عن الإصلاح السياسي في دولة ريعية
بعد أن اجتاح الربيع العربي عددًا من الدول العربية، لماذا لم تقم ثورات أو احتجاجات في دول الخليج؟ ولِمَ ينخفض سقف المطالب الإصلاحية فيها؟ ولماذا لا يُناضل الخليجيون من أجل الحصول على إصلاحات سياسية ودستورية؟
هذه الأسئلة تتردد دومًا في بعض الأوساط الغربية والعربية وحتى الخليجية، ورغم عدم دقتها، إلا أنها تستحق النقاش ومحاولة شرح طبيعة المجتمعات الخليجية وأنظمة الحكم فيها، وما المُمكن والمُتاح في الوسط السياسي الخليجي، مع استحضار هامش الاختلاف والتباين بين دوله ومجتمعاته.
هناك نقاشٌ طويل في حقلَيْ علم الاجتماع والفلسفة السياسية حول مفهوم «الشرعية» في الكيانات والدول، قديمًا وحديثًا، وأنماطها وكيف تتحقق. ورغم الاتفاق على أن أمثلها وأكثرها شرعية وحداثة يتمثل في «العقد الاجتماعي»، أو «الشرعيّة الدستورية» أو القانونية، بحسب اختلاف التسميات، إلا أن هناك استعراضًا تاريخيًا وحديثًا لأنماط مُختلفة من الشرعيات.
وباعتبار «الشرعية» تتجاوز فكرة احتكار العنف، إلى وجود قدر من القبول الشعبي بالسلطة، «سُلطة فعلية، تمتلك قدرًا من القبول، وحقًا في الحُكم، وتخلق التزامات سياسية»، كتب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، الذي يُعد أهم من تحدّث بتكثيفٍ عن مفهوم الشرعيّة السياسية، واشتغل على نصوص جون لوك ومونتسكيو وجان جاك روسو وإيمانويل كانط وهيغل، وسواهم، أن التفكير في الدولة والسُلطة، وتحليل نظام اشتغالهما، لا يستقيم إلا من مدخل التفكير في سؤال الشرعية، والنمط الذي عليه تقوم الشرعية في هذا النموذج أو ذاك من سلطة الدولة. وبعد اشتغال نظري موسّع تحدث فيبر عن ثلاثة أنماط ونماذج لمفهوم الشرعية. أولها؛ الشرعية «التقليدية» المُرتبطة إما بالتاريخ أو بالنسب والولاء القبلي أو الديني، وسوى ذلك «ومنها العصبية بالمفهوم الخلدوني»، وهي التي قامت عليها معظم الدول والكيانات قديمًا وبعض الكيانات الحديثة. وثانيها؛ شرعيّة «الكاريزما» المرتبطة بالحضور الشخصي الطاغي للزعيم أو بالإنجاز الذي حققه، كقيام زعيم بتأسيس دولة، أو تحرير الأرض، أو قيادة ثورة سياسية، وسوى ذلك «كالإسكندر المقدوني قديمًا، وعبد الناصر وأتاتورك حديثًا». وثالثها؛ الشرعيّة العقلانية أو القانونية «الدستورية» الحديثة، المرتبطة بالديمقراطية والانتخاب.
وبعد فيبر، توسع الحديث عن أنماط الشرعية للدول والمنظمات والشخصيات، مثل الحديث عن الشرعية الثورية والنضالية لقادة الحركات الاحتجاجية، أو شرعية مُقاومة الاحتلال، أو الشرعيّة العائلية أو الطائفية، كما نراها عند بعض الطوائف اللبنانية اليوم، وجميع هذه الأنماط قد تُنتج كيانات لها شرعية وقبول اجتماعي «شرعيّات أمر واقع»، وإن لم تقم غالبًا على أساس انتخاب.
وفق هذا المدخل، يمكن الحديث عن طبيعة الاختلاف بين الأنظمة السياسية في الخليج عن معظم الأنظمة في الدول العربية الأخرى -ثمة تشابه مع المغرب مثلاً-. فابتداءً، تختلف دول الخليج في تكوينها وتاريخها من حيث كونها أنظمة مَلكية لها تاريخ في الحكم يمتد إلى 250 عامًا، الأمر الذي يمنحها ما يعتبره بعض الباحثين «شرعيّة تاريخية» (جميع العوائل الحاكمة في السعودية والكويت والبحرين وعُمان وأبو ظبي تأسّس حكمها في الفترة بين 1740 و1770، فيما تأسس حكم آل ثاني في قطر عام 1850). وفي السعودية يُضاف إلى الامتداد التاريخي للحكم، مُنجز توحيد جغرافيا ضخمة في بلد واحد، وقد كانت هذه الجغرافيا طوال قرابة الألف عام -منذ العهد العباسي الثاني- لا تخضع لحكم دولة واحدة، بل مُقسمة وخاضعة لهيمنة عدة دول، وأحيانًا تتشظّى في عدد كبير من الإمارات المحلية، الأمر الذي يجعل من الوحدة الحالية لهذه الجغرافيا في كيان واحد، مرتبطة بالنظام السياسي الذي قام بتوحيدها.
ولأخذ نموذج لما تعنيه «الشرعيّة التاريخية»، يمكن الإشارة إلى تجربتين، أولاهما: في الدولة السعودية الأولى، استمرت الحروب والمعارك بين إمارتي الدرعية والرياض -بينهما 15 كيلومتراً فقط- 27 عامًا (من 1746 وحتى 1773)، توفي خلالها مؤسس الدولة السعودية الأولى محمد بن سعود. وبعد كل هذه السنين استطاعت إمارة الدرعية ضم الرياض إلى دولتها الجديدة، فيما استمرت معارك الهيمنة على معظم الأراضي النجدية ما يزيد على الأربعين عامًا. والسبب في طول المدة هو وجود عشرات الإمارات المستقلة في نجد -كلٌ منها نموذج مُصغّر للدولة/المدينة- والتي كانت تتعامل بندية مع إمارة الدرعية ودولتها الجديدة، ولا تجد لها استحقاقًا بالهيمنة. ولكن، بعد ذلك بمئة وثلاثين عامًا، حين قدم عبد العزيز بن سعود لإعادة الهيمنة على نجد -فيما سُمّي بعد ذلك الدولة السعودية الثالثة- لم يستغرق الأمر سوى بضعة أشهر حتى استطاع استرجاع معظم أقاليم نجد مثل العارض والوشم وسدير والمحمل والخرج، وخلال سنتين ضم القصيم وغدت معظم الأراضي النجدية تحت سيطرته. ورغم محدودية الإمكانات، سلّمت له معظم البلدات النجدية طوعًا لأنها كانت تعترف بشرعيّة تاريخية، امتدت لأكثر من قرن، لعائلة الحكم السعودي. أما الثانية: فكانت عندما غزا صدّام حسين الكويت عام 1990، وخرجت العائلة الحاكمة مع معظم الشعب الكويتي وأغلب الشخصيات السياسية والناشطة إلى خارج الكويت. حينها لم يكن لعائلة الحكم في الكويت أي سُلطة أو سطوة لفرض شرعيتها على الشعب، بل وكانت العلاقة بين السُلطة والمعارضة في السنوات الأربع التي سبقت الغزو في أسوأ حالاتها، بعدما حلّ أمير البلاد مجلس الأمة حلًا غير دستوري عام 1986، ورفض عودة الحياة السياسية، وعلى إثر ذلك قامت المعارضة بالضغط والتصعيد في الشارع. ورغم ذلك، حين حصل الغزو، أجمعت الفعاليات الشعبية والقوى السياسية والاجتماعية الكويتية المُعارضة والمُوالية -حتى العروبية واليسارية منها- على التمسك بشرعيّة العائلة الحاكمة والمُطالبة بعودتها إلى الحكم، مع اشتراط عودة الحياة السياسية، وتحقيق مطالب إصلاحية.
إضافة إلى شرعيتي التاريخ والتوحيد، يمكن اعتبار وجود «الريع» من مداخيل النفط والغاز الضخمة، والتي تأتي من خارج الدورة الإنتاجية للمجتمع، عامل الاختلاف الثاني بين دول الخليج وبقية الدول العربية.
فمنذ وثيقة الماجنا كارتا في بريطانيا عام 1215، والتي وضعت قاعدة «لا ضريبة من دون تمثيل سياسي»، وحتى العصر الحديث، تبدو العلاقة الجدلية بين المجتمع والسُلطة مبنية على توازن القوى وصراع القدرات والإمكانات، فيما تتكرّس القاعدة المُطردة أنه كلما ضعف المجتمع وارتبطت موارده ومداخيله بالسلطة، زاد ذلك من هيمنتها وسطوتها. وكلّما قوي المجتمع سياسيًا واقتصاديًا واستقلت موارده عن السلطة، ضعفت قدرة السلطة على الاستبداد، وصارت الدولة أكثر حرية وديمقراطية.
في دول الخليج، لا تكتفي السلطة بالاعتماد على دخل النفط والغاز، من دون الحاجة إلى فرض ضريبة على الدخل، بل وتقوم بتوزيع الريوع على شكل وظائف، وقروض عقارية، وتعليم واستشفاء مجّانييْن، وبعثات دراسية، وعلاج في الخارج، ومِنَح لأراضٍ أو مساكن، وبطاقات تموين، وسوى ذلك. كما تعتمد في تكريس حضورها وشرعيتها -رغم وجود معدلات فساد متفاوتة من بلد إلى آخر- على الإنجاز والتنمية والتحديث وتطوير الاقتصاد والبنية التحتية وبناء دولة الرفاهية. ما يكرّس نمط العلاقة «الأبوي» بين المجتمع والسلطة، فلا المجتمع يستطيع الاستقلال عن شريان الحياة والتمويل الريعيّ، ولا السُلطة ستكفّ عن استغلال ذلك لفرض مزيد من الهيمنة، وتهميش الفاعلية السياسية للمجتمع. وحتى قدر واسع من القطاع الخاص في الدولة الريعيّة ليس مستقلًا عن السلطة، بل يعتمد على مشاريع الإنفاق الحكومي، بكل ما تتضمنه من اعتبارات وشروط وإملاءات.
ورغم ارتفاع مداخيل دول الخليج من عائدات النفط والغاز وسواهما، تُشير النسبة التي يشكلها بند الرواتب والأجور من ميزانية هذه الدول إلى حجم العلاقة الريعية الأبوية بين المواطن والدولة (في السعودية تمثل الأجور 52% من ميزانية الدولة، وفي الكويت 55%، وفي البحرين 55%، وفي عُمان 60%، أما في قطر فتبلغ نسبة الأجور 28% من ميزانية الدولة، وذلك بسبب قلة عدد المواطنين مقارنة بحجم المداخيل، أما الإمارات فهي دولة اتحادية، ولكل إمارة من الإمارات السبع ميزانية مستقلة)، وهذا من دون احتساب بنود أخرى متعلقة بدعم الوقود وبعض المنتجات والخدمات مثل الكهرباء والماء، وكذلك القروض العقارية ومنح الإسكان وبنود الرعاية المختلفة والموجهة للمواطن بشكل مباشر، والتي -في حال احتسابها- قد ترفع نسبة ما يتحصل عليه المواطن في بعض دول الخليج إلى 75% من ميزانية الدولة. ويمكن مقارنة ذلك مع معدلات أوروبية؛ حيث يشكل بند الأجور 22% من الميزانية البريطانية، و18% من الميزانية الفرنسية، و15% من الميزانية النرويجية. وفي الشرق الأوسط، يُشكل بند الأجور 23% من الميزانية التركية، و22% من ميزانية إسرائيل. أما في مصر، فرغم انخفاض حجم الميزانية نسبة إلى عدد السكان مقارنة بدول الخليج، لا يتجاوز بند الأجور نسبة 13% من مصاريف الميزانية المصرية للعام 2022.. وجميع الأرقام المذكورة هي بحسب المعلومات الرسمية المتوفرة بين الأعوام 2019 و2022.
وبسبب هذه الطبيعة في التاريخ والتكوين والريع والتنمية، يعمل أغلب النشاط السياسي في الخليج تحت لافتة القبول بشرعيّة أنظمة الحكم، مع سقف مطالب مُرتبط بإصلاحات دستورية ومشاركة شعبية في القرار السياسي، والسعي لإضافة الشرعيّة الدستورية (العقد الاجتماعي) إلى «شرعيّات» التاريخ والتوحيد والتنمية. وبالطبع لا يمكن نفي وجود أفراد أو مجموعات تدعو إلى إسقاط الأنظمة الخليجية أو بعضها، لكنها بلا حيثية محلية أو تأثير. ويمكن استثناء البحرين من ذلك لطبيعة تكوينها الطائفي، وهوية جزء من المعارضة فيها.
وكلما زاد الريع، زادت قدرة السلطة على السيطرة والتحكم وانخفضت فاعلية المجتمع في التأثير السياسي؛ «يمكن ملاحظة الفرق بين نموذجَي الإمارات وقطر كتجلٍ أقصى للريع، والبحرين وعُمان كنموذجين مُنخفضي الريع خليجيًا». أما في السعودية، فمع الإجراءات الاقتصادية المتتابعة في السنوات الأخيرة، مثل: تقليص التوظيف الحكومي، وإلغاء الدعم أو تخفيفه عن كثير من المنتجات والخدمات مثل البنزين والكهرباء والماء، وسواها، وتقليل الاعتماد على النفط، وتطوير قطاعي الخدمات والإنتاج، وتقوية القطاع الخاص والاستثمار المحلي والخارجي. كل ذلك سيصبّ مستقبلًا في صالح تقوية المجتمع، ومزيد من استقلاله الاقتصادي عن الريع والسُلطة.
لذلك، فنحن أمام مجتمع خليجي تتضافر فيه كل هذه العوامل لتُنتج لنا هذا المزيج الخاص والمُعقّد.. وإلا، فمثلاً رغم أن ليبيا القذافي هي دولة ريعية أيضًا، ولكنها تختلف بوضوح في تكوينها وطبيعة السلطة فيها عن دول الخليج. فالقذافي لا يمتلك شرعيّة تاريخية، فقد أتى بانقلاب عسكري، ولا «شرعيّة إنجاز» في بلدٍ تركه شبه معدوم التنمية، ولا حتى بتوزيع قدر من مكتسبات الريع على المواطنين، إضافة إلى سياسة القمع العنيف، والتاريخ الدموي الطويل مع الشعب، الأمر الذي أدى إلى اشتعال الثورة.
في أي حديث أو اختبار لـ«سقف المُمكن» في الإصلاح السياسي في دول الخليج، لا بد من استحضار تجربة الكويت، لكونها الأقدم في النشاط السياسي خليجيًا، والأكثر اتساعًا في مساحة التجربة وفي هامش الحريات. تأسس مجلس الشورى عام 1921 بعد ضغوطات ومُطالبات من وجهاء المجتمع الكويتي من أجل المشاركة في اختيار الحاكم الجديد بعد وفاة أمير الكويت آنذاك سالم المبارك الصباح، وكذلك المشاركة في القرارات السياسية والاقتصادية في البلد، مرورًا بالمجلس البلدي المنتخب عام 1932، ثم انتخاب مجلس المعارف عام 1936، وما تلاه من التأسيس السري للكتلة الوطنية وقيامها بحشد الشارع الكويتي وتوزيع المنشورات المطالِبة بالإصلاح السياسي، والكتابة عن ذلك في الصحف العراقية، وهو ما أدى إلى انتخاب المجلس التشريعي الأول عام 1938، الذي قام بوضع القانون الأساسي لنظام الحكم.
ولم تكن المطالبات الإصلاحية في الكويت لتمر بهدوء منذ مراحلها الأولى، بل شهدت كثيرًا من المُشاحنات والصراعات واعتقال عدد من الناشطين والوجهاء، بل ووصلت إلى إطلاق الرصاص على المُحتجين، وهو ما أدى إلى مقتل محمد القطامي وإصابة يوسف المرزوق، وما تلاه من الإعدام الذي نُفذ بساحة الصفاة في محمد المنيّس -وجميعهم أعضاء في الكتلة الوطنية- إثر الاحتجاج الذي تفاقم بسبب تعطيل أعمال المجلس التشريعي عام 1939. وشهدت العقود التي تلت ذلك عشرات المُطالبات بالإصلاح السياسي، وصاحبها كثيرٌ من أعمال الاحتجاج والتظاهر والمواجهات السياسية وحشد الشارع وتأسيس الحركات والجمعيات السياسية.
ما يمكن تلخيصه بعد قرن من النشاط السياسي في الكويت، أن ثمة ملامح عامة لطبيعة النظام والمجتمع هناك، أهمها: أن وعي نُخب المجتمع بالحقوق السياسية كان مبكرًا، وأن مساحة التجربة وخوض غمار العمل السياسي اتسعت وشملت شرائح واسعة من المجتمع الكويتي، وأن التجربة الانتخابية -البلدية والبرلمانية- كانت مُبكرة مقارنة ببقية دول الخليج، وأن تعامل المجتمع ونخبه التجارية والسياسية بنديّة مع السلطة، كان المَلمَح الأبرز في كثير من مراحل العمل السياسي في الكويت، وكان هناك حضور مبكر لنشاط التنظيمات القومية واليسارية في الخمسينيات والستينيات، ثم الإسلامية في السبعينيات وما تلاها. وأن شرائح واسعة ومؤثرة في الوسط السياسي الكويتي اعتادت منذ عقود العمل المنظم في كُتل وتحالفات وجمعيات سياسية.
وفي المقابل، كانت السُلطة في معظم مراحلها تتسم بعدم التشدّد ومحاولة التسوية وعدم القطع مع المجتمع ونخبه، وعدم اللجوء إلى القمع سوى في فترات محدودة. وكان حضور العلاقة الوشائجية المُباشرة بين كبار رجالات السُلطة -الأمير وولي العهد الذي كان يرأس الحكومة أيضًا- ظاهرة لافتة، فالأمير وولي عهده يزوران بعض الدواوين، ويحضران بشكل شخصي بعض مناسبات الزواج والعزاء، ولهما علاقة شخصية بعدد واسع من نُخب المجتمع. نتج من ذلك أنه لم يكن في الكويت -قبل عام 2011- ظاهرة اعتقال سياسي، ولم يكن هناك معارض واحد ينشط من الخارج، بل وصل مستوى ما يمكن اعتباره «ليونة» في التعامل مع بعض الملفات. مثلًا، من قاموا بمحاولة اغتيال حاكم الكويت الأمير جابر الأحمد الصباح في مايو 1985، والذي راح ضحيته ثلاثة قتلى و12 مصابًا، تم اعتقالهم لفترة، ثم فروا من السجن عقب غزو الكويت عام 1990. وآخرها ما حصل في التعامل مع «خلية العبدلي» المُرتبطة بحزب الله وإيران، التي تم الكشف عنها عام 2015، ووجدوا في مخازنها أسلحة متوسطة وخفيفة وذخائر ومُعدات تفجير وصواعق وقذائف وسوى ذلك، وتم اعتقال أعضاء الخلية لعدة سنوات، ثم أُفرج عنهم بعفو أميري قبل شهور.
عقب 2011، ووسط اشتعال الربيع العربي وبدء المظاهرات والاحتجاجات في عدد من الدول العربية، زادت وتسارعت وتيرة الاحتجاجات في الكويت، وشاركت قطاعات واسعة من الشعب في التجمّعات والمسيرات. بل يمكن الزعم أنه في الكويت خرجت النسبة الأعلى من المُحتجين عربيًا؛ حيث خرج ما يقارب المئة ألف متظاهر في مسيرة كرامة وطن، من تعداد الكويتيين الذي يُقارب المليون. لم يخرج 10% من المواطنين للتظاهر في أي دولة عربية. وما يميز هؤلاء المتظاهرين عن نظرائهم في بقية الدول العربية أنه لا دوافع اقتصادية شخصية للاحتجاج، بل دوافع سياسية وإصلاحية محضة، فيما خرج كثيرٌ من المُحتجين في الدول العربية لأسباب اقتصادية ومطلبية. الأمر الذي يجعل دوافع الاحتجاج في الكويت أكثر جذرية وعمقًا لكونها مُرتبطة بموقف سياسي لا حاجة اقتصادية.
فنحن إذًا أمام مشهد عربي مُختلف، وعي مجتمعي مُبكر، ونشاط سياسي وعمل تنظيمي امتد عقودًا، والنسبة الأعلى من المُحتجين عربيًا، وبدوافع سياسية لا مطلبية للاحتجاج، في مُقابل حكومة تتعامل في معظم تاريخها بقدر من الليونة والتسويات وتجنّب القمع، ويرتبط قادتها بعلاقة مباشرة مع شريحة من نُخب المجتمع. لكن، كل ذلك كان يتم ويتفاعل في «مُختبر خاص» ومُختلف عربيًا اسمه «الدولة الريعية»، فالغالبية العُظمى من المُحتجين موظفون في الحكومة أو في قطاع خاص مرتبط بالحكومة، ومُعتادون على نمط من الرفاهية الناتج من الريع والإنفاق المرتبط بقرار السُلطة. وهنا يلعب الريع لعبته الأثيرة، ونفهم لِمَ يسميه عدد من دارسي الأنظمة السياسية بـ«لعنة الموارد». فما نتيجة هذه المواجهة والاحتجاج والمطالب من مُجتمع فاعل ومسيّس تجاه سلطة غير متشددة ولكن في دولة ريعية؟.. تحولت السلطة إلى القمع والعنف، واعتقلت العشرات، كان منهم بعض من أبرز زعماء المعارضة، وقضى بعضهم عدة سنوات في السجن، واستطاعت تفكيك المعارضة وتقسيمها بالترهيب والترغيب، وأصدرت أحكامًا بالسجن على عشرات الناشطين والسياسيين، كثيرٌ منهم اضطر إلى الخروج والعيش في المنفى لسنين. وحصل لأول مرة في تاريخ الكويت أن كانت هناك عدة طلبات لجوء سياسي لمواطنين كويتيين في دول غربية. بل وصل الأمر إلى استخدام سلاح لم يُستخدم عربيًا بهذا الشكل من قبل، وهو سحب الجنسيات وإلغاء المواطنة!.. استُخدم بشكل ممنهج خليجيًا، بدءًا من قطر، ثم الإمارات، فالبحرين والكويت. وكانت النتيجة أن عاد الوضع إلى أسوأ مما كان عليه قبل 2011.. وبعد فترة من الاحتقان السياسي والمُراوحة، تمت إعادة التموضع بين مجموعات المعارضة من جهة -وبينها اختلاف وانقسام- والسلطة من جهة أخرى، في إطار موازين قوى جديدة، وسقوف منخفضة، رسمها مشهد انكسارات الربيع العربي بعد 2013، من دون أن يخلو المشهد من موجات صعود أو هبوط، كما حصل في أحداث يونيو الماضي، لكن ضمن مسار مُحدد ومحكوم.
وإذا كانت هذه هي نتيجة الاحتجاجات في الكويت وفق طبيعة المجتمع والسلطة المُشار إليها، فيمكن حينئذٍ تأمل مساحة «المُمكن» و«السقوف المتاحة» للعمل والنضال السياسي في بلدان مثل السعودية والإمارات، وفيهما مجتمعات محدودة الخبرة والنشاط السياسي، وسلطات قوية ومسيطرة، ولا تتردد في اتخاذ قرارات عنيفة (أعدمت السعودية في مارس الماضي 81 شخصًا في يوم واحد) مُقارنة بما كانت تفعله السلطات في الكويت. ولا أدلّ على ضعف المجتمع في مواجهة السلطة من عجز التيار الإسلامي المُحافظ في السعودية، باتجاهيه التقليدي والحركي، رغم اتساع حضورهما وعمقهما الاجتماعي، عن الاحتجاج أو حتى مجرد انتقاد بعض من قرارات الانفتاح الاجتماعي الجريئة التي اتخذتها السلطات في السعودية.
مايكل روس، الأستاذ في جامعة فلوريدا، نشر كتابًا بعنوان «لعنة النفط.. كيف تؤثر الثروة النفطية على نمو الأمم؟»، شرح فيه بتحليل موسع تضمن عشرات الأرقام والجداول والإحصاءات، الصعوبة البنيوية في إمكانات الإصلاح السياسي داخل جهاز السلطة في الدولة الريعية، وقد حَمَلت فصول كتابه عناوين لافتة، من مثل «نفط أكثر، ديمقراطية أقل. النفط يُديم النظام الأبوي. العنف المُرتكز على النفط» وشرح فيها بالأرقام طبيعة التناسب العكسي بين حجم مداخيل الريع وإمكانية الإصلاح السياسي، ومدى سطوة الدولة وتغولها، وقدرة السُلطات المتسلحة بعائدات النفط على اكتساب الدعم الشعبي، وشراء الولاءات، والتضييق على الخصوم، وبناء أجهزة أمن قوية، وصناعة وسائل إعلام مؤثرة. وقد ذكر جملة تكثِف فكرته بوضوح دوي الرصاصة المُنطلقة في الهواء، عندما كتب أن «النفط والديمقراطية لا يمتزجان بسهولة».
أما لاري دايموند، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد، والمُتخصص في التحول الديمقراطي، فتحدث في كتابه المهم «روح الديمقراطية.. الكفاح من أجل بناء مجتمعات حرة» عن الكيفية التي يعوق بها الريع قدرة المجتمعات على المطالبة بالحقوق السياسية. وفي فصلٍ عنونه بذات العبارة «لعنة النفط»، استعرض الوضع السياسي في دول كان فيها قدر نسبي من الديمقراطية مثل نيجيريا وفنزويلا وتشاد والسودان وكازاخستان، ثم شهدت انتكاسات بعد تزايد الإنتاج النفطي لديها. في مقابل دول ازدهرت فيها الديمقراطية بالتزامن مع تراجع عائدات النفط، كما حصل في إندونيسيا والمكسيك أواخر تسعينيات القرن الماضي. وفي سياق هذا الاستعراض، أشار إلى الحقيقة التي وصفها بالمُدهشة، وهي أن المشترك الرئيس في الثلاث والعشرين دولة التي يهيمن النفط على معظم اقتصاداتها، هو انعدام الديمقراطية فيها. وتحدث عن كيف أن السلطات في الدول النفطية تملك مقدرات هائلة، تستخدم قدرًا جيدًا منها في بناء أجهزة القمع وتثبيتها، واستخدام أحدث تقنيات المُراقبة والتتبع، والعمل على تقويض استقلالية منظمات المجتمع المدني.
أما الباحثان الألمانيان، توماس زايفرت وكلاوس فيرنر، اللذان اشتغلا لسنوات في دراسة العلاقة بين النفط والسياسة والفساد والحروب وحقوق الإنسان وطغيان الدول، ثم كتبا كتابًا مشتركًا بعنوان «السجل الأسود للنفط»، فقد عنونا أحد فصول الكتاب بـ«الطغيان النفطي.. المصل المُضاد للديمقراطية»، وتحدّثا بتوسع عن علاقة النفط بالاستبداد السياسي والهيمنة على كل مفاصل السلطة والحياة السياسية في البلدان النفطية. وشرحا باستفاضة ما أُطلق عليه «المرض الهولندي»، وهو مصطلح يشير إلى التجربة الهولندية في منتصف القرن العشرين؛ حين بدأ تدفق الغاز بكميات هائلة من بحر الشمال، الأمر الذي عاد بمداخيل مرتفعة وغير متوقعة على الحكومة الهولندية، وانعكس ذلك على ارتفاع معدلات الدخل عند المواطنين، وزيادة الواردات، وازدهار التنمية الاقتصادية، وفي المقابل انخفضت الصناعات التحويلية والقطاعات الإنتاجية، وارتفعت تكلفة المنتجات المحلية، الأمر الذي أدى إلى تراجع في قدرتها التنافسية، وتراجع التصدير مقابل انخفاض كلفة الواردات وازدياد معدلاتها. وهو ما تسبب بضعف الاقتصاد الصناعي والإنتاجي، واعتماد المواطنين أكثر على دخل الريع، وشيوع حالة من الكسل والتراخي الوظيفي والميل إلى الترف والراحة وارتفاع معدّلات الإنفاق الاستهلاكي. وصبّ كل ذلك في ضعف فاعلية المجتمع، لكن السلطات الهولندية، وبعد عقدين من الزمن، استطاعت تدارك ذلك، وتقليل الاعتماد على الريع، وتفعيل القطاعات الإنتاجية مجددًا.
وفي ذات السياق، تحدث الدكتور يوسف خليفة اليوسف في كتابه المهم «الفساد في البلدان العربية النفطية» عن تأثير النفط في إمكانات الإصلاح السياسي. وتحت فصل بعنوان «مُقايضة الحرية بالرفاه» شرح كيف تتم هذه المقايضة باعتبارها عملية شراء لحقوقك السياسية، مقابل مداخيل مرتفعة وخدمات وتنمية وشبه انعدام في الضرائب.
خلال القرن التاسع عشر وما قبله، وحتى العقود الأولى من القرن العشرين، وباستثناء مكة والمدينة -لأسباب دينية بالطبع- كانت السمة الغالبة لمعظم أرجاء الجزيرة العربية هي أنها طاردة للبشر، وكانت الهجرات المتوالية من المنطقة، لأسباب اقتصادية، سعيًا للتجارة أو الاستقرار، سمة بارزة للسكان. كان أهل السواحل يعملون في استخراج اللؤلؤ والتجارة، وسكان البلدات والقرى الداخلية بين التجارة والزراعة والرعي، إضافة إلى وجود الصنّاع والحرفيين وعمال البناء وسواهم.
«العقيلات» هو المصطلح الذي أُطلق على التجار الذين انطلقوا من وسط الجزيرة العربية إلى الشام والعراق ومصر للتجارة ونقل البضائع على امتداد قرنين من الزمان، وبموازاة النشاط الاقتصادي خلقوا مسارات للتواصل الاجتماعي والثقافي بين أواسط الجزيرة العربية والحواضر العربية الكبرى، كما كان لبعض تجار الخليج ونجد صلة وثيقة بالهند وحضور تجاري بارز فيها، وكانت الروبية الهندية هي العملة الأكثر شيوعًا واستخدامًا في ساحل الخليج. كان شظف العيش، وخشونة الحياة، وقلة الموارد، والطقس القاسي، والسعي للرزق عبر السفر والتغرّب لسنين، والعمل في المهن الشاقة والصعبة، هي السمة الأبرز لهذه الجغرافيا الصحراوية وأهلها، وثمة مئات القصص والتجارب والمرويات التي سُجِلت في كتب ومدونات تحكي عن الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية لهذه المناطق وقسوة الحياة فيها.
ثم مرت عقود من الزمن شهدت متغيرات اجتماعية واقتصادية ضخمة وسريعة؛ استقرار سياسي، وبدء تدفق النفط ثم الغاز بكميات تجارية متصاعدة، الأمر الذي مكّن من حصول قفزات كبيرة في التنمية والتعليم والصحة والنقل والبنية التحتية، ونشوء ثم اتساع الطبقة الوسطى، وتكوّن المدن الحديثة التي تتضمن كل الخدمات ووسائل الرفاهية، وساهم بعد ذلك في دراسة عشرات آلاف الطلاب في الجامعات الأوروبية والأمريكية. كل ذلك دفع هذه المجتمعات باتجاه مجموعة من التحولات والأنماط والطبائع والأعراف التي خلقها أو عززها الريع والرفاهية الاقتصادية في هذه الجغرافيا.
ثمة قدر من الاختلاف والتنوع لدى دول الخليج الست، ولكن يُمكن -تجاوزًا- تقسيمها إلى مجموعتين رئيستين من ناحية الحالة الاقتصادية للمواطنين وعلاقتهم بالريع ومتوسط دخل الفرد. السعودية والبحرين وعُمان تتصف بمتوسطات مُتقاربة لدخل الفرد، ونسبة المواطنين فيها تتفوق على نسبة المُقيمين، «نسبة المواطنين في السعودية وعُمان 70% من مجموع السكان، وفي البحرين تبلغ 50%»، وفي جميعها فئات واسعة يمكن اعتبارها محدودة الدخل وتعاني صعوبات اقتصادية. في المقابل تتصف الإمارات وقطر والكويت بمتوسطات دخل عالية، وبعلاقة ريعية مرتفعة بين المواطن والحكومة، ونسبة المواطنين إلى مجموع السكان منخفضة «نسبتهم في الكويت تُقارب الـ30%، فيما تتراوح النسبة بين 10% و15% في كلٍ من الإمارات وقطر». وحتى في هذه الدول، ثمة شرائح من المواطنين تعاني صعوبات اقتصادية، كما أن طبيعة النمط الاستهلاكي المرتفع عند شريحة واسعة من المواطنين تجعلها تلجأ دومًا إلى الاقتراض من البنوك لتلبية متطلبات الرفاهية، وتعيش حياتها تحت ضغط تسديد الأقساط البنكية.
وإذا كانت الفلسفة السياسية المتأخرة، في سياق حديثها عن الدولة الحديثة ومدى شموليتها ومركزيتها وهيمنتها، باتت تتحدث عن «الدولة الإله» التي تتحكم بتفاصيل حياتك وتراقب كل تصرفاتك. فهنا يمكن الحديث عن مسارين مهمين لفهم طبيعة المجتمعات الخليجية وخصائصها وتكوينها.
الأول: يتعلق ببنية المجتمع الحالية وأثر الرفاهية والريع وسهولة الحياة وتقدم الخدمات والوفرة الاقتصادية -رغم التفاوت المُشار إليه- في طبيعته وتكوينه وتماسكه ونمط علاقته بالسلطة. ففي هذا الزمن الذي تجلت فيه الحداثة بكل وجوهها الاقتصادية والاجتماعية والتقنية في مدن الخليج، بات نمط العيش عند قطاعات واسعة من السكان مرتبطًا بارتفاع معدلات الاستهلاك، والتعود على مستويات متقدمة من الرفاهية والخدمات والترفيه، والنمو في مظاهر المُباهاة بالمسكن والسيارة والسفر والأجهزة الإلكترونية والمقتنيات المختلفة، وتضاؤل الاجتماع الفيزيائي لصالح التواصل الافتراضي، واتساع ظاهرة نجوم السوشيال ميديا الذين يصلون إلى الثراء السريع عن طريق الإعلانات التجارية عبر حساباتهم ذات المتابعات المليونية، وجاذبية مشاريع ريادة الأعمال، والتعامل مع المواطن باعتباره «قدرة شرائية»، وسيادة «مجتمع السوق» الذي هو بحسب تحليل الفيلسوف الفرنسي، ألتوسير، يتعامل مع أعضائه باعتبارهم مستهلكين في المقام الأول. الأمر الذي جعل دول الخليج هي الأعلى في العالم -نسبة إلى عدد المواطنين- في استيراد السيارات والهواتف الذكية وعدد كبير من الكماليات، والأعلى في نسبة الإنفاق على مستحضرات التجميل، كما تضم أعلى نسبة في العالم لعمال المنازل، والأعلى لمرضى السكري. يُصاحب كل ذلك تصاعد في الحضور الذاتي والنزعات الفردانية وتراجع في قدرة المجتمع على التنظّم والتجمّع والعمل ضمن أطر ومؤسسات اجتماعية وثقافية وسياسية خارج إطار السوق والربح، واعتماد كثير من المواطنين على شبكات الأمان والرعاية العائلية أو الحكومية «مثل قانون دعم العمالة الوطنية في الكويت الذي يوفر راتبًا لكل مواطن»، وأيضًا اعتماد الدول الصغيرة -الأعلى دخلًا- على غير المواطنين حتى في أجهزة الدولة ووزاراتها ومؤسساتها، حتى غدت بيروقراطية الجهاز الحكومي يمكنها أن تعمل بالحد الأدنى من المواطنين.
كل ذلك وغيره أدى، ويؤدي، إلى ضعفٍ في قدرة المجتمع على التحمّل، وانخفاض في مستويات الجدية والانضباط خاصة عند الفئات التي تعيش في وضع اقتصادي أفضل. فكلما زاد متوسط دخل الفرد، انخفضت التحديات الحياتية، وتراجعت على إثرها معدلات الجدية في المجتمع، وغدا السعي للإنجاز والتفوق يخضع للدوافع الذاتية أكثر مما هو مرتبط بدوافع الضرورة والحاجة إلى تحسين جودة الحياة. وما التجربة الهولندية التي سُميت «المرض الهولندي» إلا نموذج مصغر ومحدود لما حدث ويحدث في الخليج منذ عقود. لذلك حين تحدث ابن خلدون في مقدمته عن الأثر الذي يُنتجه الرخاء والدعة على الناس، وأثرهما في صلابة المجتمع، قال جملته الشهيرة: «يبلغ فيهم الترف غايته، فيصيرون عيالًا على الدولة».
وفي هذا السياق، طرح مرة الدكتور فارس أباالخيل، وهو أستاذ جامعي سعودي يُدرِّس الاقتصاد في جامعة بريطانية، سؤالًا ذا دلالة: لماذا عندما يخرج الناشطون والمعارضون العرب خارج أوطانهم ويعيشون في المنافي، يقوم كثيرٌ منهم بالعمل في مهن مختلفة وبعضها محدود الدخل. وفي المقابل لو أخذت عينة من 100 ناشط خليجي هم الآن خارج أوطانهم لأسباب سياسية، فكم ستجد منهم من يعمل ويحقق دخلًا، مقارنة بمن يعتمد على مصادر مالية ذاتية أو عائلية أو تمويل من مؤسسات أو دول؟
أما المسار الثاني: فهو المرتبط ببنية السلطة، ومدى هيمنة جهازها السياسي والأمني والبيروقراطي على كل تفاصيل حياتك، الذي هو أيضًا من نتاج الوفرة المالية والتطور التقني؛ حيث صاعد من إمكانية الرصد والضبط والمتابعة والمراقبة والتحكم والسيطرة التقنية والرقمية والأمنية. وكأن ما تنبأ به جورج أورويل في روايته 1984، حين سكّ عبارته الشهيرة «الأخ الأكبر يُراقبك»، مجرد خيال قاصر عن تصور ما حصل ويحصل حاليًا في العالم.
فبدءًا بالهواتف الذكية التي تحولت إلى أداة رقابة وضبط ومتابعة لما تكتبه في غرف الدردشة، وتطبيقات المحادثات المكتوبة والصوتية، ومحركات البحث، ومواقع التواصل الاجتماعي، وإمكانية تحديد موقعك عبر شرائح الاتصال وتطبيقات الخرائط والطرق المرتبطة بالأقمار الصناعية، مرورًا بالتطبيقات الحكومية التي بات واجبًا على كل مواطن ومقيم التسجيل فيها، مثل «أبشر» و«توكلنا» في السعودية، و«سهل» في الكويت، و«مطراش» في قطر، وسواها، والتي تتضمن كل معلوماتك وإجراءاتك الحكومية. وهناك التطبيقات المتخصصة بالحالة الصحية، وتطبيقات البنوك، وبطاقات الائتمان التي توفر كامل المعلومات عن مشترياتك ومقتنياتك وطعامك وسلوكك الاستهلاكي، وحتى مواقع حركتك، خاصة مع التقليص والتضييق المستمر لاستخدام النقد «الكاش» في عمليات الشراء. ويمكن مثلًا مقارنة نسبة استخدام البطاقات الائتمانية في الاستهلاك والشراء في مصر ولبنان «وهو منخفض جدًا أو شبه معدوم»، وشيوع، وربما حصرية، معظم عمليات الشراء عن طريق هذه البطاقات في الخليج.
على الرغم من تمتع أجسادنا وأفكارنا بحرية عالية، إلا أننا في الحقيقة أشبه بسجينٍ يعيش في زنزانة مُحاطة بكاميرات مراقبة في جهاتها الأربع، فكل حركاتك وسكناتك وطعامك ومواعيد نومك وماذا تقرأ وتشاهد وتستهلك وما تتحدث به مع الآخرين، يمكن أن يكون مرصودًا ومراقبًا، حتى خصوصياتك التي تحجبها عن أقرب الناس إليك هي تحت عين من يصل إلى غرف الدردشة وأرقامك السرية، وكل ما تكتبه في هاتفك الخاص. وباتت السلطات، في كثيرٍ من الأحيان، غير مضطرة إلى الاعتقال أو الفصل من العمل للضغط على الناشطين؛ حيث يمكنها فقط الضغط على زر واحد اسمه «إيقاف خدمات» لتتعطل كل حياتك ومعاملاتك وحساباتك البنكية. وهي حالة تُشبه تلك التي نشأت في بريطانيا، ثم انتقلت إلى أوروبا وأمريكا، وسُمِّيت «الموت المدني» أو «الإعدام المدني»؛ حيث يُجرَّد المواطن من حقوقه المدنيّة والسياسية وحتى بعض حقوقه المعيشية، بسبب ارتكابه لفعلٍ ما، ويكون أشبه بالمنبوذ والمُتابع من أجهزة الدولة، من دون أن يتم اعتقاله.
في الدراسة التي اشتغل عليها الباحث وأستاذ دراسات الشرق الأوسط، مارك أوين جونس، وعرض بعض تفاصيلها في حوارات وعروض، وستصدر في أغسطس القادم في كتاب بعنوان «سلطويّة رقمية في الشرق الأوسط»، استطاع أن يفكك الأدوات الرقمية الجديدة التي تدعم السلطوية في الخليج، والاستراتيجيات المخيفة للسيطرة على المعلومات ومراقبة السكان، والدور المتنامي للشبكات الاجتماعية والتكنولوجيا الرقمية في استراتيجيات سيطرة الدولة، ويقول إنه في حين كان الجميع يتساءل عما إذا كانت الإنترنت والشبكات الاجتماعية ستُمهّد طريق التغيير الديمقراطي، بدأ هو النظر في كيفية استخدام هذه الأدوات لأغراض التحكم والرقابة، وهو يرى أن بعض دول الخليج «وتحديدًا السعودية والإمارات» هي قوى عظمى «متخفّية»، كونها تمتلك الإرادة والتكنولوجيا اللازمة للقيام بعمليات تأثير على ثلاث جبهات -داخليًا وإقليميًا ودوليًا- بطريقة مستمرة وقابلة للتطوير، وأنها تملك القدرة على تعبئة قدراتها الكبيرة في نشر الأدوات التكنولوجية، وموارد بشرية مهمة لمحاولة السيطرة على المعلومات. وأنها نجحت في مراهنتها على أدوات التحكم الرقمي. وأن هذا التأثير الذي كان يُمارَس في السابق من خلال صحفيين يتقاضون رواتب سخيّة، وعن طريق شراء أقمار صناعية للبث الإعلامي، بات اليوم يتعلق بالتحكم في الشبكات الاجتماعية من خلال الأخبار الكاذبة والمراقبة وروبوتات الكمبيوتر والتجسس الصناعي. كما أن التغييرات في العلاقات السياسية، مثل التطبيع مع إسرائيل، يساعد على نقل تقنيات مثل برنامج «بيجاسوس» للتجسّس، والتي يمكن أن تستعملها الأنظمة لاستهداف خصومها السياسيين والوصول إلى جميع جوانب الحياة الخاصة. وأن المنصات التجارية مثل فيسبوك وإنستجرام وتويتر، تسعى، كما هي حال العديد من الشركات، إلى تحقيق أرباح، ولا تريد قيودًا تمنعها من بيع منتجاتها. فهي تشترك في الهدف نفسه مع الأنظمة السلطوية: أن تعرف أكثر فأكثر عن السكان، ومن ثَم بيع هذه البيانات للشركات التجارية وربما للأنظمة السلطوية التي تستطيع عبر هذه المعلومات تعزيز سيطرتها على السكان. لذلك فإن هذا التمدد للتكنولوجيا، التي تتدخل في حياتنا، يُنتج تدميرًا متناميًا للمجال الخاص، ويعزز بالتالي من موارد السلطوية والتحكم والرقابة على المواطنين.
في الخمسينيات والستينيات شهد الخليج نشاطًا سياسيًا ملحوظًا، كان أغلبه تحت لافتات قومية ويسارية. بعضه كان ينادي بمطالب إصلاحية، والبعض الآخر رفع سقف المطالب والفعل لما هو أكثر، وتعرض كثيرٌ من هؤلاء الناشطين للقمع والاعتقال.. كُتُب عديدة سجلت بعضًا مما جرى في تلك المرحلة، مثل كتاب مفيد الزيدي «التيارات الفكرية في الخليج العربي»، وكتاب علي العوامي «الحركة الوطنية السعودية»، ومذكرات محمد سعيد طيب «السجين 32»، وكتاب روبرت فيتالس «مملكة أمريكا»، وكتاب فلاح المديرس «لحركات والجماعات السياسية في البحرين»، ومذكرات أحمد الخطيب والعدساني عما جرى في الكويت، وكتب أخرى عديدة تضمنت أحاديث عن تاريخ النشاط السياسي في دول الخليج.
وشهدت الثمانينيات والتسعينيات وما تلاها نشاطًا واسعًا أيضًا، شمل كثيرًا من الفعاليات والمطالبات الإصلاحية التي تعرضت كذلك للقمع واعتقال القائمين عليها -ثمة كتب كثيرة أيضًا أرّخت لهذه المرحلة- وبرزت بعد ذلك شخصيات خليجية معروفة بمواقفها الإصلاحية الصلبة، مثل د.عبد الله الحامد، الذي اعتُقل ثماني مرات، وقضى سنين طويلة في السجن، ثم توفي فيه، ونشر أكثر من عشرين كتابًا وكرّاسًا عن الإصلاح الديني والسياسي. ونُشطاء خليجيون كُثر كان لهم تاريخ في النضال السياسي، وتعرضوا بشكل متكرر للاعتقال، مثل أحمد منصور ود. محمد الركن في الإمارات، ونبيل رجب في البحرين، ووليد أبوالخير ومحمد البجادي وأعضاء جمعية الحقوق السياسية والمدنية «حسم» في السعودية، وعشرات الأسماء الأخرى في الكويت والبحرين والسعودية والإمارات، وحتى في عُمان وقطر ثمة شخصيات عديدة اعتُقلت وحُوكمت بسبب مطالب إصلاحية «آخرها ما جرى عقب الحراك المطلبي في عُمان، والاحتجاج على القانون الانتخابي في قطر». إضافة إلى باحثين وأكاديميين كتبوا كتبًا مهمة عن الإصلاح السياسي والاقتصادي في الخليج، مثل د. علي خليفة الكواري من قطر ود. يوسف خليفة اليوسف من الإمارات ود. عمر الشهابي من البحرين، وسواهم.
في الإمارات اليوم، ومن شعبٍ تِعداده مليون مواطن، ثمة ما يُقارب مئتي مُعتقل على خلفية مطالب سياسية وإصلاحية ونشاط اجتماعي، جميعهم كانوا يعيشون في وضع اقتصادي جيد، وخاضوا بوعي تجربة النشاط السياسي والمجتمعي وبدوافع أخلاقية ورغبة في الإصلاح، على الرغم من إدراكهم لعواقب ذلك. وهذا الرقم يُعادل -بالنسبة والتناسب- 20 ألف معتقلٍ في مصر، التي يبلغ عدد سكانها 100 مليون.
في الخليج، ثمة نشاط سياسي وإصلاحي امتد لعقود، ونضالات وتضحيات لم تأخذ حقها من التدوين والتوثيق، ووعي سياسي يتزايد بالحقوق والحريات والمشاركة السياسية، ومنظمات حقوقية تنشأ وتتطور. لكن كل ذلك يتم في «غرفة عزل» وثيرة ومُحكمة الإغلاق، اسمها «الدولة الريعية». فالإمكانات محدودة، والدولة مركزية ومسيطرة وتمتلك الثروة، ولا تحتاج إلى دخل القطاع التجاري أو ضرائب المواطنين، ومعظم المواطنين يعملون في الحكومة أو في قطاع خاص يعمل على مشاريع الإنفاق الحكومي، والجميع مشغول بالتنمية والاقتصاد والاستقرار، وسط مُحيط عربي مُضطرب ويدعو إلى القلق، فيما تتضافر هذه الأسباب لصُنع مزيد من المتاريس التي تُعيق قدرة المجتمع على الضغط باتجاه الإصلاح السياسي. كما أن رفع سقف التوقعات والمطالب التغييرية عند مجموعات من المعارضة يؤدي غالبًا إلى رفض ونفور قطاعات واسعة من شعوب المنطقة، التي ترغب بالإصلاح السياسي، وتتعاطف مع ناشطيه، ولكنه لا يُشكّل أولوية بالنسبة إليها، وغير مُستعدة لدفع كُلف في سبيله.
لا يحمل ما سبق من حديث أي رغبة بالتيئيس، بل هو محاولة لفهم هامش المُمكن والمُتاح في مسيرة السعي للإصلاح في دول الخليج، بدل محاولات القفز في الهواء، أو استشراف ما هو خارج المُتوقع والمُمكن. فإذا كان المُجتمع الخليجي قد تمتع بامتيازات النفط، فقد حصل أيضًا على الابتلاء المُصاحب له، والمتمثل بصعوبة الإصلاح السياسي، وضعف المجتمع في مواجهة السُلطة، وهو الأمر الذي التقطه مُبكرًا الباحث العروبي الإماراتي وأستاذ العلوم السياسية، الدكتور محمد عبيد غباش، الذي درس علاقة المجتمع بالسلطة في الخليج، ووضع عنوانًا لافتًا لدراسته، هو: «سُلطة أكثر من مُطلقة، مجتمع أقل من عاجز».
16 يوليو 2022
https://www.madamasr.com/ar/2022/07/16/opinion/u/%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9…