بين المعارضتين المصرية والسودانية تقادم الخطيب
استفادت المعارضة السودانية من التجربة المصرية، وحاولت عدم تكرار أخطاء المعارضة المصرية فنجحت في ذلك ووصلت ولو بصورة مرحلية إلى تحقيق نجاح في اقتسام السلطة مع المؤسسة العسكرية، وبرعاية دولية.
كشفت أحداث الربيع العربي وتوابعه المستمرة عن علاقات القوة بين الأنظمة السياسية الحاكمة والمعارضة وبين المجتمع من ناحية أخري.
في كل من مصر والجزائر هناك حالة متشابهة بين النظامين الحاكمين والمجتمع، فالمصريون ينظرون إلي الجيش علي أنه الحامي للدولة المصرية ومحررها (الآن قوض الرئيس المصري الحالي هذه الصورة)، ولذا كان هناك حالة من التماهي والثقة مع المؤسسة العسكرية بعد تنحي حسني مبارك. في نفس اللحظة ينظر الجزائريون إلي الجيش علي أنه جيش التحرير وبالتالي هناك حالة من الثقة فيه. بينما الأمر على خلاف ذلك في التجربة السودانية كحالة مغايرة.
فمن اللحظة الأولي للمظاهرات، التي استمرت لشهور للإطاحة بعمر البشير كان هناك التفاف من المعارضة حول مطالب الشعب، وفي نفس الوقت بعد تنحي البشير كان هناك التفاف من الشعب حول المعارضة، خاصة قوي الحرية والتعبير.
الأمر يرجع في وجهة نظري إلى أمرين، الأمر الأول له علاقة بالاستراتيجيات، التي اتبعها كل من الجيشين المصري والسوداني، والثاني له علاقة بالمعارضة وامتلاكها لرؤية ومشروع سياسيين.
كما أن صورة الجيش السوداني ليست هي نفس الصورة التي يتمتع بها الجيشين المصري والجزائري، فالجيش السوداني انخرط في عمليات حروب أهلية وارتكاب مجازر كما حدث في دارفور، وهذا أثر على عقيدته القتالية وبنيته من ناحية وعلى وصورته العامة لدي الشعب السوداني من ناحية أخري.
صحيح أن كل تجربة في الربيع العربي لها خصوصيتها وظروفها السياسية المختلفة عن الأخرى، لكن في الواقع السعي إلى تأسيس تنظيم وبناء سياسي بمشروع ورؤية سياستين واضح المعالم متاح للجميع.
في التجربة المصرية فرضت عملية احتواء الثورة المصرية وأسلوب إدارتها من الخارج نفسها منذ اللحظة الأولى، وقبل تنحي حسني مبارك بأيام، فبعد أن تم الانقلاب الناعم على السلطة، بدأت الإشارة الحقيقية، لأن المرحلة المقبلة ستكون ذات طبيعة مختلفة في إدارة المشهد الانتقالي، تتسم بالذكاء والمراوغة السياسية، واستخدام آليات تخدم المؤسسة العسكرية، وتطمئن حلفاءها خاصة الخليجين منهم، وهذا ما سعت المؤسسة العسكرية إلي فعله منذ اللحظة الأولي. لكن سرعان ما فشل الأمر، فقد ظهرت النزاعات الشخصية داخل أعضاء المؤسسة العسكرية السودانية والطموح إلي الوصول بالسلطة علي طريقة الجنرال المصري عبد الفتاح السيسي.
في التجربة المصرية كان هناك إصرار من المؤسسة العسكرية على الإبقاء على المؤسسات القديمة، وعدم تطهيرها، ومحاولة تقديم طرق إصلاحية من دون المساس بجوهر بنيتها الداخلية، أو آليات عملها، في محاولة جادة لاستنساخ النظام وإعادة إنتاجه بما يسمح للنظام المستنسخ بالهيمنة مرة أخرى، وسيطرته على الحكم مجدداً، فعلي الطريقة الروسية لحكم "الكي جي بي"، وعلى الطريقة الرومانية إبان عهد شاوشيسكو عادت الأجهزة الأمنية خاصة المخابرات تحكم الدولة المصرية.
هذا الأمر لم نجده في التجربة السودانية، ولعل هذا يرجع إلى تركيبة الدولة وبنية النظام الذي مر بانقلابات عدة مما أضعف قدرته على تأسيس بيروقراطية تتزاوج معه أو تكوين ولاءات داخلها، في نفس الوقت أدت الجرائم التي ارتكبتها مجموعات التدخل السريع بقيادة اللواء حميدتي والتي انزلقت لاستخدام العنف بصورة مباشرة إلى الكشف عن نوايا المؤسسة العسكرية مبكرا، كما أنها ذكرت الشعب السوداني بالجرائم التي ارتكبتها تلك القوات في دارفور.
استعداء الشارع على الثورة في مصر بعد الثورة
في التجربة المصرية لجأت المؤسسة العسكرية إلي، استعداء الشارع على الثورة وحشد الأغلبية الصامتة ضدها، وقد تمثل ذلك في أمرين: إحداث فراغ أمني في الشارع وترويج أكذوبة انهيار الشرطة، وإلقاء المسؤولية على الثورة والثوار، وهو ما أثبتت التجربة فشله وبيان كذبه فيما بعد.
الأمر الثاني، الشارع والتأكيد على انقسامه باصطناع حشد كاذب، هو ما عرف بحشد العباسية في مواجهة حشود التحرير الصادقة. هذا الأمر لم يحدث في السودان، فبعد الإطاحة مباشرة بالبشير تم الإطاحة بعده بوزير الدفاع نتيجة لضغوط الشارع، وهو ما يعكس وعي الشارع السوداني، الذي استمر في مظاهراته لعدة شهور، وأظهر تماسكا وتماهيا مع المعارضة، على عكس الشارع المصري الذي تتوق للاستقرار بعد ثمانية عشر يوم من المظاهرات، كما أنه أظهر نفورا من معارضته السياسية ورموزها، ولذلك أسباب كثيرة، منها انقسام المعارضة المصرية وتشتتها وعدم امتلاكها لرؤية سياسية أو خطاب توضح وتشرح من خلاله خطواتها المستقبلية.
في مصر استثمرت المؤسسة العسكرية مزيدا من الوقت، لكي تنشأ القوة الليبرالية الجديدة، وتأخذ مساحة أكبر في الساحة السياسية، وهي قوة معروفة بعلاقتها وتحالفاتها القريبة من السلطة، وقد تجلى الأمر من خلال التمويلات المختلفة لفرض الهيمنة في توجيه عمل القوى السياسية والحزبية الجديدة.
وكذلك دعم أحزاب ناشئة عديدة، أو إنشاء أحزاب لأهداف معينة، وهذا يذكّرنا بالمشهد الجزائري، وما فعلته المؤسسة العسكرية الجزائرية من دعم وإنشاء للأحزاب، بهدف بقاء المؤسسة وتوطيد أركانها من خلال التمثيل السياسي المدني. وهو مالم يحدث في التجربة السودانية، فقوي الحرية والتغيير (تتشكّل من تجمّع المهنيين، الجبهة الثورية وتحالف قوى الإجماع الوطني) وتحت كل واحدة من تلك المجموعات تنضوي مجموعات من تيارات وأيدولوجيات عديدة، وهي نشأت من رحم تلك الاحتجاجات وليس بدافع من النظام، ومن اللحظة الأولي أعلنت تحيزاتها الواضحة للثورة السودانية والشعب السوداني، على عكس الليبراليين أو المعارضين المصريين المدنيين الذين أعلنوا تمسكهم بالدولة متمثلة في النظام وتمرير العديد من القوانين القمعية كقانون المحاكمات العسكرية للمدنيين، كما أنها كانت رأس الحربة التي تستعملها المؤسسة العسكرية في محاربة الإسلاميين الذين سعوا إلي التحالف في ذات الوقت مع المؤسسة العسكرية.
عبرت المعارضة المصرية عن أزمات المجتمع المصري وأسئلته المعلقة بلا إجابة منذ ثورة ١٩١٩، وأبرز هذه الأسئلة كان سؤال الديمقراطية، ففي الوقت التي ادعت تلك المعارضة بأنها تسعي للديمقراطية قوضت بنفسها تلك اللحظة الديمقراطية التي وصلت إليها الدولة المصرية عبر انتخاب أول رئيس مدني في تاريخ مصر الحديث، وتحالفت مع المؤسسة العسكرية في الإطاحة به، في نفس الوقت فإن جماعة الإخوان التي وصلت للسلطة عبر تلك الانتخابات الديمقراطية هي في ذاتها وتركيبتها جماعة غير ديمقراطية، وانعكس هذا علي أدائها وهي في السلطة من ناحية وكذلك أدائها تجاه أعضائها خاصة المنشقين عنها.
في هذا الوقت الذي تعاني فيه المعارضة المصرية من أزمة تتعلق بكيفية الوصول أو بناء توافق ديمقراطي، استطاعت المعارضة السودانية أن تبني وبكل وضوح بنية توافقية علي أسس ديمقراطية تستطيع من خلالها أن ترسم ملامح المستقبل وأن تعبر عن انحيازها لمطالب الشعب السوداني وطموحاته في نظام سياسي ديمقراطي مدني يحكم الدولة ويخرجها من أزماتها المتراكمة عبر السنين.
المعارضة السودانية تنظيما سياسيا بمشروع سياسي واضح المعالم، فاستطاعت في لحظة تاريخية معينة أن تصل إلي عقد اتفاق مع المؤسسة العسكرية وبرعاية دولية، بموجبه أكدت شراكتها في إدارة المرحلة الانتقالية وقدرتها على تقديم البديل المدني، بينما حتى اللحظة فشلت المعارضة المصرية في الداخل وقبل الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو ٢٠١٣ في بناء تنظيم سياسي (على طريقة الحرية والتعبير السوداني أو الاتحاد العام التونسي للشغل) أو تقديم مشروع سياسي، فكانت النتيجة ظهور أبرز قيادات المعارضة في الثالث من يوليو بجوار وزير الدفاع، وبرعاية إقليمية، للإعلان عن الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر الحديث. حتى اللحظة وبنفس الأداء والعقلية تستمر أزمة المعارضة المصرية في الخارج في عدم قدرتها على بناء تنظيم سياسي بمشروع سياسي واضح المعالم.
استفادت المعارضة السودانية من التجربة المصرية، وحاولت عدم تكرار أخطاء المعارضة المصرية فنجحت في ذلك ووصلت ولو بصورة مرحلية إلى تحقيق نجاح في اقتسام السلطة مع المؤسسة العسكرية، وبرعاية دولية.
صحيح أن الأخطار التي تهدد المسار الديمقراطي لازالت موجودة، لكن هذا ليس حكرا علي التجربة السودانية فقط، بل في أعتي التجارب الديمقراطية دائما هناك تهديد للديمقراطية وأبرز دليل علي ذلك ما يفعله اليمين المتطرف في دول أوروبية ديمقراطية، وسعيه إلي تقويض الأسس الديمقراطية ونشر الكراهية.