يجب بقاء جامعات ألمانيا ساحات حوار بلا تحيز
لطالما كانت ومازالت النقاشات حول الصراع في الشرق الأوسط معقدة دائمًا بسبب التفكير المتحزب وانحياز كل معسكر لأفكاره. وبخاصةٍ في ألمانيا تبين عدة مرات أن إظهار التعاطف مع ضحايا العنف السياسي في إسرائيل وفي الوقت نفسه التأكيد على معاناة الناس في قطاع غزة والضفة الغربية -الذين يتحملون إلى حد كبير العبء الأساسي لكل المواجهات بين القوات الإسرائيلية والمسلحين الفلسطينيين- هو فعل قائم على عملية توازن حساسة.
***********
منذ السابع من أكتوبر / تشرين الأول الماضي 2023 أصبح تحقيق هذا التوازن أكثر صعوبة بالنسبة للأبحاث المتعلقة بالصراع والعنف. وفي الوقت نفسه يبدو من المهم -أكثر من أي وقت مضى- بالاستعانة بالخبرة العلمية والهدوء التحليلي، مواجهة المناقشات الاستقطابية والمجردة من الإنسانية، والتي تصل حاليا إلى ذروة جديدة.
وذلك لأن هذه المواجهات الاستقطابية ترسم صورة خاطئة للمواجهات في إسرائيل وفلسطين باعتبارها صراعا عالميًا يدور أساسًا بين معسكرين متناحرين: المعسكر الأول يعتبر إسرائيل في المقام الأول أثرا للسياسة الاستعمارية والإمبريالية الغربية في المنطقة وممثلة لها ويفسر المقاومة ضدها كفعل تحرري مشروع، بينما يؤكد المعسكر الآخر -في المقام الأول- على الطابع الديمقراطي للدولة الإسرائيلية، في منطقة تتسم بأنظمة مستفردة بالسلطة، وحقها غير المشروط في الدفاع عن النفس ضد التهديدات الوجودية.
وعلى الرغم من انتشار هذه القراءة الثنائية والجوهرية حاليًا فإنها لا تنصف تعقيد تركيبات الصراع في الشرق الأوسط ولا تنوع الآراء في المجال العلمي. وكثير من التحليلات المستندة إلى أدلة متينة حول ديناميات العنف المتصاعد تشكك في أي تقسيمات ثنائية. والجامعات ما زالت موطنا لمجموعة كبيرة من المواقف الدقيقة الاختلاف.
فكر متحزب ونقاشات استقطابية
منذ اندلاع المعارك حاول العلماء -أصحاب النظرة النقدية خاصةً من الجنوب العالمي أو من خارجه- مرارًا وتكرارًا استخدام معارفهم وخبراتهم التجريبية لإضفاء العمق التحليلي والهدوء على نقاش عام سطحي ومليء بالعنف أحيانًا.
ولكن في عدد قليل من البلدان يتم سحق أصوات العقل هذه وتهميشها بشكل واضح بين منطقي الخطاب الاستقطابي كما هو الحال في ألمانيا. ففكر التحزب وانحياز كل معسكر لأفكاره -والدعوات العلنية المتكررة لدعم أحد طرفي الصراع المفترضين في حرب غزة- حَدَّدت منطقة توتر يتحرك داخلها العلماء حاليا.
تحليل نقاش ألمانيا حول حرب غزة
طريقة نقاش ألمانيا لحرب غزة بين إسرائيل وحماس اتَّبعت -في كثير من جوانبها- ديناميكية خطاب هيكلية معروفة في أزمنة الحرب. تحليل الباحثتين الألمانيتين هانا بفايفر وإيرينه فايبرت-فينَر.
تحديات لم تُعرَف من قبل
ومثلما بلغ تصاعد العنف في الشرق الأوسط الآن مستويات لم تُعرَف من قبل منذ عقود من الزمن -وكما أصبحت معاناة السكان المدنيين في غزة الآن تتحدى كل المقارنات- فإن الوضع في الجامعات الألمانية أيضًا وصل إلى بُعد جديد.
فالعلماء الذين يعبرون عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني -أو يَذْكُرُون جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية أو ببساطة يضعون التصعيد الحالي للعنف في سياق تاريخي- يُحرَمون من المشاركة في فعاليات ويُقصَوْنَ عن منصات عامة بمعدل ينذر بالخطر.
وعدد الباحثين المستعدين لإظهار مواقفهم -من خلال مساهماتهم الخاصة- قَلَّ بوتيرة متسارعة أيضا ولا سيما بين الخبراء الذين يمكن أن تثري أصواتهم النقاش العام بشكل كبير. وكثيرون منهم يبررون امتناعهم عن المشاركة بالافتقاد للمعرفة المتخصصة.
في الواقع الخبرة الإقليمية القائمة على أسس تجريبية حول إسرائيل وفلسطين تكاد تكون نادرة في الجامعات الألمانية، مثل قلة الأساتذة الفلسطينيين أو الإسرائيليين. ويعود هذا أخيرا وليس آخرا إلى أن مجال التوتر الموصوف جعل من قضية الشرق الأوسط موضوعا ساخنا منذ سنوات يفضل كثيرون تجنبه.
وفي الوقت نفسه -في موضوعات أخرى- نادراً ما كان العلماء متحفظين بهذا الشكل كما هو الحال الآن مع حرب غزة في التعليق بشكل نقدي على الصراع، على أساس خبرتهم التي هي في النهاية محدودة في مجال التخصص دائماً. ونادرا ما ارتفعت العتبة والعوائق إلى هذا الحد من قبل.
بالإضافة إلى ذلك يُعرِب دارسون يهودٌ وعربٌ على حد سواء بشكل متزايد عن عدم ارتياحهم في الحرم الجامعي ويشعرون بالتهديد بسبب هويتهم أو آرائهم السياسية. وفي ظل تصاعد التوترات تزايدت بقوة أيضًا المواجهات بين المجموعات الطلابية المؤيدة للفلسطينيين وتلك المؤيدة لإسرائيل.
وقد بلغت ذروتها في الآونة الأخيرة في سلسلة من الأعمال العدائية والمواجهات خلال مظاهرات التضامن داخل الحرم الجامعي وخارجه. وبناء عليه تطور لوقوع هجوم قاسٍ على طالب وناشط يهودي بارز في برلين.
هذا التصعيد في الخلافات السياسية يضع الجامعات -التي تتمثل مهمتها الأساسية في توفير مساحات لحرية التعبير- في معضلة حول كيفية التعامل مع المظاهرات في الحرم الجامعي. وترى أعداد متزايدة من إدارات الجامعات نفسها مضطرة إلى منع الاحتجاجات داخل ساحاتها، بسبب قلقها أيضا من عدم قدرتها على حماية الطلاب بشكل مناسب من الاعتداءات اللفظية أو الجسدية.
ومن ثم ألغيت كثير من الفعاليات المتعلقة بحرب غزة أو الصراع في الشرق الأوسط لأسباب مشابهة، أو أُجِّلَتْ إلى أجل غير مسمى إلى ما بعد انتهاء الحرب في غزة. وآثار ذلك وخيمة على النقاش الأكاديمي.
النقاشات النقدية – يُفضَّل ألا تكون تحت الأضواء
الآن ليس الأمر كما لو أنه لا توجد أي نقاشات في المؤسسات الأكاديمية في الوقت الحالي، بل على العكس من ذلك: فهي موجودة وكانت موجودة دائماً، حتى قبل مجازر 7 أكتوبر. ومع ذلك وعلى عكس الفترة السابقة تحول كثير من النقاشات إلى ساحات لمكافحة الهيمنة والتبعية.
وبسبب المخاوف من التعرض لإصدارأحكام مسبقة أو الوصم عند مناقشة المواقف المثيرة للجدل التي نادرا ما تكون ممثلة في وسائل الإعلام الحالية، فإن جزءا كبيرا من النقاشات النقدية يجري حاليا بعيدا عن الأضواء.
إن الخوف من تصنيف سياسي متسرع جدا -أو إساءة التفسير- له تأثير رادع بشكل خاص على الباحثين في مجال الصراع. في حين أنهم -بفضل معرفتهم الشاملة بظروف وآثار عنف الإبادة الجماعية- في الواقع مهيَّؤُون تمامًا للمشاركة في تشكيل الخطاب العام.
هذا التخوف من وقوع سوء فهم موجود بشكل أكبر بين العلماء والباحثين المسلمين أو الذين ينحدرون من أصول عربية. فمنذ السابع من أكتوبر وضِعُوا باستمرار في موقف غير مريح يتمثل في وجوب أن ينأوا بأنفسهم بوضوح عن أعمال حماس، قبل أن يتم منحهم اعترافا بالخبرة وقبولهم كمتحدثين موثوق بهم.
بالنسبة لكثيرين لا يزال يتردد حتى اليوم صدى خطاب الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير -في 8 نوفمبر / تشرين الثاني 2023- الذي دعا فيه الأشخاص ذوي الجذور الفلسطينية والعربية في ألمانيا إلى عدم السماح لأنفسهم بأن يتم استغلالهم من قبل حماس وحَثّهم على "رفض الإرهاب بشكل واضح".
مثل هذه الدعوات تضع كثيرا من الباحثين في مأزق: فعلى النقيض من الصورة المشوهة بشدة في بعض وسائل الإعلام لا يبررأي شخص تقريبا في هذا البلد -ألمانيا- مذابح السابع من أكتوبر باعتبارها أعمال تحرير.
يدين زملاء البحث من جميع التخصصات هجمات حماس كما هي: أي كأعمال إرهابية. لكن المطلب الذي يوجه إليهم لاتخاذ موقف علني كمسلمين أو عرب يزعم أن هذه الإدانة ليست أمرا مسلما به.
وهذا يعني أنه بذلك يتم وضع علامة على العلماء كأشخاص يحتمل أن يكونوا مشتبها بهم، وليس كباحثين لديهم معرفة متخصصة بالموضوع. ولا يمكنهم تحرير أنفسهم من هذا الإقصاء إلا من خلال اعتراف علني. ونظرا لأن كثيرين يرفضون اختبار الولاء الضمني هذا فإنهم يفضلون عدم التعليق على الإطلاق.
تعاطف مع مجتمعات مختلفة في نفس الوقت
ومع ذلك حتى في أوساط الباحثين الذين ليسوا من أصول عربية أو مسلمة يتردد عدد متزايد منهم في الرضوخ للمنطق الثتائي للرأي العام الإعلامي، إذ يُبَسِّط هذا المنطق الصراع في غزة بشكل خادع ويحوله إلى مواجهة بين جانبين، ويقلل بذلك من التعقيد الأخلاقي والتجريبي ومن تعدد مستويات الصراع.
لأنه لا الحرب ولا التعاطف لعبتان محصلتهما صفر -أي لا منتصر ولا مهزوم فيهما- بل على العكس من ذلك: تتميز ديناميات العنف المسلح على وجه التحديد بحقيقة أن مجتمعات مختلفة تعاني وتحزن في الوقت نفسه في أثناء هذه الديناميكيات وغالباً بطريقة متشابهة وإنسانية.
و بهذا يمكن أيضًا أن يكون هناك تعاطف وتضامن مع مجتمعات مختلفة في آن واحد.وهذا التضامن والتعاطف ليسا بالضرورة أن يكونا ثابتين أيضا، خصوصا بمرور الوقت: فنحن، وبشكل طبيعي نشعر بارتباط شديد بأشكال مختلفة مع أشخاص مختلفين في أوقات مختلفة من الصراع.
أحيانًا نعاني ونحزن أكثر وأحيانًا أقل مع الأشخاص المتأثرين بالعنف. وفي بعض الأحيان تدفعنا معرفة الظلم والمعاناة الإنسانية إلى التدخل علناً والإدلاء بالشهادة وإظهار التضامن - وفي بعض الأحيان نتغلب على حيرتنا من خلال الانغلاق على أنفسنا والانعزال شعورياً أو خطابياً.
يتجلى الحزن في أشكال مختلفة، من بينها السلبية والانسحاب. إن تفسير الصمت والغياب عن الخطاب العام باعتباره دعمًا صامتًا لطرف أو آخر من أطراف الصراع -كما حدث بأشكال مختلفة خلال الأسابيع القليلة الماضية- يتجاهل هذا التعقيد في ردود الفعل الإنسانية ويختزل الواقع الاجتماعي إلى "معنا أو ضدنا"، مما يعزز أنماط الصراع الاستقطابية. وقبل كل شيء فهو يقلل من قيمة كل تلك الأصوات التي ترفض بشدة التسلسل الهرمي للضحايا -تصنيف الضحايا- وذلك إما بوازع فطري تمامًا أو في إطار دورهم كباحثين.
وعلاوة على ذلك فإن المطالبة بإعلان التأييد لطرف واحد يتناقض أيضًا مع الاجتهاد من أجل تحقيق الهدوء التحليلي والتمايز، اللذين يشكلان -أو على الأقل ينبغي أن يكونا- جزءًا أساسيًا من الوصف الوظيفي الأكاديمي. وفي الواقع فإن مواقف كثير من الباحثين في مجال الصراع والعنف تتهرب ببساطة من تقديم تعريفات صريحة ثنائية للصراع. وينطبق الشيء نفسه على وصف حدث معين بأنه لا يقارن بأي حدث في التاريخ.
،تحديدا بسبب معرفتهم بقابلية المقارنة ووضع العنف في غزة في سياقه، فإن صوت أبحاث السلام والصراع يغيب على نحو مؤلم عن النقاش العام. وذلك لأن هناك قلقا مستحقا من إمكانية استخدام وضع العنف في سياقه، (مبررا) لإضفاء الشرعية عليه.
وفي الوقت نفسه ليس هناك خلاف في أوساط الباحثين في مجال العنف -بغض النظر عن تصنيفهم الإبستمولوجي (المعرفي) والمعياري في المناقشات حول المقاومة والتطرف والعنف السياسي- أن الحصار المفروض على قطاع غزة والمواجهات السابقة بين المنظمات الفلسطينية والجيش الإسرائيلي تشكل سياقًا حاسمًا أدى إلى نشأة حماس وتناميها. وهذا السياق أمر حاسم لفهم التصعيد الحالي للعنف.
انحياز النقاش حول معاداة السامية في ألمانيا
المجابهون -في الوقت ذاته وعلى حد سواء- للعنصرية ومعاداة السامية كليهما معًا يجدون أنفسهم أمام خيار صعب خصوصًا أثناء حرب الشرق الأوسط كما أظهرت حالات عديدة بموازاة هذه الأوقات في ألمانيا. فمن أين يجب البدء من أجل التغيير؟ تعليق الكاتب الألماني شتيفان فايدنَر لموقع قنطرة.
المقارنة "لا تنفي التفرد التاريخي"
لكن الفهم والاعتراف والتوضيح لا يعني تبرير العواقب، وكذلك لا يعني الدفاع عن الفظائع أو تجميلها. ولكن من أجل فهم نطاق اللحظة الحالية يتعين علينا أن نذكر ديناميكيات الصراع ومنطق العنف التي تكمن وراءه، والتي تم بحثها جزئيا بشكل جيد.
ويتعين في هذا السياق تحليل الطابع الفريد لاعتداءات السابع من أكتوبر، فضلا عن البعد الخاص للعنف الذي يتعرض له سكان غزة. وفي الوقت نفسه علينا أيضًا أن نربط هذه التحليلات بالمعلومات المستخلصة من صراعات عنف أخرى ونجعلها قابلة للمقارنة إلى حد ما؛ حتى نتمكن من إجراء تحليلات مستنيرة حول المنحى الذي تتوجه إليه هذه الحرب وما يمكن أن يأتي بعد ذلك.
إن فعل المقارنة لا ينكر التفرد التاريخي للحظة الحالية لكنه يظهر فقط أن ما يحدث حاليًا ليس استثنائيًا أو لا يوصف من نواحٍ عديدة. وفي الحقيقة فإن من المعتاد والشائع أن تزدهر الأيديولوجيات المتطرفة في سياق القمع والتهميش، وأن يؤدي الاحتلال والحرمان من الحقوق إلى إنتاج جهات فاعلة عنيفة تكتسب النفوذ من خلال خوض حرب غير متكافئة.
وليس من غير المألوف أن تسعى هذه الجهات الفاعلة إلى إثارة ردود فعل عنيفة واسعة النطاق من خلال أفعال صادمة، وأن تكون على استعداد لقبول معاناة هائلة لسكانها ما دام ذلك يعزز موقفها.
وعلى العكس من ذلك ليس من النادر أن تخون دول ديمقراطية -باسم مكافحة التمرد- قيمها الليبرالية وتنتهك التزاماتها الدولية.
كما أنَّ هناك كثيراً من أوجه التشابه التاريخية بين نقاط تحول حرجة مثل مذبحة السابع من أكتوبر. وقد تم بشكل جيد دراسة التأثير الحاسم لأحداث عنف انتقالية فردية على مسارات صراعات عديدة.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك مذبحة الأحد الدامي في أيرلندا الشمالية أو مذبحة رابعة في مصر. وتصاحب مثل هذه الأحداث صدمات أخلاقية، كثيراً ما تؤثر على المجتمع بالكامل وتعمل حتى على تعبئة الأشخاص الذين كانوا سابقًا يتجنبون التورط في الصراع ـ غالباً أيضا لصالح "حلول" سياسية تنطوي على مستوى من الوحشية، كان يبدو في السابق أمراً لا يمكن تصوره.
مثل هذه الصدمات الأخلاقية تعزز بشكل خاص قوة المتطرفين، الذين يستغلون حالة عدم اليقين في هذه اللحظة لدفع أجندتهم قدما، وهذا هو التأثير الذي ينعكس حاليا في استطلاعات الرأي في فلسطين من ناحية -والتي تظهر زيادة كبيرة في تأييد حماس- ولكنه يظهر من ناحية أخرى أيضا في إسرائيل، حيث تدعو الآن حركة استيطانية متنامية وساسة يمينيون متطرفون علناً إلى إعادة بناء المستوطنات غير القانونية في قطاع غزة المحتل، وهو ما يعد انتهاكا للقانون الدولي.
تغير أفق التفكير الممكن
غيَّرَ السابع من أكتوبر -مثل حالات أخرى من العنف الجماعي- أفق التفكير الممكن، وغيّر بشكل حاسم حدود العنف -الذي تكون أطراف الصراع على استعداد للقيام به- وحدود المعاناة الإنسانية التي يمكنهم تحملها في هذا السياق. وهنا أكرر مرة أخرى أن: التأكيد على مثل هذه التشابهات مع نقاط تحول حرجة سابقة لا ينكر تفرد اللحظة الحالية.
وهذا لا يهون أو يقلل من الألم الذي يعيشه الناس في غزة وعائلات الرهائن، كحلقة أخرى جديدة في سلسلة طويلة من المآسي المماثلة. بل على العكس: إنه يُمَكّننا من التفكير بتمايز وبدون تحيز في جرائم القتل والإقصاء والوصم واضطهاد أو تهجير الناس وآثارها، مع تجنب تصنيف ضحايا العنف بشكل هرمي. وهذا أمر مهم بشكل خاص في ألمانيا.
وكما أكد يورغن تسيمرَر في مقابلة حديثة مع موقع قنطرة: ليس هناك حاجة إلى مناقشة إنْ كان يجب أن نستفيد من الدروس التي تعلمناها من التاريخ بل أن نناقش ماهية تلك الدروس. وبتعبير آخر: لا يتعين علينا السؤال عن إنْ كانت جرائم الإبادة الجماعية في الماضي فريدة من نوعها. بالتأكيد كانت كذلك. ولكن السؤال الأكثر أهمية هو: ماذا يمكننا أن نتعلم منها لفهم أفضل للوحشية والمعاناة الفظيعة التي تحدث حاليًا أمام أعيننا.
الأمر يحتاج إلى توفير فضاءات آمنة
يجب على الجامعات توفير مساحات آمنة ومحمية للإجابة على هذا السؤال والدفاع عن العلماء والباحثين ضد الضغوط التي تدفعهم إلى الرضوخ لمنطق الصراع الثنائي المعيب. ويجب أن تفهم الجامعات نفسها كمنصات آمنة ومحمية للحوار يمكن للباحثين -حتى من ذوي المواقف المثيرة للجدل- من خلالها المشاركة في المناقشات العامة.
كما يجب على الجامعات أن تعمل على تهيئة الظروف التي يشعر فيها الباحثون والباحثات في مجال الصراع بالأمان في مؤسساتهم الأصلية، ويستطيعون فهم ديناميكيات العنف مثل الحرب في غزة دون اتهامهم بإضفاء الشرعية عليها. ويجب عليهم توفير هياكل الدعم -العاطفية والتواصلية والقانونية- التي تمكن الباحثين من جميع الخلفيات الديموغرافية والميول العاطفية والمواقف السياسية من التعبير عن آرائهم المستندة إلى أسس علمية.
وإلا فإنها ستعيد إنتاج العنف المعرفي ذاته الذي أدى في الأشهر الأخيرة إلى إغلاق النقاش في وجه الأصوات الناقدة وعزل الجمهور بشكل شبه كامل عن المداخلات النقدية.
ومع ذلك لا يكفي مجرد خلق الظروف الهيكلية والثقافية من أجل خطاب مثمر، بل يجب على العلماء أيضًا أن يستخدموا بشكل استباقي الساحات المتاحة لهم وأن يقاوموا بوعي ضغوط التحيز السياسي. وفي هذا السياق تعني النزاهة العلمية مواجهة الحقائق غير المريحة ومعالجتها - بغض النظر عن إنْ كان بمقدور أي من أطراف الصراع الاستفادة من ذلك.
غير أن هذا المطلب لا يعني أنه ينبغي حظر التفسيرات المختلفة لتدمير غزة والمعاناة الناجمة عن العملية العسكرية الإسرائيلية في الخطاب الأكاديمي، بل على العكس تماما. يجب علينا أن نأخذ على محمل الجد تنوع الخبرات والمعايير القائمة عليها، وأن نسأل أنفسنا عن إنْ كان موقفنا الخاص يعمينا عن تكوين تصورات مختلفة للواقع الاجتماعي، بل وربما يجعلنا نفشل في إدراك بعض أشكال الهيمنة والقمع الأكثر عنفًا في عصرنا. الجامعة هي المكان المناسب لعمليات التفكير النقدي هذه وعلينا جميعًا التأكد من بقائها على هذا النحو.
يانيس يولين غريم
ترجمة: صلاح شرارة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024
الدكتور يانيس يولين غريم يبحث في ديناميكيات العنف والمقاومة في جامعة برلين الحرة مع التركيز الإقليمي على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهو يرأس مجموعة البحث التي تحمل اسم "فضاءات راديكالية" أو في مركز أبحاث السلام والصراع متعدد التخصصات، وهي مجموعة بحثية تتناول التأثير المتبادل بين تجربة العنف والتعبئة الاجتماعية في سياق الاحتجاجات الجماهيرية وظروف تأثير أشكال الاحتجاج المتطرفة. وهو أيضًا باحث في معهد أبحاث الاحتجاج والحراك ipb وعضو في فريق تحرير المجلة البحثية "حركات اجتماعية". صدرت له كتب مثل: "أبحاث ميدانية أكثر أماناً في العلوم الاجتماعية" أو "Safer Field Research in the Social Sciences"، دار نشر سايج Sage 2020 و كتاب "الشرعيات المتنازع عليها" أو "Contested Legitimacies"، مطبعة جامعة أمستردام 2022.