لقد "سخِرْتُ من السجن" في مصر
في كتابك "أدلة فاسدة" كتبتَ: "لم أعتبر نفسي كاتباً قط حتى تم سجني". وبعد ثمانية أشهر قضيتها في السجن، قررتَ أن تكون كاتباً. فكيف حدث هذا؟
أحمد ناجي: قبل سجني كنت قد نشرتُ روايتين، لكنني كنت أعتبر نفسي صحفياً. لم أكن أرى نفسي كاتباً لأن الأمر بدا وكأنه التزام كبير جداً. وكان هذا أكبر من طاقتي. لكن فجأة سُجنت لأنني كنت كاتباً. وفي السجن يبدأ المرء في إمعان التفكير في كل شيء.
الإنسان يتساءل عن إنْ كان الشيء الذي أدخله السجن يستحق ذلك. وقد وجدتُ الإجابة ذات ليلة عندما استيقظتُ للذهاب إلى الحمام. وهناك وجدتُ أحد زملائي السجناء وقد فاضت دموعه. في العادة كان هذا الرجل باردًا كالثلج، لكنه في هذه المرة لم يستطع التوقف عن النحيب. وعندما سألته ما المشكلة، حكى لي عن الكتاب الذي كان يقرأه ساعتها.
كان الكتاب يدور حول قصة حب للمراهقين، لكنه تأثر بها لدرجة أنه لم يكن يستطيع حتى النظر إلى غلاف الكتاب دون أن يتذكر بعض الجمل وينفجر في البكاء مرة أخرى. توسل إلي قائلا: "عليك أن تقرأه! لقد حطم قلبي". ولعدة أيام ظل يلح على أن أقرأ الكتاب.
لقد حاولت ذلك، لكن اضطررت للتوقف لأنه كان سيئًا جدا. لكن هذه التجربة أوضحت لي أن هناك قوة خفية في الأدب. يمكنها حتى أن تلمس مخلوقًا بارد القلب مثل زميلي في السجن وتهزه إلى هذه الدرجة.
لقد سُجنتَ قبل سبع سنوات، من فبراير / شباط إلى ديسمبر / كانون الأول 2016. لماذا الآن هو الوقت المناسب لنشر كتاب يتناول فترة سجنك؟
ناجي: في الأصل لم أكن أرغب في كتابة أي شيء عن الفترة التي أمضيتها في السجن؛ لأنني لست من محبي أدب السجون بشكل خاص. لكن منذ عام 2013، يقوم النظام المصري بقمع حرية التعبير وجميع الأنشطة السياسية في البلاد بشدة. فالسجن السياسي منتشر على نطاق واسع. بل أود أن أقول إن معظم العائلات لديها على الأقل فرد واحد تعرض للسجن في السنوات العشر الماضية.
"أدب السجون تهيمن عليه سرديات سياسية"
ولكن عندما بحثتُ عن مؤلَّفات حول هذا الموضوع، فوجئتُ أنني لم أجد أي شيء. يكتب بعض السجناء السابقين عن تجاربهم على فيسبوك ولكن هذا هو كل شيء. لذلك قررت أن أكتب كتاباً عن السجن. بدأت بتدوين قصاصات مفردة في عام 2017 بعد إطلاق سراحي. ثم نُشِرت النسخة العربية في مصر عام 2020.
في مصر؟ هذا مفاجئ.
ناجي: نعم، أمكن نشر الكتاب هناك، لكنهم منعوا تصديره. على سبيل المثال لم يُسمح ببيعه لدول الخليج، التي تُعَدّ من أهم المشترين للأدب المصري.
وأخيراً أصدرت دار نشر "خان الجنوب" في برلين طبعة جديدة من الكتاب باللغة العربية.
أما عني فأنا أعيش في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2018 وكنت منذ البداية جزءاً من مجتمع الفنانين والمؤلفين. أردت أن أتبادل الأفكار معهم، وهذا يشمل قراءة أعمال الآخرين.
ولهذا السبب كنتُ سعيداً جداً عندما قرأت المترجمة كاثرين هولز كتابي وأعجبت به وأرادت ترجمته.
في الواقع لماذا لا تحب أدب السجون؟
ناجي: أدب السجون المصري تهيمن عليه السرديات السياسية. إذا قرأت أدبيات سجن الإخوان المسلمين فستجد أن الأمر كله يتعلق بكونهم ضحايا.
وبناءً على ذلك فإنهم بدورهم يبنون ثقافة عنف وانتقام. أما أدب السجون اليساري فيدور حول البطولة والتضحية بالنفس من أجل القضية والأمة.
كلتا المجموعتين كانتا في السجون نفسها، لكن يبدو أنهما كانتا تكتبان عن عالمين مختلفين تمامًا. والسرد السياسي يشوه عرضهما الأدبي.
أنتَ لم تكن سجيناً سياسياً. لقد تم القبض عليك لسبب عبثي لأنه يُزعم أن رجلاً مسناً أصيب بمشاكل في القلب بسبب فقرة قرأها في روايتك. كيف أثر هذا على وضعك كسجين؟
ناجي: كان هذا أمرا محيراً وأحد الأسباب التي دفعتني إلى تأليف الكتاب. كصحفي في مصر لا يتوقع الإنسان في الواقع أن يتم سجنه في أي وقت لسبب سياسي ما. لقد كنت على استعداد لذلك. لكن حالتي كانت مختلفة تماماً عن أي شيء كنت أتوقعه. ولم أسجن كسجين سياسي. كانت تهمتي تسمى "خدش الحياء العام". كنت في زنزانة واحدة مع ضباط شرطة فاسدين ورجال أعمال ومليونيرات ومهربي مخدرات أجانب. وكانت التجربة مختلفة تماما عما كان متوقعاً.
تصف في الكتاب الزمالة بين السجناء، وكذلك أيضا المعاناة من كونك محاطاً بالناس على الدوام. كيف ترى الأمر اليوم عندما تعود بنظرك إلى الوراء؟
ناجي: الكتابة عن زملائي السجناء كانت الجزء الأصعب في هذا الكتاب. عشنا معًا، وأكلنا معًا، ونام بعضنا إلى جانب بعض. كان علينا أن يعتني بعضنا ببعض، حتى لو كانت لدينا خلافات في بعض الأحيان. في روايات السجون، غالباً ما يكون المؤلف مفتوناً بزملائه السجناء، الذين يأتون من مختلف قطاعات المجتمع.
لكنني لم أرغب في إنشاء معرض للأشخاص الغريبين. كما أنني لم أرغب في النظر إلى زملائي السجناء من خلال عدسة الدولة، التي تعتبرهم مجرمين. ولهذا السبب لم أنشغل كثيرا بقضاياهم، بل حاولت التقاط لحظات التضامن والحب والصداقة والنكات السخيفة.
حين تصبح الكتابة جريمة في مصر
يستهدف النظام العسكري المصري بقمعه كُتّابًا ومؤلفين، يتم اتهامهم بـ"خدش الحياء العام". محاكمة الكاتب والصحفي المصري أحمد ناجي تعتبر من أبرز المحاكمات القضائية التي شهدتها مصر ضمن هذا السياق، بسبب روايته "استخدام الحياة". موريتس ب. وَ لويزا م. في حوار لموقع قنطرة مع الروائي المصري أحمد ناجي.
"لم أرغب في تصوير الأمور برومانسية"
يبدو مما جاء في الكتاب أن الآخرين بالأحرى أزعجوك إلى حد ما في معظم الوقت.
ناجي: نعم، لم أرغب في تصوير الأمور برومانسية أيضاً. فليس كل سجين بطلاً. لا، إنهم مجرد أشخاص عاديين. وطبعا كان بعضنا منزعج من بعض، ففي نهاية الأمر كنا جميعا محبوسين معا. ولو لم يكن بعضنا منزعج من بعض لكنا لم نَعُد بشراً.
يتناول كتابك القليل من أهوال السجون المصرية والتعذيب المنتشر على نطاق واسع وظروف الاحتجاز اللاإنسانية. إنك تصف الحياة اليومية بروح الكوميديا السوداء. وبين الحين والآخر فقط، يتخلل السرد مَشاهد تذكرنا بخطورة الوضع: عندما كان الرجال في الزنزانة المجاورة يطرقون الباب لساعات وهم يصرخون قائلين إن شخصًا ما يموت؛ عندما يتم إخراج جثة من السجن؛ وعندما كنتَ تحكي عن العنف التعسفي والإذلال على أيدي الحراس. كيف يتماشى هذان المستويان معًا: المضحك السخيف والمفزع؟
ناجي: كان نهجي هو السخرية من الأمر. وكما قلتُ لاحظتُ بعد إطلاق سراحي عدم وجود أدب سجون معاصر. لكن ما كان موجوداً كان عبارة عن كميات كبيرة من نصوص صادرة عن منظمات لحقوق الإنسان، وأحياناً عن صحف توثق ما يحدث في السجون.
وهم يقدمون تقارير مفصلة عن انتهاكات حقوق الإنسان من أجل اتخاذ الإجراءات القانونية ضدها. وفي المقابل كنتُ أنا أكتب لنفسي ولقرائي. ولو كنت أريد رفع دعوى تعذيب لكنت اتصلت بالمحامي الخاص بي، لكن كان لدي نوايا أخرى. وكان من المهم جدا بالنسبة لي ألا أضع نفسي في دور الضحية، خاصةً عند الكتابة.
الأحلام كنافذة على العالم الخارجي
تقولُ في الكتاب: "كنتُ أحرص دائمًا على ألا أشعر بالأسف على نفسي أو أندب مصيري"، أتخيلُ أن هذا أمر صعب، فكيف تمكنتَ من ذلك؟
ناجي: ببساطة أنا لا أشعر بالراحة في دور الضحية وكذلك في دور البطل. وحتى لو كنتُ ضحيةً فإن الكتابة هي وسيلة بالنسبة لي لتحرير نفسي من هذا الموقف.
احتفظتَ بمفكرة أحلامك اليومية في السجن، وتلعبُ الأحلام دورًا مهمًا في كتابك. لماذا؟
ناجي: كانت أمي تعلق دائمًا أهمية كبيرة على الأحلام. لقد تربيتُ على ذلك. في الصباح على الإفطار كنا نحكي عن أحلامنا. كانت أمي تفسرها وأحياناً تتخذ قرارات بناءً على هذه الأحلام. فتأثرت بذلك وقرأت بنفسي الكثير عن الأحلام واللاوعي. ثم اكتشفتُ في السجن معنى آخر للأحلام: فهي تصبح النافذة الوحيدة إلى العالم الخارجي للهروب من العالم الذي يكون المرء محبوسا فيه.
كل ليلة ينتظر كل منا أحلامه. فالإنسان يفتقد عائلته وأصدقاءه ويأمل أن يقابلهم في أحلامه. كان هناك الكثير من الحديث عن الأحلام في زنزانتي. يحكي القرآن الكريم عن قصة عن النبي يوسف، الذي سُجِن ظلماً في مصر. ويفسر أحلام زملائه السجناء ويتنبأ بمستقبلهم. وتتحقق نبوءاته في الواقع. كثير من الأشخاص الذين التقيت بهم في السجن يعرفون هذه القصة، وهم مهووسون بفكرة أن أحلامهم تتنبأ بالمستقبل.
كيف ترى وضع الصحافة وحرية التعبير في مصر حالياً مقارنةً بعام 2016، عندما كنتَ مسجونا؟
ناجي: الوضع يزداد سوءاً في جميع أنحاء العالم. في الكثير من الدول نشهد حالياً صعوداً للفاشية. إن المثل العليا التي كانت أمراً مسلماً به -مثل حقوق الإنسان والديمقراطية- أصبحت الآن أموراً مشكوكاً فيها مجدداً. وهذا أيضاً يضفي الشرعية على الأنظمة السلطوية. إنهم يقمعون حرية التعبير، ولكن مادام أنهم يُبقُون المهاجرين خارج الحدود الأوروبية فإنهم يحظون بالدعم.
عندما كنتَ طالباً كنتَ عضوًا في جماعة الإخوان المسلمين، ولكنك تركتهم عندما دعت مجموعتك الجامعية إلى حرق كتاب يُزعَم أنه يحتوي على مشاهد جنسية وإهانة للذات الإلهية. وبعد سنوات تعرَّض كتابك للهجوم لأسباب مماثلة - ليس من قبل جماعة الإخوان المسلمين، ولكن من قِبَل نظام يحارب الإخوان المسلمين. ماذا يخبرنا هذا عن الوضع السياسي في مصر؟
ناجي: هذا يُظهِر أن كِلا الجانبين لم يدافعا قَطُّ عن حرية التعبير. وهذا أيضا ليس سرا. تعتقد جماعة الإخوان المسلمين أن الرقابة هي السبيل لتشكيل مجتمع إسلامي وحماية قيم ثقافية معينة. ويفعل الجيش الشيء نفسه بالضبط ولكن مع التركيز فقط على الهوية الوطنية.
لكن الحق في حرية التعبير منصوص عليه في الدستور المصري. هذا الدستور هو نتاج عدة ثورات وعقود من النضال من أجل تقرير المصير السياسي. وبطبيعة الحال لم يلتزم أي نظام مصري بالدستور على الإطلاق. لكن غالبية المصريين أثبتوا أنهم يؤمنون به.
حاورته: حنة الهيتامي (هانا حيتامي)
ترجمة: موقع قنطرة 2023
أحمد ناجي، "حرز مكمكم: القراءة والكتابة داخل السجن"، ترجمته من العربية إلى الإنكليزية كاثرين هولز، دار نشر ماكسويني، سان فرانسيسكو 2023، 209 صفحات.