الحل الليبي...لامركزية مرتكزة على فيدرالية عسكرية؟
ناقش المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية دراسة بحثية حول ليبيا. وخرج بتوصيات لصناع القرار الأوروبيين حول مستقبل الدولة الليبية. ومن أجل أن يلم القارئ العربي على نحو أعمق برؤية هذه الدراسة ويعرف منظورها ومقاصدها، من المفيد أن يتعرف على طبيعة المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (دوراً وأهدافاً). فهو مركز أبحاث مستقل تأسس عام 2007 كمنظمة خاصة غير ربحية تُموَل بالتبرعات. مركزه الرئيس في لندن وله ستة مكاتب في عدة عواصم أوروبية. هدفه إجراء أبحاث وإقامة ندوات نقاشية وورش تفكير داخل أوروبا حول السياسة الخارجية للدول الأوروبية.
ويضم المجلس 280 عضواً أوروبياً من الشخصيات البارزة، كرؤساء ورؤساء وزارات ووزراء خارجية سابقين. وإضافةً إليهم أمناء عامون سابقون في حلف شمال الأطلسي ومدراء مصارف ورؤساء منظمات مجتمع مدني بارزة. إلى جانب مفكرين وبحاثة وخبراء اختصاصيين.
دعم زخم التجربة الديمقراطية في المنطقة العربية
أي أنه يمثل عقل سياسي أوروبي يُفكر ويبحث ويُحلل في مجال شؤون العلاقات الأوروبية الخارجية. وذلك فيما يخص هنا منطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا، من خلال ما ينشره من تقارير ومنشورات ودوريات وندوات وورش فكرية، تقدَّم فيها لحكومات الاتحاد الأوروبي وصنّاع القرار تصورات موضوعية دقيقة وتوصيات مستنتجة عن القضايا المدروسة.
وقد أَسس المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية عام 2011 بُعيد انتفاضات ما عُرف بالربيع العربي برنامجَ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENA. وهو يُساعد حكومات الاتحاد الأوروبي في تشكيل آليات استجابة فعالة من أعضاء الاتحاد لتحديّات الصحوة العربية، ويطرح مجموعة من السياسات بخصوص شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
صدام إذا حدث فمن شأنه نسف الاتفاقات الليبية-الليبية
ومن شأن ذلك أن يدعم زخم التجربة الديمقراطية بالمنطقة وأن يحوّل أشكال الصّراع والجدال القائم بشأن الأمن إلى صورة تحُدّ من تصعيد الأزمة. كما من شأنها أن تسوق تصورات لحل المشكلات والصراعات سلمياً، على أن تلعب الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي دوراً أكثر فاعلية بشأن الحل الدبلوماسي للخلافات. وبالتالي ترشد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى الطرائق المتاحة، كي تكون لاعبا دبلوماسياً فاعلاً في حل مشكلات المنطقة خدمة للمصالح المتبادلة.
وعلى هذه الخلفية تناولت الدراسة حول مستقبل ليبيا في عرض عام الأوضاع السياسية والعسكرية ما بعد هزيمة تنظيم "داعش" في مدينة سرت، محذرة من "صدام وشيك" بين قوات الجيش الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر وبين قوات البنيان المرصوص التابعة لمدينة مصراتة. وهو الصدام الذي إذا ما حدث سوف ينسف "اتفاق الصخيرات"، وينهي وظيفة المجلس الرئاسي ليترسّم الصراع الحدي "بين قوات مصراتة بالغرب وقوات حفتر في الشرق".
وكذلك في الجنوب (فزان) حيث تتواتر اشتباكات مسلحة بين قوات تابعة للجنرال حفتر و"القوة الثالثة" التابعة لمدينة مصراتة. وتتوقع الدراسة توجه قوات حفتر غربا نحو طرابلس التي تمثل "جزءا أساسيا في خطط حفتر". لكن الدراسة تستبعد أن تصبح العاصمة ميدانا لعمليات قتالية لقوة عسكرية من خارجها، إذ تتوقع:" انهيار المدينة من الداخل مع زيادة حدة الانقسامات والتوتر بين المجموعات المسلحة الموالية لحفتر والأخرى المعادية له".
هل يعني انتهاء" داعش" انتهاء الحركة "الجهادية"؟
وترى الدراسة أن هذه الأوضاع الاحترابية المتوقعة سوف تؤدي إلى انهيار النظام الاقتصادي الليبي الرسمي وبالتالي ظهور أنظمة اقتصادية غير رسمية يتحكم فيها منطق السوق السوداء والتهريب والجريمة المنظمة. ومن المرجح، في هكذا مناخ من الاحتراب والفوضى السياسية والخراب الاقتصادي، أن تنتعش التنظيمات الإرهابية من جديد. فالكثيرون من مقاتلي "داعش" خرجوا، حسب الدراسة الأوروبية، عقب هزيمتهم في سرت، متسللين في نواحي فزان وجنوب شرق ليبيا. وتوجهت مجموعة أخرى إلى مدينة صبراتة والحدود مع تونس.
وحتى لو جُزم بانتهاء داعش في ليبيا فإن ذلك لا يمثل انتهاء الحركة "الجهادية" المتواجدة في ليبيا منذ عقود. والإشارة هنا إلى "الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة" التي كان يقودها (ولا يزال خفيَةً) عبد الحكيم بلحاج الذي يقدم نفسه كرئيس حزب (الوطن) ويُظهر إيمانا غليظاً بالديمقراطية.
إدماج الموالين للقذافي في الحياة السياسية
وضعت الدراسة مجموعة توصيات تحدد رؤية السياسة الأوروبية في لعب دور قيادي فعال في حل الأزمة الليبية العويصة. وفي صدارتها توصية بتقوية التحالف السياسي وتعزيزه لدعم المجلس الرئاسي وحكومته، والسعي إلى وقف التصعيد العسكري وتكثيف الجهود من أجل التوصل إلى اتفاق عسكري يحفظ للجنرال خليفة حفتر منصبه العسكري في الشرق. ودعت إحدى التوصيات إلى ضم وإدماج الموالين لمعمر القذافي ونظامه في الحياة السياسية المستقبلية لليبيا حتى لا يتحولون عن المسار السياسي نحو إثارة القلاقل في البلاد.
وحيث أن هدف إنشاء دولة فعالة مكتملة الأركان في ليبيا "هدف بعيد المنال" دعت الدراسة الدول الأوروبية إلى عدم التركيز على هذا الهدف "بعيد المنال" والتركيز بدلاً من ذلك على مساعدة الليبيين في إنشاء دولة لامركزية، تقوم فيها الحكومة بضخ التمويل إلى المجالس المحلية "الواقعة تحت سيطرة القوات التابعة للمجلس الرئاسي"، لتقوم بدور السلطات المحلية التي تعمل على توفير الخدمات العامة والحفاظ على وجود الدولة وتمثيل سلطتها في المدن المختلفة، لا سيما وأن المجالس المحلية تُعتبر "الأجسام المنتخبة الوحيدة التي تتمتع بالشرعية كاملة".
لامركزية مرتكزة على فيدرالية عسكرية
وترتبط لا مركزية الدولة بإقامة فيدرالية عسكرية. بحيث إلى جانب المنطقة العسكرية في الشرق بقيادة حفتر، تُنشأ مناطق عسكرية في الجنوب والغرب بقيادات عسكرية جديدة تحول دون رغبة الجنرال خليفة حفتر بالتوجه غربا.
من الواضح أن الدراسة الأوروبية أحاطت بمعطيات المسألة الليبية ووقائعها. لكن توصياتها بالحلول تنظر إلى الأمور من داخل صندوق "اتفاق الصخيرات" الذي توصي الدراسة الدول الأوروبية بالتمسك به من خلال دعم المجلس الرئاسي وحكومته، بينما واقع الأمر يبين أن المجلس الرئاسي وحكومته بات مشكلة وليس حلاً.
فهو لا يملك إرادة سياسية حرة بسبب تواجده في العاصمة طرابلس الواقعة تحت سيطرة ميليشيات إسلامية متصارعة، عدا عن الصراعات المحتدمة بين أعضاء المجلس الرئاسي وعدم اكتسابه للشرعية الدستورية وانتفاء حالة التوافق عليه من غالبية الأطراف الفاعلة في المسألة الليبية عسكريا وسياسياً، وبالتالي أصبحت نهايته مسألة وقت في المدى المنظور حتى يستوجب فتح اتفاق الصخيرات وتعديله بما يخلق حالة توافق جامعة بين الفرقاء الرئيسيين في شرق البلاد وغربها وجنوبها.
أما التوصية بإنشاء دولة لامركزية، فالواقع يُظهر أن ما في حوزة الليبيين هو دولة متقطعة ومتشظية بين مناطق عسكرية متصارعة وثلاث حكومات متناطحة ومصرفين متعارضين ومؤسسات حكومية متوازية. فاللامركزية نظام إداري مشروط بوجود دولة موحدة بنظام سياسي واحد وحكومة واحدة. وهو ما لا وجود له على أرض الواقع.
ومن هنا فإن التوصية بإقامة فيدرالية عسكرية تبدو أكثر التوصيات عقلانية وفهماً لطبيعة الصراع في ليبيا مع الأخذ في الاعتبار أن القوات العسكرية، التي يقودها الجنرال خليفة حفتر تسيطر على إقليم برقة وتسيطر قوات متحالفة معه على معظم إقليم فزان، علاوة قوات أخرى تابعة لقيادته تسيطر على مناطق استراتيجية في إقليم طرابلس، ولا توجد قوة تقابله عدا قوات البنيان المرصوص (مصراتة) أو ميليشيات جهادية متشرذمة.
وعليه أما إن يتم التوصل إلى اتفاق سلمي بين قوات حفتر وقوات مصراتة أو أن يحدث "الصدام الوشيك" بينهما فيما تتوجه قوات حفتر غرباً نحو طرابلس.
فرج العشة
حقوق النشر: فرج العشة/ موقع قنطرة 2017
فرج العشة. كاتب ليبي. صدر له كتاب فكري "نهاية الأصولية ومستقبل الإسلام السياسي"، ورواية "زمن الأخ القائد". عاش في ألمانيا لاجئاً سياسيا في عهد نظام القذافي الديكتاتوري ما بين عامي 1996 وَ 2011. عاد إلى ليبيا بعد سقوط نظام القذافي وترأس تحرير مجلة "ثقافة" التي أوقفت بعد سيطرة المسلحين الإسلاميين على العاصمة طرابلس، وتعرض للاختطاف والاعتقال لفترة. يعيش حالياً نازحاً داخل ليبيا.