دورات تدريبية للاجئين السوريين في بلديات ألمانية
كانت البداية صعبة بالنسبة لكلا الطرفين. لم يكن العاملون في الإدارات المحلية يعرفون حقًا ماذا ينتظرهم. إذ لم يكن لديهم بتاتًا مثل هؤلا المتدرِّبين. وعلى الجانب الآخر، كان كلّ شيء جديدًا بالنسبة للمشاركين السوريين: اللغة وطرق التعامل والإجراءات. ولم يكن لديهم أدنى فكرة عن المطلوب منهم.
هاني مشمش شابٌ من سوريا عمره ثلاثة وعشرون عامًا، يقول: بالنسبة له كانت المفاجأة الكبرى "أنَّ الموظفين الإداريين يُنجزون فعلًا مصالح المواطنين". ويضيف أنَّ المواطنين في سوريا يجب عليهم أوَّلًا دفع الرشاوي حتى ينجز الموظفون مصالحهم. هاني مشمش أصله من دمشق، التي كان يدرس فيها الاقتصاد قبل اضطراره إلى ترك الجامعة بسبب الحرب في سوريا.
وهو واحدٌ من خمسة وعشرين متدرِّبًا ومتدرِّبة شاركوا من جميع أنحاء ألمانيا في مبادرة "المعرفة العملية في إدارة البلديات للشرق الأوسط"، التي أطلقتها وكالة المشاركة العالمية (Engagement Global) عامي 2018 و2019. وفي هذه المبادرة، تم تعريف المتدرِّبين على أساليب عمل الإدارات البلدية في ألمانيا. وكان الهدف أن يلاحظ المتدرِّبون كيفية عمل الهياكل الإدارية والعمليات الديمقراطية على المستوى المحلي.
متدرِّبون مؤهلون تأهيلًا عاليًا
وفي الوقت نفسه، تمكَّنوا من تحسين فرصهم في سوق العمل. شاركت في المبادرة بلديات مختلفة تمامًا: من البلدية الصغيرة بيفيرشتيت في ريف ولاية شليسفيغ هولشتاين، عبر المنطقتين الريفيتين دوناو-ريس في ولاية بافاريا وَ هاميلْن-بيرمونت في ولاية سكسونيا السفلى، ومدينة ماينتال بالقرب من فرانكفورت، وحتى المدن الكبرى دارمشتات وغيسن وكريفيلد.
تراوحت أعمار المتقدِّمين السوريين بين ثمانية عشر عامًا وأكثر من خمسين عامًا، والكثيرون منهم حاصلون على شهادات جامعية من سوريا في اختصاصات مثل الهندسة والهندسة المعمارية وتكنولوجيا المعلومات والاقتصاد وعلم النفس والتربية والتعليم، كما يوجد لدى كبار السنّ منهم خبرة مهنية. لم يكن يوجد بتاتًا في إدارات البلديات مثل هؤلاء المتدرِّبين المؤهلين. وقد حصلوا خلال فترة التدريب المستمرة عامًا واحدًا على الحدّ الأدنى القانوني من الأجور بتمويل من الوزارة الاتِّحادية للتعاون الاقتصادي.
وتعرَّفوا في الإدارات البلدية على أقسام مختلفة، خاصةً الأقسام المسؤولة عن الصحافة والثقافة وكذلك مكتب الشؤون القانونية ومكتب الشؤون البيئية والنظام العام وشؤون العقارات وحتى المرافق البلدية ومكتب إدارة المباني وأرشيف المدينة ومكتب المعلومات السياحية وتكنولوجيا المعلومات. وقد أتاح لهم ذلك الحصول على لمحة عامة عن كافة الأنشطة الإدارية.
كما حصلوا في أحسن حال على لمحة عن مجالات العمل المرتبطة بشكل مباشر بدراساتهم أو بمؤهلاتهم المهنية. لم تتمكَّن الإدارات البلدية من وضع جميع المتدرِّبين في المكان المطابق لمؤهلاتهم المهنية، بحيث تمكَّن مثلًا المهندس المعماري من العمل لبعض الوقت في مكتب إدارة المباني أيضًا.
"صدمة ثقافية"
بالنسبة لسامي مراد، وهو محامٍ من دمشق عمره ثلاثون عامًا، كانت الأيَّام الأولى في إدارة مدينة كريفيلد بمثابة "صدمة ثقافية": فالقواعد وطرق التعامل مختلفة تمامًا عما يوجد في سوريا، مثلما يقول. ويضيف أنَّه كان في البداية يخشى من عدم قدرته على تلبية المتطلبات.
كذلك كانت حال الشابة بيان المرعشلي - البالغة من العمر اثنين وعشرين عامًا - عندما بدأت دورتها التدريبة في إدارة مدينة ماينتال. هذه الشابة الحاصلة على شهادة الثانوية العامة من دمشق، كانت في البداية محتارة من ردّ فعل الموظفين الإداريين تجاهها. تقول إنَّ كلَّ شيء كان جديدًا وكانت حواجز اللغة كبيرة. ولكن بعد عدة أيَّام هدأ اضطرابها لأنَّ "الجميع كانوا مستعدِّين لتقديم المساعدة وكانوا يجيبون بصبر على أسئلتي".
تمكَّن معظم المتدرِّبين من الاندماج بسرعة في العمل وتحسين إلمامهم باللغة الألمانية وفهم الإجراءات والقواعد الجديدة عليهم.
ومع ذلك فقد كانت توجد أيضًا تجارب محبطة في البداية. مثل تجربة خالد خليفة، وهو مهندس مدني عمره تسعة وعشرون عامًا ومتزوج ولديه أربعة أطفال. كان قد بدأ الدراسة في سوريا، وتخرَّج من مصر في عام 2012 وأثبت أن لديه خبرة مهنية لثلاثة أعوام في الإمارات العربية المتَّحدة. اضطرت عائلته إلى العودة إلى سوريا في عام 2015، ولكنها لجأت بعد ذلك بثمانية أشهر إلى ألمانيا. وفي ألمانيا تم إرساله للتدريب في بلدية بيفيرشتيت في ولاية شليسفيغ هولشتاين.
اكتشف خالد خليفة خلال دورته التدريبية في مكتب إدارة المباني بالبلدية أنَّ البناء في ألمانيا يختلف تمامًا عن البناء في الإمارات. فبدلًا من تشييد مراكز تسوُّق، أصبح مشغولًا الآن في التخطيط لبناء دور حضانة للأطفال. وتفاجأ من أنَّ مواد البناء المستخدمة وكذلك أنظمة البناء وقواعد العطاءات والمناقصات مختلفة تمامًا وصعبة الفهم حتى بالنسبة للألمان الغريبين عن هذا القطاع. وبالنسبة لخالد خليفة فقد كان هذا في البداية مخيِّبًا للأمل. وكان يتساءل ماذا يمكنه أن يفعل في ألمانيا بمهنته التي درسها. ومع ذلك فقد ثابر هذا المهندس المدني بصلابة.
اكتساب معارف في مجال لا يزال غريبًا
"صحيح أنَّ هذه التجربة كانت محبطة بالنسبة له، ولكنها كانت مهمة جدًا"، مثلما يقول ديتليف فينغر: "فقد استطاع ضمن الإطار المحميّ للدورة التدريبية أن يكتسب معارف جديدة مهمة لسوق العمل".
والمهندس المدني خالد خليفة يرى ذلك على هذا النحو أيضًا، ويقول: "كان من المهم جدًا بالنسبة لي أن أتعرَّف على عملية البناء بأكملها في ألمانيا. كان الأمر صعبًا في البداية، ولكن ساعدني كثيرًا تكاتف الموظفين الإداريين وتماسكهم مثل العائلة". بعد انتهائه من دورته التدريببة، تقدَّم بطلب للحصول على وظيفة لدى شركة بناء، وقد احتسبت له خبرته في الإدارة البلدية وحصل على الوظيفة.
كان هذا التدريب أيضًا بمثابة مقدَّمة لأسس الديمقراطية، بالإضافة إلى تأهيل المتدرِّبين لسوق العمل في ألمانيا. أُعجب هاني مشمش بتجربته في المساعدة على التحضير للانتخابات الإقليمية والبرلمانية في ولاية بافاريا في عام 2018. وقد حصل بذلك على فكرة عن كيفية سير الانتخابات الديمقراطية على المستوى المحلي. وبالإضافة إلى ذلك فقد تمكَّن من المشاركة في اجتماع لمجلس المواطنين، كان موضوعه التخطيط لبناء حوض سباحة داخلي. وهكذا تعرَّف من خلال هذا المثال المحدَّد للغاية على كيفية عمل مشاركة المواطنين.
لم يكن هاني مشمش المتدرِّب الوحيد الذي سارت أحواله على هذا النحو. أحمد الحمود - مثلًا - لاجئ سوري مولود في مدينة حمص وعمره ثمانية وعشرون عامًا، يعيش في ألمانيا منذ أكثر من ثلاثة أعوام. لم يتمكَّن في مصر لأسباب سياسية من إكمال دراسة القانون التي كان قد بدأها في سوريا. لذلك هرب إلى ألمانيا عن طريق تركيا على أمل أن يكمل دراسته هنا. ولكن نظرًا لعدم توفُّر بعض الوثائق المهمة لديه، فقد تم استبعاد هذه الفرصة. وقَبِلَ بكلّ ودّ وسرور بالمشاركة في الدورة التدريبية بمدينة ماينتال: "لأنَّني رغبتُ في العمل مع النصوص القانونية ومعرفة كيف تعمل البلدية في ألمانيا".
ربح وفائد للطرفين
تحمَّسَ أحمد الحمود لمعايشته كيفية تنظيم العمليات الديمقراطية في مكتب البلدية، وخاصة كيفية مناقشة المجلس البلدي استخدام أموال المدينة، وقد تحمَّسَ لحقيقة أنَّ التعبير عن آراء مثيرة للجدل أمر طبيعي. وحول ذلك يقول: "لا توجد لدينا في سوريا مثل هذه النقاشات. الناس يخافون لدينا من التعبير عن آرائهم بحرِّية".
لكنَّ اللاجئين السوريين لم يكونوا وحدهم المستفيدين من هذه الدورة التطبيقية. يعتبر التواصل اليومي بالمهاجرين ذا قيمة عالية بالنسبة لموظفي الإدارات، لأنَّ الانفتاح بين الثقافات مُدرَج على جدول أعمالهم اليومي. والتواصل المباشر مع الناس أفضل وسيلة للتقليل من التحفُّظات، مثلما تقول مفوَّضة الاندماج في مدينة كريفيلد تغريد يوسف: "جميع الدراسات حول الاندماج تصل إلى هذه النتيجة".
أثناء المقابلات العديدة والأحاديث والدردشات غير الرسمية، التي كانت تجري خلال استراحة القهوة أو على الغداء وتتناول وضع اللاجئين المعيشي والأطفال وأفراد الأسرة، تطوَّر لدى الموظفين الإداريين فهمٌ أفضل لوضع اللاجئين، مثلما يقول كارل-هاينتس كوستر، منسِّق سياسة التنمية المحلية في منطقة دوناو-ريس.
"أصبح معنى التواصل بين الثقافات ملموسًا حقًا"، مثلما تقول مفوَّضة الاندماج فيرينا شتروب: بالنسبة للإدارات البلدية كان مكسبًا كبيرًا أن نرى كيف تساهم امرأة محجَّبة ورجل عربي مساهمات مفيدة في عملنا اليومي ويقدِّمان أفكارهما الخاصة: "هذه تجارب تعليمية مهمة للإدارات".
اللاجئون كزملاء عمل بمهارات مهنية
ومن خلال ذلك لم يُنظر إلى اللاجئين تلك النظرة المعتادة كمتلقين للمساعدات، بل كزملاء عمل بمهارات مهنية. تعلَّم سامي مراد خلال فترة تدريبة في "مكتب الشؤون الاجتماعية وكبار السنّ والإسكان" في مدينة كريفيلد كيف يتم إنجاز طلبات الحصول على الدخل الأساسي لتأمين نفقات المعيشة. وهو يعرف الآن ما هي المعايير التي يجب إيفاؤها، ومَنْ لديه حقّ الحصول على مساعدات من الدولة وكيف يتم حساب مقدار هذه المُخَصَّصات.
كانت هذه تجربة مهمة بالنسبة لسامي مراد، الذي كان كلاجئ في البداية لا يعرف الدوائر إلَّا من منظور مُقَدِّم طلب. يقول سامي مراد: "طبعًا لغتي الألمانية ليست سليمة من دون أخطاء. كلُّ شيء جديد بالنسبة لي. ولكنني استطعت مرة أخرى خلال الدورة التدريبية تحسين معرفتي اللغوية بشكل كبير".
مساعدة من أجل إعادة إعمار سوريا
كانت تجربة اللاجئين في تغيير الأدوار وتقديم المساعدة للآخرين مفيدة جدًا من أجل تعزيز ثقتهم بأنفسهم. على سبيل المثال، استمتع هاني مشمش كثيرًا بوقته في مكتب المعلومات السياحية بمدينة نوردلينغِن. فهناك استطاع هذا الوافد الجديد أن يشرح للسيَّاح معالم المدينة والأماكن السياحية فيها.
غير أنَّ هذا المشروع المموَّل من قِبَل وزارة التنمية الألمانية لا يهدف فقط إلى تسهيل اندماج اللاجئين السوريين في ألمانيا، ولكنه يهدف أيضًا إلى تمكينهم من المساعدة في إعادة إعمار سوريا. ولكن في الواقع ها هو بشار الأسد أشد تشبُّثًا بجلوسه على كرسي الحُكم من أي وقت مضى في سوريا، وفي إدلب ازدادت حدة الصراع مرة أخرى. ولذلك لا يمكن الحديث في المستقبل المنظور عن إعادة الإعمار - ناهيك عن البدء من جديد بدايةً ديمقراطية.
تقول مديرة المشروع جِنيفَر إشيكافا من "وكالة الخدمات البلدية في عالم واحد": "نحن لا نعرف متى وكيف سيتغيَّر الوضع السياسي في سوريا". ولكن يمكن للبلديات الألمانية أن تقدِّم للاجئين السوريين لمحة عن كيفية عمل الإدارات المحلية البلدية والديمقراطية على المستوى المحلي. "هذا المشروع استثمارٌ في المستقبل".
كلاوديا مينده
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
[embed:render:embedded:node:36694]