - أو طرف منه - جادًا في الإصلاحات السياسية، فإنَّ الكثيرين من الجزائريين والجزائريات لن يصدِّقوه وقد يعيقوا حتى تنفيذ الإصلاحات.
وعلى العكس من ذلك، من الممكن أيضًا تصوّر تصعيد الطابع السلطوي والعسكري لدى النظام. وقد تؤدِّي مثلًا الآثار غير المباشرة من ليبيا أو حدوث انتفاضات اجتماعية اقتصادية واسعة النطاق أو تطرُّف نواة متشدِّدة في الحراك إلى إعطاء "المتشددين" في النظام ذريعة للمزيد من العنف.
ولكن على الأرجح أن يشتري النظام لنفسه الوقت من خلال وعود بالإصلاح. وفي الوقت نفسه من المرجَّح أن تؤدِّي مخاوف المواطنين من زعزعة الاستقرار وقلقهم الاقتصادي إلى زيادة النفور من التجارب السياسية وبالتالي إلى إضعاف الحراك. إنَّ الحصار السياسي والافتقار إلى الشرعية يمنعان الإصلاحات الأساسية ويؤدِّيان إلى مستوى عالٍ من اختلال الدولة الوظيفي وفي أسوأ الأحوال أيضًا إلى فشل الدولة. وفي هذه الحالة لن يُثبت لا النظام ولا الحراك مرونته.
وفي جميع هذه السيناريوهات تبقى الدول الأوروبية محكومة إلى حدّ بعيد بأن تتَّخذ وضع المراقب، وذلك بسبب خوف الجزائريين الكبير من التدخُّل الخارجي. يبدو أنَّ الموازنة بالنسبة لألمانيا والاتِّحاد الأوروبي ستكون على النحو التالي: متابعة مصالح الاستقرار في شمال إفريقيا ودعم الجزائر - إذا كانت تريد ذلك - في الإصلاحات الاقتصادية من دون تقويض نضال الشعب الجزائري من أجل المشاركة والحرية والتحوُّل الديمقراطي من خلال تقوية النظام الجزائري.
إيزابيل فيرينفيلز / لوكا ميهي
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمنية / موقع قنطرة 2020
نُشر هذا المقال أوَّلًا على موقع المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمنية (SWP) تحت عمود "بالمختصر".