"كسر الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل"؟
لا يوجد الكثير من المثقفين القادرين على خلق صدى إعلامي أو إطلاق نقاش من خلال تعليقاتهم على الصراع في الشرق الأوسط. لكن نعوم تشومسكي، أحد مخضرمي علماء اللغة وأبرز المفكرين السياسيين في الوقت الحاضر، لا ينتمي إلى تلك المجموعة، مثله مثل إيلان بابيه، أحد "أشجع المؤرخين الإسرائيليين وأكثرهم مناعة ضد الرشوة"، بحسب ما لقبته صحيفة الإندبندنت البريطانية. بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة، التي راح ضحيتها أكثر من ألفي فلسطيني، قرر تشومسكي وبابيه استكمال حوارهما المطبوع والمسمى "غزة في أزمة" (الذي صدر عام 2010).
وفي كتابهما الصادر حديثاً بعنوان "حول فلسطين"، يوضح تشومسكي وبابيه النقاط التي يتفقان عليها وتلك التي يختلفان فيها من الناحيتين السياسية والنشاطية.
لا حل سحرياً للصراع في الشرق الأوسط
في المقابل، ينشط بابيه من أجل حل الدولة الواحدة، والتي يجب ضمان حقوق جميع المواطنين فيها، بغض النظر عن كونهم يهوداً أم مسيحيين أم مسلمين، إسرائيليين أم فلسطينيين. ويصل المؤرخ في تعليله لهذا الحل إلى مقارنة الدولة الإسرائيلية في صورتها الحالية بنظام الأبارتهايد الذي ساد جنوب أفريقيا في الماضي، وذلك بحسب رأيه بسبب هيمنة عنصرية ممنهجة ضد الفلسطينيين.
هذا النظام، الذي يعتبره بابيه عماد "الأيديولوجية الصهيونية"، سيظل باقياً إذا ما تم تطبيق حل الدولتين. وبصرف النظر عن ذلك، فإن هذا الحل سيتجاهل تماماً حق العودة للاجئين الفلسطينيين، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948.
تشومسكي يتفق مع هذا الطرح جزئياً ولكنه يشير إلى أن هذه المعضلة لا يمكن حلها مرة واحدة، بل خطوة بخطوة، ذلك أنه في الوقت الراهن لا توجد أي أصوات في الاتحاد الأوروبي أو في الولايات المتحدة تؤيد حل الدولة الواحدة. كما أن تشومسكي لا يرى بأن المقارنة بجنوب أفريقيا صحيحة، لأن الأقلية الجنوب أفريقية البيضاء كانت معتمدة على الأغلبية الأفريقية السوداء وأيديها العاملة، بينما في إسرائيل تشير كل الدلائل إلى أن هناك سعياً للتخلص من الفلسطينيين من خلال مصادرة أراضيهم بشكل دائم أو من خلال عزلهم (مثل ما يحدث في قطاع غزة).
بالرغم من ذلك، يخلص كل من تشومسكي وبابيه إلى أن إسرائيل قامت كمشروع استيطاني استعماري. وهذا، بالنسبة للمؤلفين، يشكل سبب كون الولايات المتحدة وكندا ونيوزيلندا – وهي دول قامت على الاستعمار وطرد السكان الأصليين – من أقوى داعمي إسرائيل وحلفائها.
مسألة المقاطعة
نقطة هامة أخرى تختلف عليها آراء الكاتبين هي مسألة مقاطعة إسرائيل بأي طريقة كانت. التركيز هنا هو على حملة (بي دي إس) BDS، التي لاقت صدى دولياً واسعاً في السنوات الماضية ودعم ساسة وأكاديميين ونشطاء من مختلف الدول.
كلمة BDS هي اختصار لعبارة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات". ويرى ناشطون، ومن بينهم إيلان بابيه، أن هذه هي الطريقة الوحيدة لفرض ضغط حقيقي على الحكومة الإسرائيلية ودفعها إلى وقف انتهاكاتها المستمرة للقانون الدولي. هنا أيضاً يستلهم الناشطون "النموذج الجنوب أفريقي"، والذي أدى إلى الإطاحة بالحكومة آنذاك من خلال حملة مماثلة. لكن تشومسكي يعيب على الحملة أن إسرائيل قادرة على الإبقاء على الوضع الراهن كما هو طالما استمر دعم الولايات المتحدة لها. هذا الدعم هو الذي شكل نقطة الحسم بالنسبة لجنوب أفريقيا.
إلى ذلك، يأمل تشومسكي في تغيير راديكالي للرأي العام من خلال وسائل الإعلام البديلة ووسائط التواصل الاجتماعي. من خلال هذا التغير في النظرة، يمكن كسر الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، إلا أن أحد العقبات التي تواجه ذلك هي أن اللاعبين السياسيين – أي الإسرائيليين والفلسطينيين – يتم تصويرهما في الإعلام كندين متوازنين يحملان نفس القدر من المسؤولية.
في هذا السياق، يشير بابيه إلى أن مصطلحات مثل "الصراع الإسرائيلي الفلسطيني" ليست دقيقة، ذلك أن توازن القوى بين الدولتين أوضح من أي وقت سبق. كما أن الإشارة التعقيد المفترض لهذا الصراع، بحسب بابيه، لا يتحدث عنه إلا من يريدون تبرير انتهاكات الحكومة الإسرائيلية.
المقاطعة الكاملة لإسرائيل، حتى أكاديمياً، لا يؤيدها سوى إيلان بابيه. أما نعوم تشومسكي، فينتقد عدم بلورة حملة BDS لأهدافها بشكل واضح. المشكلة الأساسية بالنسبة له هي أن هذه الحملة موجهة فقط ضد إسرائيل ولا تقوم، مثلاً، بممارسة ضغط على الحكومة الأمريكية. كما أنَّ هناك خطرَ أَنْ يظن العديد من الناس في أوروبا أو في الولايات المتحدة، ممن لا يعون الحقائق السياسية على الأرض، بأن هذه الحملة عبارة عن "مقاطعة لليهود". هذا التصور الخاطئ، طبقاً لتشومسكي، قد يضرّ بالفلسطينيين المضطهدين.
بيد أن تشومسكي يعتبر أن مقاطعة إسرائيل داخل الأراضي المحتلة أكثر نجاعة ومنطقية. وبما أن المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية باتت معروفة للكثيرين، فإن الدعوة إلى مقاطعتها بدل مقاطعة كاملة لإسرائيل أكثر منطقية وتقبلاً.
غياب وجهة النظر الفلسطينية
عند هذه النقطة يتضح ما ينقص هذا الحوار، ألا وهو الصوت الفلسطيني. فنعوم تشومسكي أمريكي من أصول يهودية، بينما ولد إيلان بابيه وترعرع في إسرائيل. لكن كليهما يعيان الوقائع في الشرق الأوسط ويمتلكان خبرة ممتازة. ورغم ذلك، ما تزال وجهة النظر الفلسطينية غائبة، بالرغم من وجود العديد من القادرين على تمثيلها.
فالفلسطيني الذي فقد وطنه أو سلبت أرضه، أو قد يتعرض أقاربه في الضفة الغربية أو في القدس الشرقية يومياً للمضايقة أو قد يكونون معزولين في قطاع غزة، يمكنه بكل تأكيد أن يوضح هذه النقطة بشكل أفضل بكثير.
هذه النقطة أيضاً توضح بأن حملات مثل BDS لا تشكل "مقاطعة لليهود"، بل إشارة إلى جذور الصراع. إيلان بابيه يؤكد على ذلك باستمرار، من خلال الإشارة إلى أن إسرائيل لم تقم من العدم، وإنما قامت على طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين وتطهيرهم عرقياً، فيما عُرف بـ"النكبة".
وجود صوت ثالث يوضح هذه الحقيقة بشكل أكبر ربما كان سيفيد الحوار. لكن ذلك لا يعني أن كتاب "حول فلسطين" لا يستحق القراءة. فنعوم تشومسكي وإيلان بابيه يوضحان بأن الوضع القائم في الشرق الأوسط لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه، وأن النشاط السياسي بات واجباً، خاصة على المستوى الدولي.
في الوقت الراهن، الذي وصلت فيه حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل إلى السلطة ويعتبر فيه حل الدولتين ميتاً، فإن مطالب من هذا النوع أهم من أي وقت سبق.
عمران فيروز
ترجمة: ياسر أبو معيلق