موسيقى فلسطينية عالمية بلا حدود جغرافية
من الناحية السياسية يكاد لا يكون للفلسطينيين صوت اليوم. ففي حين تواصل إسرائيل توسيع مستوطناتها في الضفة الغربية -حارِمةً بذلك الفلسطينيين في المنطقة من أملهم الأخير في إقامة دولتهم المستقلة- تكاد الاحتجاجات ضدَّ هذه السياسة لا تجد آذانًا صاغية.
بل -وعلى العكس من ذلك- ها هو العالَم يتقبَّل ضمنيًا بصمت استمرار ضمّ الأراضي الفلسطينية إلى إسرائيل، التي بدأت تُقيم في الوقت نفسه علاقات رسمية مع ممالك وإمارات عربية خليجية - مع دولة الإمارات العربية المتَّحدة ومملكة البحرين [وكذلك مع جمهورية السودان]، وهو تطور يكشف أنَّ الفلسطينيين لم يكونوا معزولين قطُّ من قبل مثلما هم اليوم ولم يعد لديهم تقريبًا أي حلفاء.
ولكن ثمة ما يحدث في المشهد الموسيقي بصعود فرقة السبعة وأربعين الفلسطينية لتصبح خلال وقت قصير إحدى أهم الفرق الموسيقية في منطقة الشرق الأوسط بقاعدة جماهيرية عالمية.
موسيقيو فرقة السبعة وأربعين فلسطينيون من إسرائيل والأردن والولايات المتَّحدة الأمريكية تعرَّفوا على بعضهم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، واجتمعوا للمرة الأولى شخصيًا في العاصمة الأردنية عمَّان، وها هم يلتقون في لندن من أجل تسجيل مقطوعاتهم الموسيقية.
"فلسطينيون من عام 1947"
نشأ مغنِّي الراب طارق أبو كويك (الفرعي) وعازف الغيتار ولاء أليف سبيت وعازف البيانو رمزي سليمان (زين الناس) في كلّ من حيفا ورام الله وواشنطن. وهم ينحدرون من عائلات تَعْتَبِر نفسها من المعروفين باسم فلسطينييّ عام 1947 - هكذا يُسمِّي أنفسهم الفلسطينيون الذين طُرِدُوا من ديارهم بعد تأسيس دولة إسرائيل وتقسيم فلسطين من قِبَل الانتداب البريطاني السابق. وإلى ذلك أيضًا يشير اسم هذه الفرقة. فحتى عام 1947 كان لا يزال من الممكن السفر بشكل متواصل من القدس إلى بغداد أو السفر بالقطار من حيفا إلى بيروت.
أمَّا الحدود الحالية -التي يبدو من غير الممكن تجاوزها في المنطقة- فهي إرث من الحقبة الاستعمارية وخطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتَّحدة في عام 1947. وفي المقابل يحلم موسيقيو السبعة وأربعين بعالم بلا حدود، مقتربين موسيقياً بشكل كبير من هذه الرؤية.
ابتكر أعضاء فرقة السبعة وأربعين بشكل مشترك أسلوبًا جديدًا خاصًا بهم يطلقون عليه اسم "شامْستيب"، وهو اسم مركَّب مكوَّن من الـ"دابستيب" (Dubstep) - وهو أحدث اتِّجاه في موسيقى النادي البريطاني - ومن الـ"شام"، الاسم العربي لمنطقة شرق المتوسِّط.
يُعتبر الـ"شامستب" من الناحية الموسيقية مزيجًا لا يُقاوَم مكوَّن من الدبكة - وهي رقصة شعبية فلكلورية في بلاد الشام يصطف فيها الراقصون ممسكون ببعضهم من الأيدي أو متلامسين بالأكتاف - ومن ألحان البيانو العربية وإيقاعات النادي الرائعة. وهذا المزيج الجذَّاب يجعل قدمَيْ المستمع تتراقصان على الفور، ولكنه يُدخِل الحركة أيضًا إلى الرأس.
اكتسبت فرقة السبعة وأربعين جمهورًا عالميًا في السنوات الأخيرة من خلال مئات الحفلات الموسيقية ومقاطع الفيديو كليب الرائعة. وفيديو أغنيتهم الأولى "مقدِّمة للشامْستيب" -التي ظهرت قبل خمسة أعوام- تمت مشاهدته حتى الآن على موقع يوتيوب أكثر من ثلاثة عشر مليون مرة. وفي العام الماضي وحده (2019)، قامت فرقة السبعة وأربعين بأربع جولات في أمريكا الشمالية قبل أن يُجبرها فيروس كورونا على أخذ قسط من الراحة.
صور لغوية واستعارات قوية ورسائل خفية
السبعة وأربعين ليست فرقة سياسية سطحية، فأعضاؤها لا يستخدمون الشعارات الجريئة الواضحة، أو الدعاية الفارغة أو حتى العنف، بل يُفَضِّلون الاعتماد على التَوْرِيَة والتلاعب بالألفاظ والاستعارات الأصلية. وقد ظهر هذا من خلال عنوان ألبومهم الأوَّل "وعد بلفرون" الصادر قبل عامين (2018).
ويُذكِّر هذا الاسم بـ"وعد بلفور"، الذي وعدت من خلاله بريطانيا العظمى في عام 1917 بالعمل من أجل إقامة دولة يهودية في المنطقة. ولكنه يشير أيضًا إلى برج بلفورن، وهو مُجمَّع شاهق الارتفاع يقع في شرق لندن، وقد تم فيه تسجيل هذا الألبوم. ولكن في هذه الأثناء تم تحويل استوديوهات الفنَّانين في ذلك المجمَّع إلى شِقَق تمليك سكنية، وتم إبعاد المشهد الثقافي من داخله. وهكذا ينعكس من جديد بالنسبة لفرقة السبعة وأربعين الحدثُ الكبير في هذا الحدث الصغير.
تتميَّز أغاني هذه الفرقة بصور لغوية قوية ورسائل بسيطة ولكنها تحتوي على معانٍ خفية. فأغنية "مُوڤْد أراوند" (يا عابر البحر تَرَوّى)، على سبيل المثال، تتحدَّث حول أشخاص يتحرَّكون - سواء من خلال الموسيقى على ساحة الرقص أو من دون إرادتهم لأنَّهم قد تم طردهم، ويبقى تفسيرها متروكًا للمستمعين.
أمَّا أغنية "رفّ الطير" (مو لايت) الصاخبة فتتحدَّث حول السلام والمساواة والتَّوق إلى المزيد من الضوء في الأوقات المظلمة. وفي أغنية "كلّ أرض" (إڤْريلاند) المُتميِّزة بإيقاعات موسيقى الرِّيغي، يتم التأكيد على أنَّ: "كلّ أرض هي أرض مقدسة".
تم في لندن أيضًا إنتاج ألبوم "ساميَّات"، وهو الألبوم الثاني لفرقة السبعة وأربعين وقد صدر قبل فترة غير بعيدة. وعنوان هذا الألبوم يُذكِّر بأنَّ اللغةَ العربية لغةٌ سامية. ولكنه يُلَمِّح أيضًا إلى حقيقة أنَّ منتقدي سياسة الحكومة الإسرائيلية غالبًا ما يتم اتِّهامهم بـ"معاداة السامية". ومع ذلك فلا توجد كلمة مماثلة من أجل وصف الكراهية التي يتعرَّض لها الفلسطينيون.
تشير الكلمة الفنية "ساميّات" (سيميتيكز) إلى أنَّ اليهود والعرب في المنطقة مرتبطون من خلال عائلة لغوية مشتركة وتجمعهم الكثير من القواسم المشتركة الأخرى. وعلى هذا الأساس، تدعو فرقة السبعة وأربعين إلى المشاركة في رقص يجمع بين الشعوب.
الرقص الشعبي الفلكلوري مع رقص البريك دانس
لقد تَقَلَّص حجمُ الفرقة إلى فرقةٍ ثلاثية منذ أن توقَّف عن العمل فيها عازف الغيتار حمزة أرناؤوط في بداية هذا العام (2020)، وذلك بعد شعوره بالإرهاق من الحياة في جولات. لكن مع ذلك عزَّز الثلاثة الباقون فرقتَهم بمجموعة كبيرة من الضيوف، مثل: مغنِّي الراب البريطاني العراقي لوكي من لندن، الذي يرافقهم في أغنية "الرَّافدين" (هولد يور غراوند) التنويمية. وفي أغنية "راكض" (ران) اتَّحدوا مع مغنِّي الراب الفلسطيني سينابتيك من الأردن ومع رائد الهيب هوب تامر نفار من إسرائيل.
وفي أغنية "طلبوا" (بوردر كونترول)، تعبِّر مغنية الراب البريطانية الفلسطينية شادية منصور باللغة العربية وزميلتها الألمانية التشيلية ميك فادزيلا باللغة الإسبانية عن رغبتهما في عالم من دون جدران - سواء في المكسيك أو في الشرق الأوسط.
تم تصوير هذا الفيديو كليب على الحدود المكسيكية مع الولايات المتَّحدة الأمريكية وعلى الجانب الفلسطيني من الجدار الإسرائيلي الفاصل. يتكرَّر في الأغنية هذا المقطع باللغة الإنكليزية: "هذه الرقابة على الحدود، تكتم أنفاسنا".
وفي المقابل يقول المغنُّون في أغنية "دبكة سيستم" بكلّ ثقة باللغة الإنكيزية: "ارفعوا صوت الجليل عاليًا"، وباللهجة الفلسطينية: "يا منوقع تحت. تحت. تحت. / يا منطلع فوق. فوق. فوق". وفي الفيديو كليب المصاحب للأغنية، يتم الجمع بين الدبكة الفولوكلورية في بلاد الشام وحركات رقص البريك دانس الحضري بشكل طبيعي، مثلما تتناغم كوفيات الراقصات والراقصين الشباب مع مُشَجِّعيهم. إنَّها صورة قوية لتأكيد الذات الثقافية وللتجديد.
دانيال باكس
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
[embed:render:embedded:node:42281]