نظرة غربية متحيزة ضد الأدب العالمي؟
عندما فتح معرض فرانكفورت للكتاب أبوابه في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي كانت هناك تغطية إعلامية واسعة النطاق لفعالياته، كما هو الحال كل عام، غير أن الكتب لا تحظى بهذا القدر من الاهتمام خلال بقية العام، خاصة مع قلة تغطية الأعمال الأدبية والثقافية بالعديد من وسائل الإعلام الرئيسية في ألمانيا.
ورغم ذلك، يبقى معرض فرانكفورت الحدث السنوي الذي يعطي الكتب والمؤلفين والناشرين بشكل استثنائي مساحة أكبر قليلاً من المعتاد. كما تعرض وسائل إعلام ألمانية مثل مجلة دير شبيغل وقنوات تلفزيونية ومجلات رقمية، قوائمها عن أفضل المؤلفات وتقدم نصائح عن القراءة كل عام قبل انطلاق المعرض.
غير أن الشيء المشترك بين هذه الوسائل جميعًا؛ هو عدم وجود مساحة لدور النشر الصغيرة والأدب غير الغربي مع وجود استثناءات قليلة. ويرجع ذلك لأسباب عديدة، أولها أنه لا يكاد يوجد في وسائل الإعلام الكبرى في ألمانيا من هو على دراية بالأدب القادم من آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، ولنفس السبب أيضًا لا يُسلّط الضوء بشكل كافٍ على الأدب القادم من البلدان الإسلامية.
ويمكن القول إن الشيء الوحيد الذي تحسن قليلاً في السنوات الأخيرة هو التركيز على أعمال المؤلفين غير الأوروبيين الذين يعيشون في ألمانيا. ولكن يرجع هذا بشكل كبير إلى أن أعمال هؤلاء المؤلفين أصبحت تُنشر حاليًا بشكل أكثر رواجًا من دور النشر التجارية، فضلًا عن حصولهم على جوائز أدبية.
الأدب غير الغربي هو تجارة مدعومة
لا تحظى أعمال دور النشر الصغيرة بنفس القدر من الاهتمام، رغم تركيزها على التنوع الأدبي. ويمكن ملاحظة ذلك في استحواذ شركات "بنغوين راندوم هاوس" أو "هولتزبرينك" على الكثير من دور النشر. إذ ترى هذه الشركات أن تحقيق الأرباح أكثر أهمية من جودة المحتوى ووجود هوية متميزة للنشر، ما يساهم في بقاء الأدب غير الغربي في أفضل الأحوال عملاً هامشيًا حتى في دور النشر الأخرى.
وفي الوقت الذي تُنشر فيه أعمال المؤلفين الذين لديهم شهرة إعلامية أو قدرة على إثارة الجدل أو باع طويل في مجال الأدب، فإن العثور على ترجمات من العربية والفارسية والتركية مسألة أصعب بكثير.
أما بالنسبة لدور النشر الصغيرة، التي تستكشف الأوساط الثقافية الإسلامية ولديها علاقات جيدة مع الناشرين في طهران وإسطنبول وأبو ظبي والقاهرة، فقد اعتمدت منذ فترة طويلة على الدعم المادي مثل الذي تقدمه جائزة النشر الألمانية السنوية، بالإضافة إلى منح الترجمة من مؤسسات مثل "ليتبيروم"، ومؤسسة الشيخ زايد، وصندوق المترجمين الألمان لنشر الكتب.
وكالة ترجمة أدب عربي بنهج جديد
تتحدث مختصتان بالأدب العربي الجريء والمتميز عن ذوقهما الأدبي ومعيار اختيارهما لترجمة أعمال عربية أدبية وسبب تسمية وكالتهما بـِ 10/11. مارسيا كويلي حاورت ساندرا هِتْسِل وكاثرين هولْز لموقع قنطرة.
يكاد لا يعترف أحد بذلك، لكن الأدب غير الغربي المترجم إلى اللغة الألمانية، مع بعض الاستثناءات، هو في الغالب عمل مدعوم نادرًا ما يغطي تكاليفه.
فيما يبدو اهتمام وسائل الإعلام الألمانية بالأدب غير الغربي محدودًا للغاية، كما هو الحال مع الاهتمام العام بأي شيء يمكن اعتباره "أجنبياً"، بالإضافة إلى أن دور النشر الصغيرة والمؤلفين الأقل شهرة يواجهون صعوبات كبيرة. ويرجع هذا جزئيًا إلى القوة السوقية لسلاسل المكتبات الكبرى والمتاجر الإلكترونية التي تهدف إلى تحقيق مبيعات سريعة بدلاً من التركيز على الاستدامة الثقافية.
الغطرسة والغرور
قد يتساءل البعض عمّا إن كانت قلة الاهتمام بالأدب غير الغربي أمرًا سيئًا، أليس واقعيًا أن يكون الأدب المحلي، أو الأدب الغربي بمعناه الأوسع، الأكثر قراءة في ألمانيا والاتحاد الأوروبي؟ بالطبع، هذه نظرية واقعية ومفهومة.
لكن لفهم عمق المشكلة، فلنلق نظرة فاحصة على قوائم الكتب الأكثر مبيعًا والجوائز الأدبية التي تتباهى بمصطلح "الأدب العالمي". أيّ شخص يأخذ هذا المصطلح، الذي صاغه الأديب الألماني يوهان غوته، على محمل الجد، يجب أن يهتم بالتوازن. وينبغي منح الأدب من جميع أنحاء العالم وزنًا متساويًا، بدلاً من تصنيف "الأدب العالمي" كنوع من التقييم الذاتي للأعمال التي يُعتقد أنها ذات جودة عالمية.
لكن قوائم "الأدب العالمي" عادة ما تتكون في الغالب أو حتى حصريًا من الأدب الغربي، وقد تحتوي أحيانًا على ما يقرب من عشرة بالمائة من الأدب غير الغربي، أي كتب لمؤلفين لا ينتمون إلى أوروبا أو أمريكا الشمالية.
وهذا ليس دليلاً على الجهل بالأدب العالمي فحسب، بل يعكس أيضًا قدرًا كبيرًا من الغطرسة والغرور، إن أيّ شخص يُهمش الأدبيات غير الغربية بهذه الطريقة يؤكد أنه لا يأخذها على محمل الجد ويعتبرها أقل أهمية من الأعمال الغربية.
بالطبع، هذا هراء! إذ يُكتب نثر وشعر من الطراز العالمي في إيران ومصر وتركيا والمملكة العربية السعودية بنفس القدر الذي يُكتب به في ألمانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسا، لكن المشكلة أننا لا نسمع عنها كثيًرا بسبب قلة الترجمات، وحتى عندما توجد ترجمات غالبًا ما يتم تجاهلها.
ولتوضيح التفاوت في الأدب العالمي مرة أخرى، فإنه غالبًا ما يظهر اسم غوته في مثل هذه القوائم، أما الشاعر الإيراني الشهير شمس الدين محمد حافظ ليس موجودًا. ومع ذلك، فإن الأعمال الشعرية لهذه الأيقونة الفارسية هي بلا شك من بين أكثر الأعمال الخالدة في التاريخ الأدبي.
في الدورة الماضية من معرض فرانكفورت للكتاب، كان من الصعب مرة أخرى العثور على ترجمات ألمانية جديدة من الفارسية، ونادرًا ما يكون هناك أكثر من خمسة كتب في أي سنة، وفي بعض السنوات لا يظهر أي كتاب على الإطلاق. ولكن في عام 2024، صدر على الأقل كتاب جديد لأمير حسن شلهتان بعنوان "وردة نيشابور" (ترجمة يوتا هيميلرايش إلى الألمانية، عن دار نشر سي إتش بيك).
أصبح شلهتان اسمًا معروفًا في ألمانيا بعد أن كان على رادار وسائل الإعلام الغربية لفترة طويلة لكتاباته عن السياسة الإيرانية، مما يجعله مثالًا واضحًا على انتقاء المؤلفين. ففي عام 2009، نُشرت روايته "طهران، شارع الثورة" باللغة الألمانية للمرة الأولى، عن دار نشر صغيرة "بيتر كيرشهايم" للنشر في ميونيخ، وقد توقفت دار النشر هذه للأسف عن العمل لاحقًا بسبب تقدم مالكها في العمر.
ولطالما كانت دار نشر "بيتر كيرشهايم" تتبنى "رؤية فضولية للعالم"، كما قال غوته، وقد وجدت رواية شلهتان قوية للغاية ونشرتها. وعندما حظيت الرواية بالاهتمام وحققت مبيعات جيدة، تدخلت دار نشر "سي إتش بيك"، حيث تُنشر أعمال شلهتان منذ ذلك الحين من خلالها، ولكن ليس حصريًا.
''البلطجة''.....أجندة نظام الملالي
يسعى الكاتب الإيراني أمير حسن جهل تن في رواياته إلى لفت الأنظار إلى نموذج خطير في التاريخ الإيراني المعاصر يتمثَّل في استعانة السلطة بعصابات البلطجية وقتلة من العالم السفلي بغية فرض أهدافها دون مراعاة أي اعتبار. شتيفان بوخن يستعرض أعمال الكاتب الإيراني.
وقد أعادت دار كيرشهايم نشر أقوى روايات شيلتان حتى الآن، وهي "Iranische Dämmerung" أي "الفجر الإيراني"، في عام 2015 على الأرجح لأن دار "سي إتش بيك" شعرت بأن النص صعب للغاية بالنسبة للجمهور الألماني. لا ينبغي فهم ذلك كنقد لدار النشر، لأنها غالبًا ما تطرح أعمالًا جيدة بما يكفي.
ولكن غالبًا ما يكون الناشرون الصغار هم أول من يتعقبون الأدب العالمي المثير للاهتمام، وعادة يأتي ذلك بمخاطر اقتصادية هائلة، وعندما يتخطى هذا العمل الأدبي، بمعجزة ما، كل العقبات ويصل إلى جمهور أكبر، ينقض عليه الناشرون الكبار. في الوقت نفسه، لا يمكنك لوم المؤلفين على موافقتهم على ذلك؛ فبعضهم يفعل ذلك على مضض، لكنهم لا يعترفون بذلك إلا خلف الأبواب المغلقة.
استنساخ الصور النمطية
يرجع ذلك جزئيًا إلى طريقة التعامل مع الكتب عند إصدارها، إذ تميل بعض دور النشر الكبرى، وخاصة تلك التابعة لمجموعة "بنغوين راندوم هاوس"، إلى تغليف تصميم كتبها بالكليشيهات. تقريبًا، دون استثناء، تحتوي كتب من البلدان الإسلامية على صورة امرأة محجبة أو مسجد على الغلاف، حتى عندما لا يُذكر المسجد في الكتاب نفسه، كما هو الحال مثلا مع رواية "خسارة" الرائعة للكاتب التركي هاكان جونداي.
هذا لا يعيد إنتاج الصور النمطية المشوهة عن بعض البلدان فحسب، بل يُظهر أيضًا مدى استخفاف دور النشر بثقافتها الأدبية، كما يجعل هذه الكتب تبيع نسخًا أقل بكثير مما يمكن أن تبيعه.
وبينما يشعر الجمهور الصغير المهتم فعلًا، بالإحباط من هذه الأغلفة، لا يتكلّف الآخرون عناء شراء هذه الكتب أصلاً لأنهم لا يريدون قراءة كتب عن الإسلام. وهو الأمر الذي يجعلهم غير قادرين على معرفة حقيقة أن هذه الأعمال تتناول على الأغلب مواضيع مختلفة تمامًا.
وطالما استمرت دور النشر الكبرى في تسويق الأعمال بشكل غير احترافي، مع غياب الدعم لدور النشر الصغيرة، واستمرار الجهل في وسائل الإعلام وسوق الكتب، وعزوف الجمهور عن الانخراط، سيظل تحقيق مفهوم "الأدب العالمي" الحقيقي مجرد حلم صعب المنال.
وكما قال غوته ببلاغة: "أولئك الذين يقرأون الكتب يرون العالم وليس فقط السياج"، وهي صياغة دقيقة لما يعنيه مصطلح "الأدب العالمي". ويحظى الأمر بأهمية بالغة في عصر الاستقطاب الإعلامي متعدد الوسائط والتبسيط المفرط.
يمكن للمرء التعرف على البلدان والثقافات من خلال السفر إليها والتواصل مع الأشخاص المحليين أو الأشخاص الذين ينحدرون من هناك، ولكن سرعان ما يصل هذا الأمر إلى حدوده، ففي النهاية، من يمكنه حقًا السفر إلى جميع بلدان العالم؟
لا تمنحنا الحياة الوقت الكافي للسفر لجميع أنحاء العالم، لكن القراءة يمكنها أن تحقق ذلك، إذ تقدم كل رواية وكل قصيدة لمحة عما وراء الكواليس، وتقدم رؤى تاريخية وثقافية يصعب الحصول عليها فقط من متابعة وسائل الإعلام الإخبارية. ويساعد الأدب على تكوين رؤية عالمية أكثر وضوحًا وتمييزًا ويتيح للأشخاص التأمل في الذات وما نعرفه وما نجهله، لكن ذلك لا يكون ممكنًا إلا إذا كانت الكتب متوفرة مترجمة ومتاحة للقراءة.
غيريت فوستمان هو مؤلف كتاب "Weltliteratur. Warum wir ein neues Literaturverständnis brauchen " أي (الأدب العالمي: لماذا نحتاج إلى فهم جديد للأدب؟)، صادر عن دار نشر "سوييت" عام 2021.
قنطرة ©