"إيماني بالليبرالية الغربية كان وهمًا"

لا يزال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أحد أكثر المواضيع إثارةً للجدل، موضوعًا تطمس فيه الحدود الأخلاقية، وتُسيّس فيه كل كلمة، لكن كيف يمكن الكتابة عنه دون الوقوع في فخ التبسيط أو الانحياز؟ هذا التحدي تناولته ثلاثة كتب جديدة صدرت مؤخرًا، لمؤلفين ينتمون إلى خلفيات وتجارب متباينة.
في كتابها الصادر بالألمانية (Der letzte Himmel) أي "السماء الأخيرة"، تسرد الصحافية الألمانية الفلسطينية ألينا جبارين، رحلتها الشخصية والمهنية في البحث عن فلسطين. بينما يُقدم الكاتب والصحافي الكندي-المصري عمر العقاد في كتابه حججه اللاذعة حول الفساد الأخلاقي للغرب، فيما يضع الباحث السياسي الفرنسي اللبناني جيلبير أشقر، دمار غزة في سياقه التاريخي وصراع الأيديولوجيات بين الصهيونية وحماس.
تروي جبارين، تجربة إقامتها في الضفة الغربية بين عامي 2020 و2022، واصفةً عمليات الطرد ومصادرة الأراضي والاعتقالات التعسفية التي تشهدها فلسطين حتى قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وينصب تركيز الصحافية الألمانية الشابة، على أصوات الفلسطينيين، ولكن أيضًا على أصوات الإسرائيليين الذين التقتهم.

تضع جبارين سيرتها الذاتية في قلب تجربتها؛ فوالدتها ألمانية، ووالدها ينتمي إلى الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، ولهذا السبب تحمل الكاتبة - على عكس الفلسطينيين الذين قابلتهم - جواز سفر إسرائيلي.
تتحدث عن صديقتيها فرح وبلقيس من الضفة الغربية، اللتين لا يُسمح لهما بالسفر إلى تل أبيب، حيث نشأت جبارين، أو إلى القدس الشرقية الفلسطينية. تتأمل الكاتبة في الامتيازات التي تتمتع بها، لتُقدم من خلالها صورة عن عدم المساواة الهيكلية الموجودة ليس فقط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بل أيضًا بين الفلسطينيين الذين يحملون جواز سفر إسرائيلي والذين لا يحملون جواز سفر إسرائيلي.
تناول موضوعات شائكة
يبدو كتاب جبارين مثيرًا للاهتمام خاصةً عندما يسلّط الضوء على قضايا نادرًا ما تُناقش في الرأي العام الألماني، فبينما تحظى المطالبات بإطلاق سراح الرهائن المختطفين من حماس باهتمام واسع، لا تحظى سياسة الاعتقال الإداري التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين – أي الاعتقال من دون توجيه تهمة – باهتمام مماثل.
تروي الكاتبة، قصص زين والناشط عيسى عمرو من الخليل، اللذين اعتُقلا مرارًا دون محاكمة، وهي ممارسة تعتمدها إسرائيل بشكل روتيني.
لا تتوانى عن تناول موضوعات شائكة، مثل لقائها مع "راندي"، عضو سابق في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، الذي شارك مطلع الألفية في التخطيط لهجمات انتحارية وقضى عشرين عامًا في السجون الإسرائيلية، وتتساءل جبارين، دون أن تُصدر أحكامًا مسبقة: ما الذي يدفع إنسانًا إلى هذا النوع من العنف؟، تصغي الكاتبة للإجابة وتحاول أولاً وقبل كل شيء أن تفهم.

عندما يصبح الحياد تواطؤًا
غالبًا ما يتخفّى باحثو الشرق الأوسط الألمان خلف قناع الحياد السياسي، هروبًا من اتخاذ موقف تجاه قضايا عكفوا على دراستها لسنوات. تجادل الباحثة دينا وهبة بأن ذلك يناقض الواجب الأخلاقي الذي أكدته سواء الفلسفة الغربية أو الإسلامية.
تتبع جبارين هذا النهج أيضًا عندما تلتقي الجندي الإسرائيلي غاي، وتسأله صراحةً ومباشرةً عن سبب مشاركته في سياسة الاحتلال. غالبًا ما تبدو الإجابات التي يقدمها هذا الكتاب عن هذه الأسئلة معقدة وغير واضحة المعالم؛ لهذا، تكمن قوة رواية "السماء الأخيرة" بالتحديد في إظهار التناقضات والتصدعات.
علاوة على ذلك، يقدّم الكتاب تجربة شخصية للغاية، إذ يشارك فيه أصدقاء الكاتبة وعائلتها بآرائهم، كما تشير جبارين في المقدمة، إلى أنها تسعى أن تجد صوتها كامرأة فلسطينية تعيش في ألمانيا - وهو صوت غالبًا ما يتم تجريده من إنسانيته ونزع الشرعية عنه في النقاش العام.
الغرب- الخيال؟
تقف أشكال التجريد من الإنسانية أيضًا في صلب كتاب عمر العقاد "في يوم من الأيام، سوف يظل الجميع ضد هذا إلى الأبد"، التي نُشرت مؤخرًا ترجمته الألمانية، وبدا أن العقاد قد وجد صوته بالفعل، على العكس من جبارين.
فهو لا يطرح أسئلة، بل يتهم الليبرالية الغربية بالفساد الأخلاقي في ضوء المجازر في غزة، ويصف تصرفات إسرائيل هناك بأنها إبادة جماعية.
ويعتبر أن "قيم الغرب" ليس سوى "وهم أخلاقي"؛ فهو لا يقوم على نظام للقيم العالمية، بل يوزّع الانتماء بناءً على الأصل والدين ولون البشرة، وتجلى ذلك بوضوح فاضح في حرب غزة.
سبق للعقاد أن غطّى الحرب في أفغانستان كمراسل، إذ رأى كيف يُجرد غير الغربيين من إنسانيتهم في الإعلام، لكنه لم يدرك، سوى لاحقًا، أن إيمانه بالليبرالية الغربية كحقل فكري كان وهمًا، كما يعترف في مقابلة مع مجلة "جاكوبيان" الأمريكية.

الكنائس الغربية متواطئة بـ"الإبادة" في غزة
في كتابه "المسيح وسط الركام"، يفند القس الفلسطيني منذر إسحق مبررات الحرب الإسرائيلية على غزة التي تستند لمراجع توراتية، ويتهم الكنائس الغربية بالصمت والتواطؤ في "الإبادة الجماعية" التي تُرتكب في غزة.
يشكو العقاد من المعايير المزدوجة التي تُفرض على ذوي الخلفية المسلمة أو العربية، فمهما كان رفضهم واضحًا للأنظمة الاستبدادية أو لحماس، فإن ذلك غير كافٍ. فالقادم من "المنطقة الخطأ" يخضع دومًا للشك والريبة.
لكنه لا يعفي أيضًا الأنظمة العربية من النقد؛ إذ غالبا ما تبقى خطاباتها المتضامنة مع فلسطين شعارات جوفاء لا تترجم إلى فعل حقيقي، لكن على عكس الغرب، لم تكن لديه شكوك بشأنها.
غزة كانتكاسة للهمجية
على عكس جبارين والعقاد، يتبع جلبير الأشقر، أستاذ العلوم السياسية في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS) في لندن، مقاربة تحليلية تاريخية في كتابه الصادر بالإنجليزية أيضًا "The Gaza Catastrophe: The Genocide in World-Historical Perspective“" أي "كارثة غزة: الإبادة الجماعية في منظور تاريخي عالمي"، الذي يتضمن مقالات كتبها بين عامي 1994 و2024 (كتب الخاتمة في فبراير/شباط 2025)، بما يشير إلى خبرته الطويلة في هذا المجال.
يحلّل الأشقر بشكل موسّع الأسس الأيديولوجية للصهيونية وحماس على السواء، فقد نشأت الصهيونية السياسية، كما يكتب، كرد على معاداة السامية في أوروبا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، لكنها مستوحاة أيضًا من الاستعمار الغربي.
أما أيديولوجية حماس، يرى الأشقر أنها مشبعة بالأصولية الإسلامية وبعناصر من معاداة السامية الأوروبية، وتستند إلى بعض النصوص الإسلامية التي يصفها بـ"المعادية لليهود"، غير أن هذه التوليفة الراديكالية جاءت كرد فعل على النزعة التوسّعية الصهيونية، كما يكتب.
ويشدد الأشقر على أن مستقبلًا حرًا للفلسطينيين لا يمكن تصوره دون إشراك الإسرائيليين، ويعتبر أن هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لا يمثل جريمة حرب فقط، بل خطأً استراتيجيًا فادحًا، فقد كانت ردود الفعل الوحشية متوقعة بالنظر إلى الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة والتفوّق العسكري الواضح.

سلام إسرائيلي أم حرب أبديّة؟
تروج الحكومة الإسرائيلية بقيادة بينيامين نتنياهو، لما يُسمى "الشرق الأوسط الجديد" بدعم من الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أنها تُقدم هذه الاستراتيجية كطريق نحو الاستقرار، إلا أنها قد تُغرق المنطقة في صراع دائم.
لكن إشراك إسرائيل يتطلب تحولًا في مجتمعها، الذي يتسم حاليًا بنزعة يمينية قوية، كما يكتب الأشقر، لكنه لا يجيب على سؤال: كيف يمكن تحقيق هذا التحول؟
بعض التوقعات التي أوردها في نصوصه السابقة تحققت بشكل مثير، مثل اعتقاده بأن شنّ الولايات المتحدة هجومًا على إيران في عهد ترامب كان أكثر احتمالًا من حدوث ذلك في عهد الرئيسة المحتملة كامالا هاريس.
لكن الكتاب ينطوي على ضعف في بعض المواضع، لا سيما حين يصف بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية بـ"النازيين الجدد" دون تقديم سند تحليلي، كما أنه لا يتطرق إلى دور السلطة الفلسطينية إلا بطريقة عابرة.
وعلى عكس عمر العقاد، الذي يبدو كمن تخلّى تمامًا عن إيمانه بالغرب، يذكّر جيلبير أشقر بضرورة التمسك بالالتزام الأخلاقي الذي يجسّده القانون الدولي، ويرى أن النظام العالمي مهدد بالانهيار في ظلّ ما يصفه بالإبادة الجماعية في غزة.
"لقد فشل الوعد الغربي بسيادة القانون، ذلك الوعد الذي قُطِع عام 1945 وجُدِّد في 1990. واليوم، يسود قانون الأقوى"، يكتب أشقر، مضيفًا: "فلنأمل أن تتوقف هذه الانتكاسة نحو الهمجية قبل أن تفضي إلى كارثة عالمية جديدة".
"السماء الأخيرة: بحثي عن فلسطين"
ألينا جبارين
384 صفحة (الألمانية)
أولشتاين بوخفرلاج، مايو/أيار 2025
"في يوم من الأيام، سوف يظل الجميع ضد هذا إلى الأبد"
عمر العقاد
206 صفحة (الإنجليزية/الألمانية)
ماثيس وسيتز برلين، 2025
"كارثة غزة: الإبادة الجماعية في منظور تاريخي عالمي"
جيلبرت أشقر
256 صفحة (الإنجليزية)
مطبعة جامعة كاليفورنيا، أغسطس/آب 2025
هذا النص ترجمة محررة من النص الأصلي بالألمانية.
قنطرة ©