أحاديث الألحان الموسيقية بعيدا عن الأجندات السياسية
استمر التصفيق والتهليل طويلا في القاعة التابعة لمدينة أوسنابروك التي امتلأت عن آخرها بعد نفاد كل تذاكر الدخول. هكذا كانت ردود فعل الجمهور الذي شارك بصورة ملموسة في حفل فريد من نوعه وتجاوب مع الحدث لمدة طويلة. وكانت الحفلة الختامية لـ"مهرجان بلاد الشرق" عبارة عن عزف راقص لمقطوعات موسيقية قديمة ذات مستوى موسيقي عال شاركت فيها فرقة الأوركسترا السيمفونية لمدينة أوسنابروك وفرقة "بيج باند" التابعة لراديو شمال ألمانيا مع عزف وغناء منفرد من سوريا ومن إقليم شينجيانغ في غرب الصين.
وفي هذه المدينة الواقعة في وسط ألمانيا يجري حاليا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ما كان يجري في العصور الوسطى في الأندلس وإيطاليا، أي ميلاد معايير ثقافية جديدة من خلال التواصل بين الشرق والغرب. ويصف السيد ميشائيل دراير، المدير الفني للمهرجان - بعد أن جعل عازفي الموسيقى الألمان والشرقيين يتقابلون - مبدأ المشاركة في المهرجان بـ"أن أهم شيء أن لا يكون التركيز فيه على أصغر قاسم مشترك وأن يترك المرء الأشياء تسير بجانب بعضها بعضا". وعندما يتواصل المغني السوري الأرميني إبراهيم كيفو أو عازف الناي السوري مسلم رحال مع فرقة الأوركسترا السيمفونية وفرقة "بيج باند" يحدث انسجاما بالمعنى الحقيقي، وهذا الانسجام يكون صعبا لأن التقاليد الموسيقية المختلفة تظل ملحوظة أثناء العزف، ولهذا اخترع "مهرجان بلاد الشرق" مصطلح الانصهار الثقافي.
أسرار نجاح المهرجان
وكشف ميشائيل دراير عن سرّ آخر لنجاح المهرجان قائلا "إننا هنا في معمل موسيقي"، ويدل على ذلك الأيام القليلة التي يتذاكر فيها عازفو الموسيقى الألمان والشرقيين تلك الأعمال. ففرقة الأوركسترا السيمفونية التي لا تعزف إلا وفقا لنوتة موسيقية يصاحبها فجأة عازفون منفردون معتدون في ذلك بتقاليدهم الصوتية وليسوا بحاجة إلى نوتة موسيقية. لهذا يرى الملحن الإيراني نادر ماشايكي، الذي كتب عديدا من الأعمال التي قُدمت في أوسنابروك ورتّب لها، أن "البروفات كانت أكثر إمتاعا من الحفلات نفسها، وأن هناك تقاربا بين العقليات".
وعن مجرى بروفات الحفل الإبداعية يقول ميشائيل دراير أن "إبراهيم كيفو عندما يغني يكون صوته كل مرة مختلفا شيئا ما حتى وإن كان يدعي شخصيا أن صوته لا يتغير أبدا، ويجب على عازفي فرقة الأوركسترا السيمفونية أن يتعودوا على ذلك". ويلخص قوله في أن أهم مقومات النجاح هي احترام القدرات الموسيقية للآخر، و"أن كيفو حتى وإن بدا غريبا كان رد فعل الجمهور عليه واضحا، إنه ليس وهما وليس عرْضا، بل موسيقى حقيقية، ويمكننا أن نتعلم كثيرا من هذا النوع من العزف". أما عن رأي كيفو عن عازفي فرقة الأوركسترا السيمفونية بأوسنابروك وفرقة "بيج باند" فقد ظهر ذلك أثناء التصفيق الحاد عندما عانق قائدة الأوركسترا بحماس وكاد أن يخنقها.
عالم الموسيقى الأويغورية
إن البحث الدائم عن الجودة العالية وعن ما يثير الاهتمام، سواء كان تقليديا أو حديثا أو إبداعيا، يعتبر من الأسباب الأخرى لنجاح ميشائيل دراير الذي لا يريد أن يعتبر مهرجان بلاد الشرق "حفلا للموسيقى العالمية"، ومن الأفضل إدراك ذلك من خلال البرنامج الرئيسي لمهرجان هذا العام الذي قدمه العازفون والراقصون الأويغوريون الذي أتوا من إقليم شينجيانغ في غرب الصين، تلك المنطقة النائية المنعزلة سياسيا والمضطهدة من الحكومة المركزية في بكين. وكانت واحدة من علماء الموسيقى الأويغوريين المقيمة في باريس قد أخبرت السيد دراير، الذي لا يمل من البحث، عن فرقة الروك باند "كيتيك". وعلى إثرها سافر فورا إلى مدينة أورومتشي عاصمة إقليم شينجيانغ، حيث تعزف الفرقة كل ليلة في أحد البارات أمام عشرات من المستمعين.
ويروي دراير أن "هذا البار كان العالَم الوحيد لفرقة "كيتيك"، كما أنهم لم يعزفوا في أي مكان آخر ولم يسافروا خارج البلاد قط". وعلى التو أُعجب المدير الفني لمهرجان بلاد الشرق من المغني بيرهات وفرقته إعجابا كبيرا. وكادت مشاركتهم في مهرجان أوسنابروك تبوء بالفشل لأن السفارة الألمانية في بكين رفضت إعطاء هؤلاء الموسيقيين تأشيرة دخول ألمانيا لعدم تمكنهم من تقديم ما يثبت أن لهم دخل شهري ثابت. ويعلق دراير – الذي استطاع أن يحل المشكلة، حيث ضمن أربعة من الموسيقيين بماله الخاص - على ذلك قائلا: "من الطريف أن يعتقد المرء أن عازفي موسيقى الروك الأويغوريين في الصين يمكنهم أن يقدموا ما يثبت أن لهم دخل شهري ثابت". وكان الأمر يستحق كل هذا العناء، حيث شكل عزف فرقة "كيتيك" بمصاحبة عازف الكلارينيت السوري كنان عظمة قمة المهرجان.
وقدم عازفو الروك الأويغوريين حفلا كما لو كانوا يجوبون العالم منذ سنوات عدة. وهنا ينطبق نفس المبدأ مرة أخرى، حيث تتداخل نماذج الأنغام المعروفة مع العزف الارتجالي على آلة دوتار الوترية ونغمات حنجرة عازف الغيتار ارشاد - البالغ من العمر تسعة عشر عاما فقط – والغناء المعبّر المتقن للمغني بيرهات ذو الشخصية الجذابة الذي كان جسمه كله يهتز أحيانا
مغامرة فنية
يعد "مهرجان بلاد الشرق" في المقام الأول مغامرة ثقافية فنية، كما أن السيد دراير لا يريد تسييس الفن ولا البحث عن فضيحة، حتى وإن كان من أجل شهرة بسيطة. وعلى الرغم من ذلك فلا يمكن للمرء أن يضفي على المهرجان أهمية سياسية كبرى نظرا لظروف بلاد الشرق المختلفة، وهذا ما أبرزته "موسيقى الأويغور" التي تعتبر أهم فعاليات المهرجان. ومن قبل عام سادت اضطرابات قوية إقليم شينجيانغ في غرب الصين، وهذه الاضطرابات لم تلق اهتماما كافيا من الإعلام الغربي لتلقي الضوء على الأقلية الأويغورية المضطهدة. لكن الضيوف الأويغوريين تفادوا في أوسنابروك التصريحات الناقدة صراحة للحكومة الصينية، ومثل رسالة أوركسترا طهران السيمفونية قبل أربع سنوات كانت رسالتهم السياسية أثناء عزفهم أمام جمهور كبير تقول "انظروا واسمعوا – نحن موجودون". بهذا فقط يمكن تعريض المفهوم الذاتي السياسي والثقافي لحكومات مركزية مستبدة مثل الصين وإيران للنقد.
إن دراير - ذي الثقافة الموسيقية ولا يتمتع بثقافة شرقية وتعرف على إقليم شينجيانغ جيدا من خلال رحلاته التي لا تُعد ولا تُحصى في السنوات الماضية - يريد أن يبين، بعيدا عن الحرب والاضطهاد، أن "في هذه البلاد مجتمعات مدنية حيّة لا تكاد للأسف تظهر في الإعلام الغربي. ومنذ قرون ونحن في الغرب نعالج صورة الشرق. أما اليوم فتؤدي وسائل الإعلام في المقام الأول هذه المهمة. إنني حريص كل الحرص على ألا أعطي صورة معينة عن الشرق". وعند نطق كلمة "الشرق" بلع ريقه لأنه لا يريد استخدامها على خلفية الجدل الاستشراقي الذي بدأه إدوارد سعيد. وقد لاقى ذلك ترحيبا لأن الفنانين الموجودين كانوا في الغالب يتحدثون في حضوره عن "الموسيقى الشرقية".
هذا الرجل المقيم في أوسنابروك يدرك تماما الدلالات التي يحتويها مصطلح "الشرق" وسوء فهمه، ويقول: "لقد أجهدت فكري دائما في تسمية كل شيء". ومما جعل المهرجان يترابط داخليا تلك التقاليد الموسيقية المشتركة الممتدة من مصر إلى بلاد الشام وإقليم شينجيانغ، والتي يُطلق عليها علميا "مقامات موسيقية". وينفي دراير مصطلحات مثل "موسيقى الإسلام" لأن التقاليد الموسيقية في المنطقة لا تكاد تقترن بالديانة الإسلامية، وما يقابلها من تقاليد مثل الموسيقى الكنسية الأوروبية عند مسيحي الشرق توجد عند الأرمن.
قصة نجاح رغم قلة الصدى الإعلامي
في المرة السادسة لـ"مهرجان بلاد الشرق" يمكن للمرء أن يتحدث عن "خفة روح أوسنابروك"، كما أن التفاعل بين الجمهور والفنانين وبين عازفي الموسيقى الغربيين والشرقيين خلق جوا من نوع خاص، هذا الجو فرض مزيجا منعشا من خلال المحاولات العقيمة المفروضة "من أعلى" لإجراء "حوار مع الإسلام". وقد بين الحدث الموسيقي أن مثل هذه المحاولات قد تنجح عندما يكون الحوار متأصلا في الواقع الثقافي بذات المكان وينتهج مع هذا الواقع مُثلا عليا وأن لا يكون بسيطا من البداية وأن لا يقتصر استخدامه كأداة سياسية أو حتى كعُذر من الأعذار في الحرب ضد "الإرهاب الاسلاموي".
ومما يعكر الصفو على الرغم من النتائج الباهرة أن "مهرجان بلاد الشرق" لم يحظ هذا العام إلا بقليل من الصدى في الإعلام. ويعلق على ذلك ميشائيل دراير - في إشارة إلى الصدى الإعلامي الكبير الذي حدث إثر دعوته لأوركسترا طهران السيمفونية إلى أوسنابروك عام 2006 - قائلا: "إذا أردت أن تأتي الصحافة فعليك بدعوة نساء من إيران وتلبسهن الحجاب ثم تعطيهن الكمان. بعدها سيأتي تسعون صحافيا يريد كل منهم تفويضا بالنشر. وإذا تنازل المرء عن مثل هذه الأشياء فلن تأتي الصحافة. لكني أصبحت لا أبالي بهذا الأمر". وما يهم دراير أن المهرجان أصبح بالنسبة لأهل الخبرة من الموسيقيين وبالنسبة للجمهور مؤسسة فنية.
شتيفان بوخن
ترجمة: عبد اللطيف شعيب
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2010
قنطرة
"دمشق في أوسنابروك":
نغمات دمشقية تطرب مدينة أوسنابروك الألمانية
علت نغمات التراث الموسيقي السوري المختلط بالموسيقى الحديثة في سماء مدينة أوسنابروك الألمانية خلال مهرجان بلاد الشرق لتبهر الجمهور الألماني الذي صفق بحماس لهذا الفن الذي لم تسنح له الفرصة للتعرف عليه من قبل. دلين صالحية تنقل إلينا بعضا من جوانب هذه الاحفالية الثقافية.
الحفل الموسيقي: "اقتفاء آثار الشرق والغرب":
أنغام شرقية تطرب ليالي مدينة دويسبورغ الألمانية
"من الغربة": شعار دورة هذا العام من مهرجان "رور تريناله"، حيث يجمع في كل عام المهرجان الدولي الذي يقام في منطقة الرور الألمانية بين فنانين من مختلف مجالات الموسيقى والمسرح والأدب والرقص. وفي إطار المهرجان شهدت قاعة "غيبليزه هاله" في دويسبورغ حفلاً موسيقاً بعنوان "اقتفاء آثار الشرق والغرب". إيفسر كارايل ينقلنا إلى أجواء هذا الحفل.
سمادج فنان عالمي من أصل عربي:
جسر موسيقي بين الشرق والغرب
ينسج الفنان التونسي جان بيار سمادج الأواصر بين موطنه الأول باريس وموطنه الجديد اسطنبول، متنقلا لفترة قصيرة الى اليمن. يعتبر سمادج اليوم أحد أنشط فناني الموسيقى العالمية المنحدرين من أصل عربي. ستيفان فرانتسن تحدث مع الفنان حول آخر مشاريعه.