جمهورية سلمان رشدي وكوزموبوليتية الفتوى الخمينية
في كتابهما "رسم خريطة لجمهورية رشدي"، يعقد المحرران، تابان كومار غوش وبراسانتا بهاتاشاريا، مقارنة متضمنة في عنوان الكتاب، بين خيال سلمان رشدي الأدبي و"جمهورية أفلاطون".
لكن، إن كانت جمهورية الفلسفة اليونانية مخططاً مسبقاً لمدينة مثالية، فإن سرديات رشدي هي تشكيل بأثر رجعي، التقاط شظايا من أمكنة وهويات وأزمنة فتتتها الإمبراطورية وجمعتها معاً، وذلك بغية تشكيل عوالم خيالية، عوالم يمكن كذلك وصفها بالمثالية، كونها تتأرجح بين اليوتوبيا وبين أبوكاليبتية تنتاب مدناً فاسدة. الصبغة الغالبة على خيال رشدي هي الشرط الكوزموبوليتاني، ليس بمعناه اليوناني الكلاسيكي كمواطَنة للعالم، ولا بحسب تفاؤلية كانط بشأن حكومة كوكبية، بل بوصفه شرطاً أساسياً لتاريخنا المعاصر.
يشترك رشدي في هذا مع إدوارد سعيد وما بعد كولونياليته، بفعل هذا الانتماء إلى غير مكان محدد، إلى أكثر من لغة وتاريخ، في أن يكون المرء ابناً فذاً للإمبراطورية وضحيتها في آن. من مومباي، مسقط رأسه، يحاول رشدي خلقَ يوتوبيا كوزموبوليتانية تعود إلى زمن الإمبراطورية المغولية أو إلى عهد الراج البريطاني، إلا أن تلك المحاولات لا يسعها سوى أن تفشل تحت ثقل أهوال مذابح التقسيم الهندي الباكستاني، والواقع المخزي لأوطان ما بعد الاستقلال، الفساد والعنف الطائفي والانقلابات العسكرية.
يحاول سلمان رشدي خلقَ يوتوبيا كوزموبوليتانية
وبين تلك الثنائيات: الطوباوي والكابوسي، والإمبراطوري والأمة، والغرب والعالم ثالثي، يبسط رشدي "فضاءً ثالثاً" كما يسميه المُنظّر الهندي البريطاني هومي بابا، وهذا الفضاء بحسبه ليس مكاناً للالتباس والتيه، ولا هو أرضية للحلول الوسط، بل ساحة للمقاومة. هومي بابا، الأكثر حماسة بين الأكاديميين ما بعد الكولونياليين لأدب رشدي، يذهب إلى أنه في "تقليده للإنكليز"، أي في إتقانه للأسلوب وبفعل المستويات المعقدة والحاذقة من اللعب باللغة، يحول الإنكليزية أداةً للهزء بمنطق التراتبية الاستعمارية، فها هم أبناء المستعمرات يتفوقون على سادتهم السابقين في حقل الأدب، وبلُغتهم هم. هكذا "تأتي الإمبراطورية إلى البيت".
يرد تيموثي برينان، صاحب كتاب "رشدي والعالم الثالث" على هومي بابا. فرشدي لا يقلد الإنكليز، بل هو ببساطة إنكليزي، وبكل معنى الكلمة. هو خريج كامبريدج، والنجم الساطع في مجال النشر البريطاني. أما الفضاء الثالث فليس ميداناً للمقاومة، بل على العكس. ففي تشتته وسيولته، لعله يميّع إمكانية أي مقاومة. هذا أيضاً ما يصل إليه الناقد الباكستاني إعجاز أحمد، من منظور ماركسي. ففي كتابه المرجعي "في النظرية"، يرفض الاستجابة لدعوة رشدي لاعتبار أدبه عملاً "عالم ثالثياً" أو"هندياً"، بل هو نموذج مثالي للثقافة الرفيعة للميتروبول البريطاني والموقف الفلسفي ما بعد الحداثي. أما الخصوصية التي يمكن إنكارها في أسلوب رشدي وهو يستلهم استطرادات الأساطير الهندية، فلا يراها أحمد إلا تيسيراً لعملية استهلاك ثقافات العالم في سوق الأدب المعولم، أو يصفه برينان في محل آخر بإنتاج "الغريب المألوف"، السحرية الأسطورية للهندي في قوالب إنكليزية، أو بالأحرى الإنكليزي جداً في قوالب سِحرِية شبه القارة.
إذن هل يكون رشدي إنكليزياً أم نموذجاً للمهاجر "الطافي بعيداً من التاريخ". أهو غير المنتمي ثقافياً بفعل واقع أنطولوجي للمهاجر العالم ثالثي؟ أم أنه مثال على "إفراط الانتماءات" الثقافية؟ لا تهمنا هذا الأسئلة الآن، لكن لعلها كانت أحد الدوافع الرئيسية لإصدار الفتوى قبل ثلاثة عقود.
"سلمان رشدي لا يقلد الإنكليز، بل هو ببساطة إنكليزي"
لم تكن الجمهورية الإسلامية مناهضة لأيديولوجيا الكوزموبوليتانية بالضرورة، بل منافساً يبتغي الهيمنة على نموذج آخر منها. فالثورة الإيرانية بيعقوبيتها البادية على النمط الباستيلي، والرغبة/الخوف من "تصديرها"، أعادت التأكيد على الطبيعة الكونية لفعل الثورة، ذلك البُعد العابر للحدود والأزمنة. ما جعل طهران، في شهور الثورة الأولى، مصدراً لإلهام نخب غربية يسارية مجهدة كانت قد فقدت كل أمل في إمكانية تحدى الرأسمالية والهيمنة الأميركية. فأنقذتها تنظيرات إيكزوتيكية أضفت على الحماس الديني، صفة أصلانية غامضة، تقدر على تفجير الانتفاضات الجذرية وتحرير الشعوب المقهورة.
هكذا، كانت للثورة الإيرانية في تلك التنظيرات لمسة من واقعية سحرية، وفي الإسلام بديل شرقي عن الماركسية وأمميتها. وبالنسبة للعالم الإسلامي، سعت جمهورية الملالي، تلك الجمهورية الدستورية والثيوقراطية، والتي لا تقل في هجنتها عن جمهورية رشدي، أن تكون سلطة عليا. وكان لشتات الهجرة، الذي جعل من الإسلام ديناً غربياً باقتدار، بحكم الجاليات المسلمة المتنامية في المراكز الغربية، أن يبسط كوزموباليتانية الإسلام لتضحي شاملة بطول العالم وعرضه.
هكذا منحت الجمهورية الإسلامية، رشدي، واحدة من أرفع جوائزها الأدبية على رواية "العار"، باعتبار رشدي، الناقد للغرب والمعارض لأنظمة ما بعد الاستعمار الفاسدة، أحد أبناء أمميتها الإسلامية بالتبني.
لكن ما رآه الملالي لاحقاً من "خيانة" في "آيات شيطانية"، ومن تنكّر من الكاتب لأصوله، ومِن تجرّؤ منه على الخميني نفسه في الرواية، جعل من إصدار الفتوى بإهدار دمه، أمراً لا يستهدفه شخصياً، بل محكاً لإثبات تلك السلطة التي تملكها طهران، سلطة الموت الذي يتتبع رشدي ومترجموه في كل مكان. السلطة المعنوية التي في استطاعتها تجاوز الحدود من بلد إلى بلد ومن قارة إلى قارة، والقادرة على التغلب على الزمن، فتظل قاتلة حتى بعد أكثر من ثلاثة عقود، ويكون القاتل، الأميركي أكثر منه لبنانياً، مثالاً دموياً على كوزموبوليتانية الفتوى وجمهورها.
حقوق النشر: المدن 2022
هذا المقال نشر أولا في صحيفة المدن.
موقع قنطرة ينشر المقال بالاتفاق مع الكاتب وصحيفة المدن.
شادي لويس، كاتب وأخصّائي نفسي مصري، مقيم في لندن، مهتمّ بتحليل البنية السيكولوجية للخطاب السياسي في المنطقة العربية.