تدريب على التفكير النقدي المزدوج
صدر عن دار نشر فلبروك باللغة الألمانية كتاب بعنوان "التفلسف في السياق العربي للاستبداد" من تحرير الباحث وأستاذ الفلسفة التونسي بجامعة هيلدسهايم الألمانية سرحان ذويب. يقع الكتاب في 242 صفحة من الحجم المتوسط.
في الجزء الأول الموسوم بـ"إشكالية الاستيلاء على المفاهيم المعقدة ومصادرتها في ظل الحكم الاستبدادي"، يناقش الباحث صالح مصباح ونادية الورقمي وسوزان إليزابيث كساب وشتيفي هوبويس إشكالية "علاقات القوة" المتمثلة في الخطاب -سواء كان خطابا رسميا أو من خطابَ "فلاسفة" ذا توجه سياسي ما- ودورها في الاستيلاء على مفاهيم تخص "النقد وترسيخ قيم الديمقراطية" وتطويعها في المجال العمومي العربي لخدمة أهداف تتعارض (تتناقض) مع أهدافها الأصلية.
في مقالها "مناظرات التنوير عشية الثورة في مصر وسوريا" تتناول الباحثة سوزان إليزابيث كساب في رؤيتها النقدية ما يعنيه "التنوير" في مصر وسوريا بداية من القرن التاسع عشر وحتى الانتفاضات العربية في عام 2011. تميز كساب بين التنوير في ثلاثة سياقات سياسية وثقافية واجتماعية منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى الانتفاضات العربية، وترى أن النقاشات قد اختلفت من نقاشات حول مفاهيم الدفاع عن العقلانية والحرية وكرامة الإنسان لمناهضة التيارات الظلامية والتمييز واللاتسامح، ولكنها عمومًا لم تهدف بالضرورة إلى الانخراط أكاديميا في علاقة النهضة العربية بالحداثة الأوروبية وقيمها السياسية والاجتماعية، حيث ظهر جلياً الانشغال بقضايا راهنة دون معاداة الوضع السياسي والاجتماعي القائم رغم اختلاف المخاطبين والأهداف في كلا المجتمعين "المصري والسوري".
ومن جهة أخرى، فمن خلال استعراض أهم الظروف والجهات الفاعلة والسمات الرئيسية والمخاطبين وتحديات النقاشات حول التنوير في مصر وسوريا، توضح كساب استمرارية الموضوعات والمواقف في النقاشات إلى حد كبير حتى رغم أن صدى بعض الأفكار التنويرية المهمشة التي اشتغل عليها عدد من الفلاسفة في سوريا ومصر قبل الانتفاضات العربية قد تم عرضها واستعراضها على نطاق محدود في المطالب الرئيسية لثورات الربيع العربي.
التفلسف بين الثقافي والسياسي في الخطاب العربي المعاصر
أما في مقالته "تحدي الاستبداد السياسي والاستبداد الديني: بعض استخدامات روسو وسبينوزا في الفكر العربي المعاصر" فيشير الباحث صالح مصباح إلى العوامل، التي قد تلعب دورًا كبيرًا في تحديد الأهداف المحتملة والتأثير المرجو من استقبال وحضور الفلاسفة الأوروبيين في السياق العربي.
يصنف مصباح دوافع الكتابة حول بعض الفلاسفة إلى دوافع أكاديمية، وسياسية، وتاريخية-وجودية ضمن السياق الجيوسياسي والتاريخي. وفي هذا السياق يناقش مصباح الفارق بين الاستقبال الأكاديمي في الفكر العربي المعاصر لفكر كل من الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778) والفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677).
يحاجج مصباح أنه رغم التشابه بين الأوضاع في أوروبا في القرن السابع عشر مع تلك في الدول العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين -من حيث التشابك بين الديني والسياسي وارتفاع نسبة الأمية بين العامة من جهة وتشابه المناخ فيما يتعلق بالكتابة تحت الاضطهاد من جهة أخرى- فقد تم تهميش فلسفة سبينوزا في الجامعات العربية.
المرأة العربية والاستبداد بين السياسي والثقافي والفلسفي
يُعْنَى الكتاب في فصول عدة بالعلاقة بين الدولة الوطنية والمرأة من خلال مناقشة حضور المرأة وحقوقها في المجال العمومي. ففي المقالة الثالثة من الفصل الأول تستعرض كلٌّ من نادية الورقمي وشتيفي هوبويس -في مقالهما المعنون "شقاق لغوي في سياق الديكتاتورية: مفهوم حقوق المرأة في تونس (1987-2011)"- معنى وحدود المفاهيم المتعلقة بحقوق المرأة التونسية والنسوية في تونس ما بعد الاستقلال السياسي وحتى الثورة التونسية في عام 2011 من خلال مدخل نظري حول مفهوم "اللغة الأدائية" حول مفهوم "حقوق المرأة " متبوعاً بمناقشة حول سلطة الخطاب والفاعلين في المجتمع التونسي حول مسألة تحديث وتمكين المرأة التونسية في المجال العمومي.
يلفت المقال الانتباه لكون المرأة التونسية ظلت تحت هيمنة خطاب مزدوج ومتناقض في كثير من الأحيان حول دور وتمكين المرأة التونسية. تَضمَّن هذا التوجه خطابين أحدهما موجه للجمهور المحلى ويركز على حول أهمية التقاليد والأسرة العربية، أما الخطاب الثاني فهو موجة للغرب حول تمكين المرأة التونسية والديمقراطية والمساواة الجندرية والتي تعتبر نموذجًا يحتذي بها في العالم العربي.
الاستبداد والأخلاق
ومن جهة أخرى يجادل المقال أن المرأة التونسية قد ظلت تحت هيمنة سلطة خطاب رسمي من خلال هيمنة الدولة على المؤسسات النسوية وكذلك الإعلام الرسمي. المرأة التونسية في هذا الخطاب السائد كانت بمثابة "حائط صد" ضد الحركات الإسلامية الرجعية في عهد الحبيب بورقيبة والحركات المتطرفة عهد زين العابدين بن على. لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال حرية التعبير للنساء كما توثق شهادة النسوية اليسارية وأستاذة الفلسفة في جامعة تونس زينب بن سعيد الشارني في مقالتها "الوجوه المتعددة للقمع في تونس: الشهادة على طريق ناشط ".
يسترجع عدد من المعارضين من المدافعين والمدافعات عن الحريات وترسيخ التعددية والمساواة تجربة الظلم والتعذيب الجسدى والنفسي في المعتقلات في فترات بين ستينيات القرن الماضي وثمانينياته. لاتعكس تلك المذكرات الاستبداد والتناقض في الخطاب السياسي فقط بل كذلك تشير لتأثير الاستبداد على منظومة القيم والسلوك الأخلاقي قي مجتمعات محافظة. تتذكر الشارني -التي تعرضت للاعتقال والتعذيب في شهادتها- كيف أن الشخص الذي كان يقوم بتعذيبها في كان هو من يغطي عري جسدها فتكتب: "نظرًا للإحراج الأخلاقي الذي تسبب به الموقف الذي كنت فيه، ناولني سترتي التي كانت ملقاة على الأرض لتغطيني" (ص. 160).
أما الحقوقية والكاتبة المغربية فاطنة البويه فتتذكر تجربتها بطريقة شجية، إذ تجمع كلماتها بين مشاعر القوة والمقاومة لكل من سلطة الدولة الوطنية المستبدة والنظرة الاستعمارية للمرأة العربية المسلمة من جهة، والهشاشة التي تركتها أثار التعذيب الجسدي على نفسيتها وذاكرتها في مجتمع يتفنن فيه النظام في استخدام أساليب ممارسة المفردات المهينة للسيطرة على المعتقل وإذلاله خاصة ضد المرأة.
فالمرأة "المتهمة" -منذ لحظات اعتقالها الأولى- تعتبر "عاهرة"، كما تروي في تجربتها. تكتب البويه "إنهم يهينوننا بإيحاءات جنسية، وأحيانًا حتى تكون الإهانات بشكل بصريح خلال شهر رمضان، وتتعرض إحدى رفيقاتي للاعتداء الجنسي. إنه ذعر. ومع ذلك فإن أجسادنا هي التي قيَّدها العنف وليست أرواحنا" (ص. 162).
هذا الشهادات الشخصية وعملية الاسترجاع، كما يجادل ذويب تعتبر بمثابة "شكل من أشكال الفعل والممارسة السياسية" خاصة "في أوقات القمع السياسي، في الدكتاتورية أو بشكل عام في أوقات تجربة الظلم المريرة" (ص. 95).
ممارسة النقد والاستبداد
في مقالته "ميشيل فوكو في تونس: تذكر الحركة الطلابية وظهور فلسفة معاصرة" يستعرض الباحث فتحي التريكي نظرة للتطورات الفلسفية والثقافية في تونس منذ الستينيات، بناءً على المذكرات الشخصية لعدد من الفلاسفة العرب معتمداً على فلسفة فوكو في تعامله مع إشكالية معنى وكيفية التزام الفلسفة بتشخيص وتحليل الواقع. فكما في فلسفة فوكو كمقاومة السلطة أضحت الملتقيات كالمقاهي والصالونات الفكرية وغيرها مكاناً للممارسة النقدية رغم ممارسات المراقبة في هذا السياق التاريخي السياسي.
أما في مساهمة الفيلسوفة الفنية رشيدة التريكي، فتناقِش مسألة الإبداع الفني كشكل من أشكال المقاومة السياسية، إذ تؤكد أن الفن -من خلال ما يطلق عليه "مفهوم التجاوز" عند بول فاليري- يعتبر حالة ممارسة وتدريب على تحدى مختلف أشكال الاستبداد في سياقاته المختلفة. فالفن، كما هو معروف، يستدعى حالة مستمرة من التغيير وبهذا يعتبر الشارع كمعرض فني مكانًا للتفكر النقدي في الواقع السياسي قبل الثورة وبعدها.
ترى هل تعتبر سجون الماضي تعبيراً معمارياً تاريخياً يثير التفكير النقدي بممارسات الماضي؟ هذا السؤال يمكن أن يجده القارئ تتمة للمقالة الثانية من هذا الفصل للباحث لسرحان ذويب. يناقش ذويب "طوبوغرافيا الظلم" في السياق التونسي حيث تتجاور أماكن القمع ممثلة في "السجون" والتدريب على التعبير والتفكير النقدي ممثلا في "المدرسة" أو رموز نشر الثقافة من صالونات ومكاتبات وغيرها في تناقض صارخ.
أما في مقالته "تغيُّر الفلسفة - تغيير الفلسفة" فيركز ذويب على أهمية ممارسة "النقد المزدوج"، والذي يُعنى بالنهج المنهجي في الفلسفة في السياق العربي وكذلك تحدي مركزية الفلسفة الأوروبية، وتحيزاتها، داعيًا إلى إخضاع المعرفة الأوروبية كذلك لفحص الحقائق الفلسفية.
وفي الختام، وفي هذا السياق، يمكن القول إن كتاب "التفلسف في السياق العربي للاستبداد" يعتبر إضافة مميزة للقارئ العربي والأوروبي المهتم بتاريخ بالفكر العربي المعاصر من جهة والدول العربية وسياساتها الوطنية والعلاقة بينها وبين أوروبا من جهة أخرى.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب هو الجزء الثالث من سلسلة بعنوان "تجربة الظلم من منظور متعدّد الثقافات" فقد سبقه كتاب بعنوان "ضروب الكلام وأنماط الصمت. اللغة والاستبداد" (2018) و"في تذّكر الظلم: رؤى عربية وألمانية" (2021).
أماني الصيفي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023