"أنا الناجي الوحيد من عائلتي"

تحوّل الساحل السوري، موطن غالبية العلويين في سوريا، إلى ساحة قتل على مدار ثلاثة أيام ساد فيها العنف الطائفي بشكل غير مسبوق منذ سقوط نظام بشار الأسد. ووفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، وهي منظمة مقرّها المملكة المتحدة ترصد الصراع السوري، قُتل ما يقرب من 1639 مدنيًا علويًا، فيما لم تصدر السلطات الجديدة إحصاءً رسميًا ودقيقًا للقتلى حتى الآن.
بدأت الأحداث عقب هجمات شنّها مقاتلون موالون لنظام الأسد المخلوع ضد قوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة، مما أسفر عن مقتل العشرات من أفراد الأمن. ردًا على ذلك، أرسلت الحكومة تعزيزات من قوات الفصائل التي تضم جهاديين إلى المنطقة. وسرعان ما خرج الوضع عن السيطرة، وتحوّل إلى عمليات قتل انتقامية ضد المدنيين العلويين.
تحدثنا إلى أربعة ناجين من مناطق مختلفة من الساحل السوري. وقد تم تغيير أسماء بعضهم حفاظًا على سلامتهم الشخصية، ولم اضطر إلى بذل جهد كبير لحثهم على الكلام، إذ انهمرت كلماتهم بغزارة عندما سُئلوا عمّا حدث.
"قتلوا خالي وأبناءه"
اسمي لين (اسم مستعار) عمري 21 عامًا، توفيت والدتي في صغري، وتولّت جدتي لأمي تربيتي في حيّ المروج بمدينة بانياس بمحافظة طرطوس الساحلية، حيث كنّا نعيش في بناء تسكنه عائلتنا الصغيرة، جدتي وأنا في الطابق الأول، وعائلة خالي المكونة من أربعة أفراد، في الطابق الثاني. يعدّ معظم سكان الحي من الطائفة العلوية، بالإضافة إلى بعض المهجّرين من سُنّة حلب الذين تربطنا بهم علاقة طيبة.
في مساء الخميس 6 مارس/آذار، اليوم الأول من المجزرة، سمعنا عن حملات تمشيط أمني ستبدأ في مدينتنا بغاية جمع السلاح، والبحث عن المطلوبين من فلول النظام البائد، حينها اجتمعنا في منزل جدتي، باستثناء خالي، الذي ظلّ في الطابق الثاني، كي يفتح الباب للعناصر التي ستقوم بالتفتيش.
أطفأنا الأضواء وأغلقنا النوافذ، وجلسنا في صمتٍ ورعب نترقب تحركات مريبة في الشارع المواجه لمنزلنا. مع فجر اليوم التالي، انتشرت أخبارًا عن وصول رتل عسكريّ إلى المدينة، لم تمضِ ساعات حتى اقتحم مسلحون ملثمون منزلنا، كانوا يتحدثون بلهجة سورية، وأطلقوا شتائم طائفية.
أمرونا بالركوع، لكن زوجة خالي، بسبب حالتها الصحية، لم تستطع، فشتموها وهددوها بالقتل، حين حاول خالي مساعدتها، طلبوا منه فتح بيته للتفتيش، وبعد لحظات سمعنا صوت رشاش، لنجد أنه قُتل، علمًا بأنه مهندس مدنيّ لا علاقة له بالمؤسسة العسكرية للنظام السابق.
عاد المسلحون إلى منزلنا، وقتلوا أولاد خالي، فتيان يبلغان 17 و18 عامًا، ثم غادروا. بقينا لساعات نبكي فوق الجثتين، في حين كان خالي جثة هامدة في الطابق الأعلى، حتى دخلت مجموعة أخرى من المسلحين، هذه المرة بوجوه مكشوفة، يتحدثون العربية الفصحى، ويبدو أنهم ليسوا عربًا. سرقوا أموالنا وكل ما استطاعوا حمله، وعندما شتمتهم جدتي، ووصفتهم بالإرهابيين، قالوا لها إنهم "لا يقتلون النساء"، ثم غادروا.
بعد ساعة، دوى قرع عنيف على الباب، أسرعتُ مع زوجة خالي للاختباء داخل كراتين قديمة للأدوات المنزلية، إلا أنّ جدتي رفضت الاختباء رغم محاولاتنا الحثيثة لإقناعها.
اتجهت لفتح الباب، فأطلقوا النار عليها، فتشوا المنزل، لكنهم لم يدخلوا الغرفة حيث كنّا مختبئتين، سمعتُ أحدهم يقول بلهجة سورية "مبين فطسوا كلهم"، على الرغم من الذعر، كتمتُ بكائي، وأشرتُ لزوجة خالي، التي كانت على وشك النحيب، بأن تصمت.
بعد نحو ساعة، جاء جيراننا الحلبيون، وأخفونا في منزلهم، مرّت أيام على المجزرة، ونحن لا نزال نختبئ عندهم، كل جيراننا وأصدقائي وعائلاتهم قُتلوا، ولم يبقَ لي أحد سوى خالي الذي يعيش في ألمانيا، ويحاول مساعدتي على الهجرة.

أين أحمد؟
يشعر أهالي السوريين المختفين قسريًا بتخلي الحكام الجدد عن قضيتهم بعد سقوط الأسد. فيما يتجول بعضهم في شوارع العاصمة دمشق بحثًا عن أحبائهم وسط ضياع الأدلة.
"وجدنا والدي غارقًا في دمائه"
أنا "لارا" (اسم مستعار)، الابنة الأكبر لعائلتي، أبلغ 22 عامًا، وأعيش مع والديّ وأخوتي في حيّ القصور بمدينة بانياس، الحي الذي شهد أكثر فصول المجزرة دموية. في يومها الأول، دوت أصوات الرصاص والانفجارات في كل مكان، فالتزمنا منزلنا مرعوبين، انقطعت الاتصالات، فلم نتمكن من معرفة ما يجري في الخارج، لكن عبر النافذة، شاهدنا مسلحين يملؤون الحي، وسمعنا إطلاق نار داخل البناء الذي نقطنه.
كنا نعتقد أننا في مأمن، فليس لعائلتنا أيّ صلة بالمؤسسة العسكرية، لكن مساء ذلك اليوم، أُعلِن عن النفير العام عبر الجوامع، وانتشرت دعوات "الجهاد ضد العلويين"، وتعالت أصوات التكبير والشتائم الطائفية في الحيّ. عند فجر الجمعة (7 مارس/أذار)، اقتحم مسلحون بيت جيراننا، وأطلقوا النار على قفل الباب، تعالت أصوات الصراخ والعويل، وعرفنا أن أحدهم قد قُتل.
كنت أرتجف من الرعب، ولم أشعر في حياتي بخوف مماثل، أصواتهم جعلتني أرتعد، إلا أنّ هدوء والدي كان يخفف من توتري.
بعد قليل، طرقوا باب منزلنا بعنف، أشار لنا والدي ليطمئننا، وقال: "سيفتشون البيت ولن يجدوا سلاحًا، ثم سيغادرون"، ففتح لهم الباب بابتسامة توحي بأنه غير خائف، لكن أحدهم عاجله بسؤال: "أنت سنّي أم علويّ؟" أجاب والدي: "علويّ". سبّه المُسلح وطلب هويته، ثم وجه سلاحه إلى رأسه وساقه نحو الخارج.
انتظرناه لساعات، لكننا لم نحتمل البقاء مكتوفي الأيدي، فنزلتُ مع والدتي بحثًا عنه، وعندما وصلنا إلى الطابق الثاني، وجدناه غارقًا في دمائه على الدرج، فقد أطلقوا عليه الرصاص في الرأس والصدر والمعصم.
بينما كنا ننتحب فوق الجثة، ظهرت مجموعة مسلحين أجانب، وهددونا بالقتل إن لم نعد إلى منزلنا، حملتُ مع والدتي جثة أبي إلى الداخل، وبقينا بجوارها يومًا كاملًا، وللمفارقة، رغم الفزع، شعرتُ بالأمان وأنا أنام إلى جوار والدي القتيل.
"لاحقنا المسلحون إلى البريّة"
أنا محمد، أبلغ من العمر 35 عامًا وأعمل حطّابًا، في صباح يوم الجمعة، وصلت سيارات مزوّدة بمكبرات صوت إلى قريتنا المختارية، الواقعة في ريف اللاذقية، كانت تصدح بأناشيد جهادية إسلامية، بينما تكدّس بداخلها عشرات المسلحين، بعضهم أطلقوا لحاهم وشعورهم، وآخرون كانوا ملثمين.
ما إن توقفوا حتى بدأوا بإطلاق النار بشكل عشوائي في أنحاء القرية، قبل أن يقتحموا البيوت، ويقتلوا سكانها العزل دون أيّ مقاومة، لم يكن هناك أيّ اشتباك، فقط إطلاق رصاص من طرفٍ واحد، وأصوات صراخ تتصاعد من كل منزل.
كنت في منزلنا حيث أعيش مع والدتي الثمانينية وشقيقاتي، وحين بدأ الهجوم، لم نجد وسيلة للنجاة سوى الفرار إلى الأحراش القريبة من منزلنا. شيئًا فشيئًا، بدأت عائلات أخرى بالوصول إلى هناك، أغلبهم من النساء والأطفال المذعورين، بالكاد يستطيعون كتم أنفاسهم، علمنا أنّ المجزرة حصدت أرواح المئات من أبناء قريتنا، ومن بين الضحايا أقاربنا وجيراننا، بل إنّ بعض العائلات أُبيدت بالكامل.
بقينا في الأحراش ليومين بلا طعام أو ماء، ودون وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي، وإلى جانب الحيوانات البريّة، لم نكن بأمان، فسرعان ما لاحقنا المسلحون، وبدأوا بإطلاق النار عشوائيًا باتجاهنا، فسقط المزيد من الضحايا.

متحدون لا متجانسون
يستخدم أنصار الأسد مصطلح العلمانية لتشويه الثورة، وفي المقابل يسعى المعارضون لإعادة تعريفه. فيما تجادل الكاتبة ليلى الشامي، في مقالها بأن المجتمع العلماني أفضل من يمثل النسيج الاجتماعي المتنوع في سوريا.
الناجي الوحيد
اسمي نبيل (اسم مستعار) وعمري 45 عامًا، وأنا الناجي الوحيد من عائلتي التي قضت بمجزرة قرية الصنوبر في ريف مدينة جبلة، التابعة لمحافظة اللاذقية. فقد دخل المسلحون من ثلاث جهات، إلى الصنوبر، تلك القرية الصغيرة، التي يحدّها من الغرب البحر، المخرج الوحيد، وحين بدأ الهجوم، لم يكن هناك وقت للتفكير لعائلتنا إلا بالنجاة.
قررنا الفرار نحو مقام لشخصية دينية مقدسة، ظننتُ أنّ الاختباء خلفه سيحميني، ركضتُ مع عائلتي، لكن عند منتصف الطريق وجدناهم بانتظارنا، فبدأوا إطلاق النار. سقط أبي أولًا، ثم أخي، ثم أخي الآخر، ثم ابنه، تبعتهم زوجتي، ثم ابني.
لم أتمكن من إنقاذ أحد، لم يكن هناك وقت للحزن، فالجميع ماتوا في لحظات، واصلت الركض حتى وجدت ساقية ماء عند المقام، غطستُ فيها، أرفع رأسي كل بضع دقائق لأتنفس، بقيتُ هناك لساعات.
وحين هدأت الأصوات، عدتُ إلى المكان الذي قتلوا فيه عائلتي، وجدتهم مرميين جنبًا إلى جنب، لم أستطع فعل شيء، شعرتُ بالعجز، وسيلازمني حتى الموت، ذنب الناجي.
© قنطرة