مدينة المساجد من أنياب أفاعي داعش إلى أحشاء ثعابين الحشد
أهالي الفلوجة يغادرونها مذعورين. يهربون بالآلاف من هذه المدينة. يفرون إلى جميع الاتِّجاهات. ولسان حالهم يقول: لا شيء أفضل من الخروج من هنا. ولذلك فقد أقامت منظمات الإغاثة مخيَّمات في المنطقة، وفي مناطق بعيدة أيضًا. ومثلما يخبرنا أحد المساعدين فإنَّ بعض اللاجئين مصابون بصدمات نفسية، بحيث أنَّهم يواصلون اندفاعهم مسرعين - وهم خائفون كثيرًا من تعرُّضهم للملاحقة والقتل.
وكذلك تصل من الفلوجة أعداد غير قليلة إلى مدينة الرمادي المدمَّرة كلها تقريبًا، والتي تقع على بعد أربعين كيلومترًا عن مدينة الفلوجة وتعتبر فقط منذ شهر آذار/مارس 2016 محرَّرة بالفعل من ميليشيات تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابية. وفي الآونة الأخيرة صرنا نسمع وعلى نحو متزايد أكثر أنَّ معظم اللاجئين الهاربين من الفلوجة يعانون من جوع شديد.
ومنذ شهر شباط/فبراير 2016 فرض الجيش العراقي على مدينة الفلوجة حصارًا، لم يكن يسمح بإدخال أي شيء إليها - ولا حتى المواد الغذائية. فقد كانت الاستراتيجية المتَّبعة هي استراتيجية التجويع. وكان الهدف من ذلك جعل أهالي الفلوجة يتمرَّدون على تنظيم "الدولة الإسلامية". بيد أنَّ هذا الحساب لم ينجح. فقد كان الجهاديون الهمجيون يذبحون كلَّ شخص يقف في طريقهم. وتثبت ذلك المقبرة الجماعية التي عثر عليها الجنود العراقيون في ضاحية من ضواحي الفلوجة.
التجويع كاستراتيجية عسكرية
وهكذا فقد أصبح التجويع خطيرًا، وبدأت الأعداد الأولى من الناس يموتون بسبب سوء التغذية. وفي النهاية لم يعد يوجد لديهم سوى التمر الجاف، مثلما يقول البعض. وفي شهر نيسان/أبريل بلغ عدد موتى الجوع نحو مائتي شخص. ولذلك فقد ازداد الضغط السياسي. مما جعل رئيس الوزراء العراقي الشيعي، حيدر العبادي، عرضة للانتقاد على تعمُّده تجويع هذه المدينة ذات الأغلبية السُّنية. وفي آخر المطاف أصدر حيد العبادي أمر الهجوم في نهاية شهر أيَّار/مايو 2016.
ولكن لقد شاء القدر أن يستغرق الأمر نحو شهر كامل، حتى تمكَّن الجيش من دخول الفلوجة، وذلك بعدما لم يتم تحقيق أي تقدم من خلال معارك الاستنزاف في محيط أكبر مدينة في محافظة الأنبار. لا يزال الأهالي يهربون من مدينة الفلوجة بأعداد كبيرة، على الرغم من إعلان كلّ من قيادة الجيش ورئيس الوزراء، حيد العبادي، عن أنَّ هذه المدينة محرَّرة بنسبة تسعين في المائة [في وقت سابق من يونيو/ حزيران 2016]، وفي المقابل قال الأمريكيون إنَّ هذا ليس صحيحًا. وإنَّ القوات الحكومية سيطرت فقط على ثلث الفلوجة، بحسب ما أفاد به متحدِّث باسم وزارة الدفاع الأمريكية في واشنطن.
ولكن الجدل حول مساحة المنطقة المُستعادة من الفلوجة ليس الأمر الحاسم، خاصة وأنَّ هناك خمسة وستين ألف شخص قد هربوا في هذه الأثناء من الفلوجة. ويأتي هذا كرد على حصار مدينتهم طيلة أشهر، ولهذا السبب فإنَّ الأهالي صاروا يرحلون خارج الفلوجة بعد فتح أبوابها.
زد على ذلك أنَّ هناك مستوًى عميقًا من فقدان الثقة، أصبح منتشرًا الآن تجاه كلِّ من هب ودب لدى الغالبية العظمى من سكَّان الفلوجة، الذين كان يبلغ عددهم في السابق ثلاثمائة وخمسين ألف نسمة. وفي هذا الصدد يقول اللاجئون القادمون من الفلوجة في مدينة الرمادي: "معظمنا لم يعدوا يريدون سوى الرحيل. الرحيل من دون عودة أبدًا". وهم يعتقدون أنَّ نحو ثلاثين ألف شخص لا يزالون في الفلوجة.
تسمى مدينة الفلوجة رمزيًا باسم رأس الأفعى من قبل الكثيرين من العراقيين، وذلك لأنَّ انتصار الجهاديين في العراق قد بدأ هنا في هذه المدينة. وفي نهاية شهر كانون الثاني/يناير 2014 كان الجهاديون يتجوَّلون في المدينة، ويرفعون أعلامهم السوداء فوق جميع المباني العامة وقد قاموا مباشرة بتعيين محافظة للمدينة.
شهر عسل للجهاديين في الفلوجة
لقد تحوَّلت الفلوجة المعروفة باسم مدينة المساجد إلى أوَّل معقل لتنظيم "الدولة الإسلامية"، وإلى أوَّل حاضنة لأيديولوجية الشريعة، وتحوَّلت كذلك إلى معقل الخلافة - علمًا أنَّها لا تبعد سوى أقل من خمسين كيلومترًا عن العاصمة بغداد.
وعندما سقطت الفلوجة في أيدي "داعش"، استغرق الأمر خمسة أشهر فقط قبل أن يستولي الجاهديون على الموصل وتكريت. وفي الفلوجة كان يتم تدريب الانتحاريين وإرسالهم إلى بغداد وبقية مناطق العراق، وكذلك أقيمت فيها الورش لصناعة القنابل، وكانت تتم فيها حياكة الزي الرسمي لمقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية". وانطلاقًا من الفلوجة تم إنشاء طريق للإمدادات إلى سوريا، وشيئًا فشيئًا تم الاستيلاء على محافظة الأنبار برمَّتها. وأحيانًا كان الجهاديون الأشرار يشعرون داخل الفلوجة بالأمان إلى درجة أنَّهم كانوا يرسلون مقاتليهم إلى هناك من أجل قضاء شهر العسل في الفلوجة.
وفي الأعوام السابقة كانت الفلوجة مركز المقاومة السُّنية ضدَّ نظام ما بعد الحرب في العراق. وكان السُّنة يقاومون التمييز الممنهج، الذي كانوا يعانون منه في عهد رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي. وفي البداية كان الجهاديون يعتبرون كحلفاء لهم، ولكن بعد فترة قصيرة لاحظ السُّنة أنَّ الجهاديين يسعون إلى أهداف مختلفة تمامًا عما كانوا يعتقدون في البداية.
وحتى يومنا هذا لا يمكن القول إنَّ تنظيم "الدولة الإسلامية" قد خسر الفلوجة بشكل تام، على الرغم من أنَّ المحرِّرين قد توغلوا بالفعل إلى مركز المدينة وبات العلم العراقي يرفرف فوق مقر إدارة المدينة والمستشفى. وذلك لأنَّ عملية دحر الميليشيات الإرهابية بشكل تام من هذه المدينة وإمكانية إعادة الحياة الطبيعية إليها، لا تتوقَّف فقط على القوة العسكرية الخاصة بالتحالف المناهض لتنظيم "الدولة الإسلامية".
ضرورة إيجاد آفاق جديدة
ويتَّفق المراقبون للتطوُّرات في العراق على أنَّ النصر العسكري لن يكون له استمرار دائم من دون وجود استراتيجية سياسية جادة. إذ يجب على الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة في بغداد أن تقدِّم للأهالي السُّنة في الفلوجة وغيرها آفاقًا مستقبلية تقنعهم بالعودة إلى مدنهم وإعادة بنائها وكذلك بالمشاركة في العملية السياسية بصورة متكافئة في البلاد. وإلاَّ فسيكون هناك خطر يكمن في وقوع الناس مرة أخرى في أيدي تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي يدَّعي على أية حال بأنَّه المنتقم للأهالي السُّنة.
من الممكن تحرير الفلوجة، على الرغم من استغراق تحريرها وقتًا أطول مما توقعته الحكومة العراقية. فالقائد العسكري لتنظيم "الدولة الإسلامية" - أبو وهيب، المعروف أيضًا باسم أمير الأنبار - قد مات، ومات معه أكثر من ألف مقاتل من تنظيم "الدولة الإسلامية". ومن الواضح أنَّ التعاون بين الجيش العراقي وشيوخ العشائر السُّنية والميليشيات الشيعية والأمريكان قد تحسَّن. وباتت القيادة العليا المشتركة تعمل بنجاح. ولكن السؤال الحاسم سيكون: ماذا سيفعل المُحَرِّرون مع المُحَرَّرين؟ وهل سيتنقم الشيعة من أهالي محافظة الأنبار السُّنة، الذين كثيرًا ما يسمونهم بأنَّهم متعاطفون مع تنظيم "الدولة الإسلامية"؟
من المعروف أنَّ جراح الحرب الأهلية في الفترة من عام 2006 حتى عام 2008 - عندما كان العراقيون الشيعة والسُّنة يقتلون بعضهم بعضًا - لم تلتئم بعد. والآن باتت ندوب هذه الجراح تُهدِّد بالانفتاح. وكذلك لقد تحوَّل مثال الرمادي إلى سيناريو يُهدِّد أهالي الفلوجة ويضعهم في حالة من الخوف والرعب.
وعندما كانت أعداد كبيرة من اللاجئين يهربون من المعارك في مدينة الرمادي - مركز محافظة الأنبار - في مطلع هذا العام نحو الجنوب وقد وصلوا إلى حدود محافظة كربلاء، كانت تنتظرهم عند بحيرة الرزازة ميليشيات شيعية مُتعطشة للانتقام. وقد اختطف أفراد هذه الميليشيات الرجال بشكل خاص، واتَّهموهم بالتعاون مع تنظيم "الدولة الإسلامية" وطالبوهم بفدية من أجل إطلاق سراحهم.
بيرغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة ar.Qantara.de 2016