في "امتحان اللجوء" يندمج اللاجئ أو يُهان
تنتشر في دول اللجوء قصصٌ تتحدث عن النجاحات البارزة والكبيرة، التي يحققها بعض اللاجئين في اندماجهم في المجتمع المستضيف. ويشارك في نشر هذه القصص إعلام الدول المستضيفة، بالإضافة إلى الوسائل الإعلامية، التي يقوم اللاجئون بتأسيسها أو التي تخصص اهتمامًا خاصًّا لقضايا اللجوء.
وتتنوع قصص النجاح هذه، فهناك قصص عن النجاحات الكبيرة و/ أو الاستثنائية لبعض اللاجئين في حياتهم المهنية او الدراسية، أو في اجتياز بعض الامتحانات و/ أو الحصول على بعض الشهادات بتقديرٍ عالٍ، وربما كان بالترتيب الأول على أقرانهم.
وهناك قصصٌ عن سرعة تعلم بعض اللاجئين لللغة الألمانية أو لمهنةٍ ما، وعن تفوقهم على (معظم) أقرانهم، في هذا الخصوص. يضاف إلى ذلك وجود قصصٍ عن حصول بعض اللاجئين على دعمٍ و/ أو تكريمٍ ماليٍّ و/ أو معنويٍّ من جهاتٍ أجنبيةٍ، تقديرهًا لهم واعترافًا بمواهبهم و/ أو إنجازاتهم.
على الرغم من أن نشر هذه القصص يسعى، على الأرجح، إلى إبراز الجوانب الإيجابية الموجودة لدى اللاجئين وقدرتهم على النجاح والاندماج، لكن هذا النشر قد يحمل معه بعض الأعراض أو الجوانب السلبية، التي سأحاول فيما يلي الإشارة إلى عرضين أو جانبين أساسيين منها: أحدهما يتعلق بصورة "اللاجئ الناجح"، والآخر يتعلق بأسباب (عدم) نجاح اللاجئ في الاندماج بمجتمعه، و/ أو تحقيق نجاحات مهنية.
"هل يحتاج اللاجئون فعلًا إلى امتلاك قدرات خاصةٍ ومواهب استثنائيةٍ لينجحوا في "امتحان اللجوء"؟
يتمثل الجانب السلبي الأول في أنَّ قصص نجاحات اللاجئين تُقدَّم، في كثيرٍ من الاحيان، على أنها نتيجةٌ لفرادة أبطال هذه القصص وتمتعهم بمواهب و/ أو قدراتٍ و/ أو إمكانياتٍ استثنائيةٍ.
ويفضي ذلك إلى شعور اللاجئ "العادي" بالإحباط، والاعتقاد بضعف أو عدم إمكانية اندماجه ونجاحه في مجتمعه الجديد. لكن الناس "العاديين" هم الشريحة الأكبر في كل المجتمعات والجماعات العضوية. ولا يوجد ما يمنع انطباق هذه القاعدة العامة على اللاجئين عمومًا. وعلى هذا الأساس، يمكن لمعظم قصص نجاحات اللاجئين أن تنشر الإحباط بين اللاجئين أكثر من إمكانية قيامها بتشجيعهم وتحفيزهم وتوفير النماذج التي يمكنهم الاقتداء بها والسير على منوالها.
وانطلاقًا من ذلك، ينبغي التفكير جديًّا في أسئلةٍ من نوع: هل يحتاج اللاجئون فعلًا إلى امتلاك قدرات خاصةٍ ومواهب استثنائيةٍ لينجحوا في "امتحان اللجوء"؟
المسكوت عنه غالبًا، في مثل هذه السياقات، هو الدور الكبير للظروف والعوامل "الموضوعية"، التي لا تتعلق بإرادة اللاجئ وقدراته ومواهبه، بقدر تعلقها بشروطٍ ترتبط عمومًا بالمجتمع المستضيف وبالمحيط الجديد الذي وجد اللاجئ نفسه فيه.
فإضافةً إلى الظروف الاستثنائية، المتمثلة، على سبيل المثال، في حصول اللاجئ على منحةٍ ما أو مساعدة استثنائيةٍ ما، نجد اختلافاتٍ مهمةً، بين اللاجئين، في خصوص الظروف المحيطة بلجوئهم، من حيث فرص السكن، وتعلم اللغة، ونوع الإقامة ومدة الحصول عليها ....إلخ.
فثمة فرقٌ كبيرٌ بين أن تكون إقامة اللاجئ لمدة سنةٍ فقط، ومن نوع "الحماية الثانوية" – بحيث لا يحق له "لمَّ الشمل" والاجتماع مجدّدًا مع أهله وزوجه وأطفاله، من جهةٍ – وأن تكون إقامته لمدة ثلاث سنواتٍ وأن يسكن مع بقية أفراد عائلته، من جهةٍ أخرى.
وثمة فرقٌ بين أن تسمح الظروف للاجئ بالعثور على سكنٍ خاصٍّ مستقلٍّ، من جهةٍ، وأن يضطر إلى البقاء في "الكامب" حيث يصعب الاستقرار وبدء حياةٍ جديدةٍ تسمح بالاندماج المهني وغير المهني، من جهةٍ اخرى؛ وثمة فرقٌ بين أن تنتهي إجراءات اللجوء والحصول على الإقامة خلال شهرين، من جهةٍ، وأن تستمر لمدة سنة أو سنتين أو أكثر، من جهةٍ أخرى؛ وثمة فرقٌ بين أن يحصل على فرصة التسجيل في مؤسسة تعليمية لتعلم اللغة خلال مدةٍ قصيرةٍ أو طويلةٍ، ... إلخ.
"لا يمكن تحميل اللاجئ المسؤولية الكاملة أو شبه الكاملة عن نجاحه أو عدم نجاحه في الاندماج"
إن السكوت عن الدور الكبير لمثل هذه الظروف الموضوعية، في مسألة الاندماج، يحدث غالبًا نتيجةً لتواطؤٍ، ضمنيٍّ أو صريحٍ، بين طرفين اثنين. فمن ناحية بعض المتحدثين باسم المجتمع المستضيف أو ممثليه، يبدو مناسبًا أحيانًا تحميل اللاجئ المسؤولية الكاملة أو شبه الكاملة عن نجاحه أو عدم نجاحه في الاندماج.
فهذا التحميل يفترض غالبًا أنَّ الشروط الموضوعية الضرورية لنجاح اندماج اللاجئين متوفرةٌ دائمًا، بشكل كاملٍ أو كافٍ، وأن الاختلاف بين اللاجئين في خصوص هذا النجاح يتعلق بذواتهم فقط، أي بإرادتهم ووعيهم وقدراتهم ومواهبهم ...إلخ.
ومن ناحية "اللاجئين المميزين"، يبدو مغريًا جدًّا المغالاة في دور العوامل الذاتية في النجاح، والتقليل من أهمية العوامل الموضوعية التي لا تتعلق بإرادة اللاجئ وقدراته؛ ففي هذه المغالاة وذاك التقليل ما يسمح بالحديث عن فرادة هذا اللاجئ الناجح وتميزه الإيجابي الكبير. وتقودنا هذه الناحية المتعلقة ڊ"اللاجئين المتميزين" إلى الجانب السلبي الثاني من الأسلوب السائد في سرد قصص نجاح اندماج بعض اللاجئين في ألمانيا.
يتجسد هذا الجانب الثاني في سرد بعض اللاجئين لقصص نجاحهم، بطريقةٍ توازي أو تطابق بين هذا النجاح وفشل لاجئين آخرين. فإضافةً إلى ردِّ بعض اللاجئين الناجحين نجاحهم إلى جهودهم الشخصية، والتقليل من أهمية الظروف الخاصة في هذا النجاح؛ يتمُّ، في الوقت نفسه، تحميل اللاجئين الآخرين، بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ، المسؤولية الكاملة أو شبه الكاملة عن فشلهم و/ أو عدم تحقيقهم لنجاحات كبيرة أو مهمة.
وعلى هذا الأساس، يصبح نجاح لاجئٍ ما دليلًا على فشل بقية اللاجئين، الذين لم يحققوا نجاحًا مماثلًا. ولا يبدي اللاجئون الناجحون، في كثيرٍ من الأحيان، التفهم المطلوب لخصوصية وضع كثيرٍ من اللاجئين وفرادة ظروفهم واستثنائيتها، بل يستسهلون لومهم وتقريعهم وانتقادهم.
وتتخذ هذه الانتقادات أحيانًا شكل التعيير والاستهزاء المُهِينين. وقد يبدو مفارقًا القول إن إفراط كثيرٍ من اللاجئين الناجحين في توجيه الانتقادات إلى اللاجئين غير الناجحين (كثيرًا) ينتج غالبًا عن أحد أمرين متناقضين: إما عن شعورٍ بالتعاطف مع اللاجئين، وبالألم من عدم نجاح اندماج بعضهم، وبالرغبة في تحفيزهم وتشجيعهم ودفعهم إلى بذل جهودٍ أكبر لتحقيق النجاح المنشود، أو عن مشاعر سلبية ونظرة دونية نحو هؤلاء اللاجئين "الفاشلين".
انطلاقًا من ذلك ومن غيره، أرى ضرورة الانتباه إلى طريقة تقديم قصص نجاح اللاجئين وإلى مضامين هذه القصص. لأن النشر التقليدي أو الشائع لهذه القصص قد يفضي إلى عكس النتائج المتوخاة منه.
وقد يكون مفيدًا وضروريًّا الإشارة في النهاية إلى أن التخيير المتمثل في القول "انجح في امتحان اللجوء أو ستُهان" ليس أسوا ما يمكن للاجئ أن يواجهه؛ إذ يمكن أن يتبين للاجئ أنه سيُهان بغض النظر عن نتيجته في هذا الامتحان. وهذا ما فهمه كثيرٌ من اللاجئين وغير اللاجئين، على سبيل المثال، من حملة الإعلانات التي قامت بها وزارة الداخلية الألمانية، لتشجيع برنامج العودة الطوعية للاجئين.
فهذه الإعلانات كانت موجَّهة "شكليًّا" إلى كل اللاجئين بدون أي استثناءٍ، وبغض النظر عن كونهم "مندمجين" أو "غير مندمجين". وتقوم هذه الحملة على القول إن مستقبلك هو في وطنك؛ ولا يحيل الوطن هنا على ألمانيا مطلقًا، بل يحيل على البلد الذي هرب منه اللاجئ.
تناقضٌ صارخٌ مع "ثقافة الترحيب" الألمانية
ويتجاهل الإعلان أنه لو كان المكان الذي هرب منه اللاجئ هو وطنه أو بلده فعلًا لما هرب أو نزح منه هذا اللاجئ أصلًا. وفي الواقع، الإعلان ليس موجهًا إلى اللاجئين إلا شكليًّا؛ فهو، عمليًّا، موجَّهٌ إلى "الألمان"، ليخبرهم بان الحكومة تعمل ما في وسعها، على "التخلص من اللاجئين" أو تقليل أعدادهم، في أسرع وقتٍ ممكنٍ، من خلال إعادة أكبر عددٍ منهم إلى "بلدانهم" و"أوطانهم". فمستقبلهم، العاجل أو الآجل، لن يكون هنا، في ألمانيا، بل هناك، في بلدانهم.
ما يمكن أن يفهمه اللاجئ، من مثل هذا الإعلان، هو أن مستقبله ليس، أو لا ينبغي أن يكون، في ألمانيا، بغض النظر عن نجاحه أو فشله في الاندماج. وعلى هذا الأساس، تتحقق المساواة السلبية بين كل اللاجئين "المندمجين" و"غير المندمجين"، وينتقل الحديث عنهم، في المجال العام، من القول "إن اللاجئين بحاجة إلى مساعدة فلنساعدهم، قدر استطاعتنا"، إلى القول "إن اللاجئين موجودون لدينا للأسف، وينبغي أن نساعدهم على العودة إلى بلادهم، في أسرع وقتٍ ممكنٍ" ...!
وعلى هذا الأساس، يتم الانتقال، جزئيًّا ونسبيًّا، من مقولة "في امتحان اللجوء يندمج اللاجئ أو يُهان"، إلى مقولة "في امتحان اللجوء، يُهان اللاجئ أو يُهان".
وفي الانتقال الأول، تناقضٌ صارخٌ مع "ثقافة الترحيب" الألمانية التي تعد (من) أبرز وأسمى ما قدمته ألمانيا للعالم، منذ مدةٍ طويلةٍ. وقد برز، في السنوات الاخيرة، الأمل في أن تصبح هذه الثقافة هي "الثقافة الرائدة"، ليس في ألمانيا فحسب، بل وفي العالم كله أيضًا.
لكن الانتقالين المذكورين يشيران إلى تضعضع إمكانية تحقق هذا الأمل، وإلى تزايد إمكانية أن تصبح هذه الثقافة هامشيةً وغريبةً، حتى في وطنها الأم، ألمانيا.
حسام الدين درويش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019
الباحث والكاتب السوري حسام الدين درويش هو محاضر في قسم الدراسات الشرقية بكلية الفلسفة في جامعة كولونيا الألمانية وهو باحث مشارك في مشروع دراسة في القوة التفسيرية بجامعة ديسبورغ في ايسن بألمانيا. درويش مهتم بفلسفة الاعتراف وبإشكاليات الفكر العربي والاسلامي المعاصر.