عقد من إخفاقات"الإسلام السياسي"
صحيح أن إعلان المدعي العام الإيراني حجة الإسلام محمد جعفر منتظري حل "شرطة الأخلاق"، تشوبه شكوك وهو غير مكتمل، إلا أن الصور والمشاهد المتداولة من داخل المدن الإيرانية، تُؤشر الى تمرد واسع على فرض الحجاب، مع عدم التزام بارتدائه في الأماكن العامة، واستسلام السلطات للواقع الجديد. حتى لو بقيت شرطة الأخلاق، من الصعب عليها أن تُواصل فرض الحجاب بالقوة ذاتها، بل عليها الإذعان لصعوبة ذلك.
وهذا قرار أمني بالمقام الأول، ذاك أن أي سلطات تتمتع بأدنى مستوى من الوعي الأمني، عليها التفريق في مواجهة الاحتجاجات العارمة بين المستويين الاجتماعي والسياسي. إذا كانت هناك شرائح شبابية ينصب اهتمامها على الشق الاجتماعي، أكان فرض الحجاب وقوانين إسلامية صارمة، من الضروري تحييدها عن الشرائح الأخرى الرافضة للنظام برمته من منطلقات سياسية.
هذا التحييد يُتيح للسلطات الإيرانية تركيز آلة القتل والقمع على خصومها السياسيين في المجتمع، فيما تُخفف من أسباب معارضتها اجتماعياً، في الجامعات والأماكن العامة.
لكن في موازاة ذلك، ورغم أن التغيير شكلي ولا يمس النظام نفسه، عدم فرض الحجاب أو حتى التخفيف من الجهود في هذا المجال، يحمل معنى ليس بالهين، نظراً لاتصاله بجملة أحداث على مستوى المنطقة.
ذاك أن العقود الماضية شهدت صعوداً لنماذج من الإسلام (الوهابية والخمينية) كطريقة حياة، وفي سياق مواجهة ثنائية القطب بين السعودية وايران منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979. هذه الثنائية شقت طريقها في أنحاء المنطقة، وما زالت آثارها ماثلة لليوم على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي أيضاً. لكن خلال السنوات الماضية، أقدمت القيادة الجديدة في السعودية على تفكيك السلطة الدينية، ليس فقط من خلال انهاء سلطة "هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر" (المطاوعة) بل عبر تجفيف قدراتها وشبكات نفوذها أيضاً، وابدالها بهيئة "ترفيه" تتولى تنظيم نشاطات فنية معاكسة اجتماعياً للجو الديني.
في موازاة هذا التفكك في القطبين الدينيين سابقاً، حصل كذلك تحول خلال العقد الماضي. ذاك أن العقد الذي تلا ثورات الربيع العربي شهد للمرة الأولى تجارب في الحكم لأشكال مختلفة من الإسلام السياسي من "الإخوان" للسلفية الجهادية، وانتهت جميعها بخيبات من الضروري عدم الاستهانة بآثارها. لنفترض مثلاً أن النظام المصري أو التونسي الحالي تفكك وسقط، وظهر أمام المصريين أو التونسيين مجدداً خيار الاقتراع، هل يعود "الإخوان" في الصدارة؟ بالتأكيد الصورة اختلفت اليوم، ولن ينال الإسلام السياسي التأييد نفسه، ومن الصعب العودة للوراء بعد خيبات العقد الماضي وأخطائه.
وهذا ينسحب أيضاً على خيار السلفية الجهادية، بعد تجربة "الدولة الإسلامية" (داعش) الكارثية، وانتهائها بهزيمة ماحقة، وعملية تحييد واستهداف القاعدة المجتمعية من عشائر وطوائف ومجتمعات بصفتها تهديداً محتملاً. خيبات تجربتي "داعش" و"القاعدة" تُحدد اليوم مسار هيئة تحرير الشام، بيد أن أميرها "أبو محمد الجولاني" بات يعرف بأن ضريبة الاستمرار في الشمال السوري تكمن في سلوك طرق مختلفة عن تنظيمين بائدين. بات السلفي الجهادي الجديد واقعياً في السياسة الخارجية والداخلية، معترفاً بتوازنات القوى وضرورة الميل معها، ويتصرف كنظام عربي همه الوحيد هو البقاء في السلطة مهما تتطلب ذلك.
فيما تُواصل القيود الاجتماعية التي يفرضها النظام الإيراني على شعبه، تفككها، علينا أن نسأل أنفسنا عن البدائل المتوافرة، ليس فقط سياسياً بل مجتمعياً. بيد أن المنظومة الإسلامية المحافظة آيلة للتفكك، لكن أشد مساوئها، أكان الظلم الواقع على المرأة، تمييزاً وعنفاً وحرماناً من الحقوق، أو على الأقليات الدينية والاثنية والجنسية، لن تذهب بعيداً أو تندثر دون عمل منظم لمواجهتها. للعقود الماضية جذور ثقافية لن تذهب بمجرد سقوط السياق السيسي.
يبقى أن هياكل التسلط المجتمعي للاسلام السياسي قابلة للتفكك، لكننا نفتقد قوة منظمة تعمل على ابدالها بنموذج تقدمي يُعيد الحيوية لمجتمعاتنا بعد عقود من السبات والفشل والكسل والتراجع المتواصل.