على خطى التتار المسلمين: رحلة الى عاصمة مملكة تتار القرم المنسية
عند أحد أطراف أوروبا القريبة من الشرق يعيش شعب منسي. في الساحل الشمالي للبحر الأسود يسكن شعب مسلم كان يوما ما، يشكل غالبية على أرضه، التي سكنها منذ العصور الوسطى، ليصبح أقلية بفعل القتل والترحيل بعد سقوط عاصمة مملكته، بخش سراي: "حديقة القصر"، عاصمة تتار القرم.
حملت حقيبتي على ظهري وأخرى أصغر منها على صدري وبدأت رحلتي أبحث عن عاصمة التتار المنسية في شبه جزيرة القرم. وقررت الانطلاق اولا من العاصمة الاوكرانية كييف.
ركبت القطار المغادر من كييف إلى مدينة أوديسا الساحلية في الجنوب. كانت الغرفة التي استاجرتها لقضاء الرحلة بسريرين. لكني شغلت الغرفة وحدي طيلة الطريق الذي استغرق 13 ساعة تقريبا، في غرفة مريحة على طراز القرن التاسع عشر. بجانب غرفتي كان هناك شابان روسيان، جاءا في رحلة لأوكرانيا. الشابان اللطيفان من موسكو، جنديان في سلاح الجو الروسي، لم يناما طيلة الطريق، بل انطلقا في شرب الفودكا منذ مغادرتنا مدينة كييف وحتى وصولنا أوديسا عند الفجر. حدثاني عن عملهما بحذر، بدا لي أنهما غير راضيان عن سياسة الكرملين. قال لي أحدهما:" نحن جنود هذه مهنتنا، رواتبنا جيدة ونحاول الاستمتاع بحياتنا ولاتهمنا السياسة". حاول الشابان استمالة شابتين من العربة المجاورة، لكن من دون نجاح، لأنه صحوتهما كانت على ما يبدو متأخرة.
"قلوب من ذهب"
بعد وصولي مدينة اوديسا، اكتشفت أن توقيت مجيئي كان صحيحا جدا، وخاطئا أيضا في نفس الوقت، فقد كانت كل فنادق المدينة مشغولة، إذ أن يوم وصولي للمدينة وهو الرابع والعشرين من آب/ أغسطس، والذي يصادف عيد استقلال اوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي. المدينة تكتظ بالأوكران القادمين من المدن الأخرى، لكن بالروس أكثر. "فلا أجمل من أوديسا للأحتفال والرقص"، مثلما قالت لي احدى الشابتين، في القطار، "اوديسا مدينة البحث عن متعة الحب".
أثار تواجد الروس الكثيف في اوديسا في هذا اليوم استغرابي الشديد . فلماذا يحتفلون مع الأوكران في عيد استقلالهم عن موسكو، التي حكمت هذه الأراضي لمائتي عام؟. أجابني عن سؤالي صحفي روسي التقيته بالصدفة، حينما كنت أسأل صاحب متجر عن مكان للمبيت. قال لي الصحفي، الذي يعمل باحدى صحف موسكو المؤيدة للكرملين:" الناس هنا طيبون، نحن شعب واحد وأوديسا مدينة روسية، بنتها الأمبراطورة كاترينا نهاية القرن الثامن عشر. الناس هنا طيبون". أعاد ذلك لمرات. ثم قال:" نقول نحن الروس، إن قلوب الناس هنا في اوكرانيا من ذهب".
لم تفلح رحلة البحث عن سكن ملائم، وقد أصابني التعب والجوع. مررت بمحل لبيع الشاورما، نظرت بوجه الشاب الواقف داخلة فتوقفت، فقد شعرت أنه عربي. سلمت عليه، فأعاد التحية، وصنع لي ساندويتشا فاخرا. أكتشفت أنه من مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سوريا. ترك سوريا منذ ثلاث أعوام بعد حصوله على قبول دراسي في احدى الجامعات باوديسا. لكنه لم يفلح بسبب ظروفه المادية. ورغم ذلك فالامر لايهمه، فهو لا يكف عن الضحك والمرح ومغازلة الفتيات المارات امام محله.
دعاني لاستضافته في مسكنه، لكني شكرته. قضيت ليلتين في فندق طوكيو المتواضع قرب محطة القطار. لم أطق البقاء هناك فقررت إكمال رحلتي والسفر نحو شبه جزيرة القرم، إلى سيفاستوبول.
"الجدة"
اقلني قطار الليل المتجه إلى هناك. كنت محظوظا هذه المرة أيضا، فقد شغلت الغرفة ذات السريرين لوحدي. لكني اكتشفت أن السبب لا يعود إلى حظي الطيب في الحصول دائما على غرفة أشغلها وحدي بالقطار، بل لأن كثيرين لا يستطيعون دفع أجرة الدرجة الأولى، رغم ثمنها الرخيص نسبيا، فهي لا تكلف سوى 40 يورو، وهذا مبلغ كبير بالنسبة للاوكران.
كنت أعاني من قلة النوم بسبب فندق طوكيو، فنمت حتى الصباح، ولم أستيقظ إلا عند وصول القطار إلى عاصمة القرم سيمفيروبول. أخذت قطارا قديما آخر وبعد قضاء ساعتين بعربة ملئ بالشباب والشابات بسن المراهقة، وأمهاتهم، وصلنا إلى سيفاستوبول. مر القطار حول الميناء. قالت لي احدى السيدات، فيما أنا احمل كاميرتي وأصور الخلجان التي تقف فيها السفن الروسية، هذه روسيا. فاجأتني ودخل الشك للحظة في نفسي، إن كنت حقا قد أخذت القطار الخطأ ودخلت إلى روسيا!!
لم أكن مخطأ، فهذه اوكرانيا، لكن روسيا تستأجر القاعدة البحرية الوحيدة لها في المياه الدافئة من أوكرانيا في القرم. القرم الذي احتلته جيوش الأمبراطورية الروسية عام 1774، ومنحه زعيم الأتحاد السوفيتي خروتشوف عام 1954 إلى أوكرانيا. ولأن روسيا لاتمتلك ميناء آخر لها في البحر الأسود يضم أسطولها البحري هناك، فقد أستأجرت القاعدة السوفيتية سابقا لمدة طويلة.
لكنني شعرت أنني حقا في روسيا. فرغم وجود العلم الأوكراني. لكن جميع من التقيت يتحدث الروسية. حتى الأجواء وفخامة الأبنية القديمة المبنية على الطراز القيصري الروسي، وخاصة ودار الأوبرا المطلة على الخليج. كل شييء، عدا المقهى الذي تناولت فيه طعام الغداء، كان اوكرانيا، تديره سيدات فقط، صاحبة المقهى سيدة مسنة وطباخته أيضا، لكن المقهى يحمل أسما روسيا أوكرانيا مشتركا. "بابوشكا"، أي الجدة.
"محظوظة"
بدأت أقترب شيئا فشيئا من هدفي، مدينة بخش سراي. ما علي إذن سوى الرحيل إلى مدينة يالطا ثم التوجه بعدها إلى عاصمة تتار القرم. أخذت الباص المتجه نحو يالطا. وبعد أن اخترق الباص الجبال صعودا، ظهر البحر الأسود من جديد. ولعل تسميته بالأسود عن غير حق، فقد كان رائعا تختلط فيه زرقة السماء بأفق أبيض. لم يكن هناك شيئ أسود إلا بعض السفن البعيدة. كان الباص يقطع الطريق الواقع بين الجبال الخضراء والساحل، بعض الركاب نزلوا عند القرى المخفية بين الغابات. منهم شابة جميلة كانت تتحدث الأنكليزية معي، بينما كان على الطرف الآخر رجل مسن يراقب ثيابها الفضفاضة من خلف نظارته السوداء.
بعد أن وصلت إلى يالطا ووجدت غرفة في دار بقلب المدينة، انطلقت مع جموع الناس المتحركة، على غير علم. وليس بعيدا عن سكني وصلت إلى سوق الخضار القديم. الباعة من كل الجنسيات، تختلط ألوانهم وأشكالهم، يتحدثون بلغات مختلفة ويتفاهمون بالروسية فيما بينهم. الأوكران والتتار يبيعون التين والرمان والعسل الطبيعي، فيما يصيح الأذربيجانيون بصوت عال محاولين جذب مشترين لبضاعتهم الرئيسية، عصير الرمان الطبيعي.
في نهاية السوق، يقع مطعم تتاري. جلست عند طاولة أراقب شابا يعمل في المطعم يقوم بشواء اللحوم وطبخ الرز التتاري. اسمه رمضان وهو في العشرين من العمر. اتجهت إليه محاولا التقاط صورة، ابتسم وعندما علم إنني عربي، كبرت حجم ابتسامته ودعاني لدخول المطعم. وما هي إلا لحظات حتى التف حولي فتيات المطعم التتاريات، بعد أن أثرت فضولهن. "عربي يحمل كاميرته ويجلس في مطعمنا، أمر لم يحدث من قبل"، قالت لي حميدة، شابة قصيرة لا تكف عن الابتسام.
سألتني حميدة:" مسلمان؟" أجبتها بالإيجاب، ليبدأ بعدها سيل لا يتوقف من الأسئلة. ثم بدأت تتحدث عن أوضاعهم، قالت :" الوضع الاقتصادي سيئ، نعمل 12 ساعة يوميا وأحيانا أطول لنحصل في اليوم على مبلغ 70 ريفنه". الريفنه الأوكرانية تعادل حوالي عشر اليورو. أي أن سبعة يوروهات لليوم فقط. حميدة تعمل مع خطيبها في المطعم أيضا، ويحاولان جمع الأموال لتكوين أسرة.
حميدة محظوظة بالحصول على خطيب، في بلد فيه عدد النساء ضعف عدد الرجال. رفضت حميدة أخذ أجرة الشاي. سألتها عن الطريقة الأمثل للوصول إلى عاصمة مملكتهم المفقودة بخشه سراي. وفرحت كثيرا عندما عملت إنني أريد الذهاب إلى هناك.
مازال لينين هنا
أخذت الـ"مارشروتكا" وهو باص صغير لنقل الركاب واتجهت إلى بخشه سراي. كان الطريق مغامرة، وقد حذرني البعض من الركوب مع سائق تتاري. وصدقت التحذيرات، فسائق الـ"مارشروتكا" لا يستعمل المكابح إلا عند مروره أمام تقاطع طرق. حبست أنفاسي طيلة الطريق وزاد من هول السرعة حادث مروري وقع أمامنا، لكن سائقنا لم يتوقف، استمر بالإسراع أكثر، بينما تسببت الموسيقى التتارية في شعوري بصداع مؤلم حتى وصولي إلى بخشة سراي.
غيرت الباص وركبت باصا آخر من العهد السوفيتي. كنت متلهفا للوصول إلى المدينة القديمة، كانت عيناي على الطريق. لكني لم أرى أثرا للمدينة القديمة، فكل ماراه هو بناء سوفيتي كئيب، وشوارع غير مبلطة، تنقل الباص في شوارع عريضة ومتاهات مختلفة، فيما كنت انتظر أن تقع عيناي على قصر خان التتار. لكن لا اثر له، كل ما أثار انتباهي هو تمثال قديم للينين في منتصف ساحة خالية من الأشجار. عاد بي الباص إلى نقطة الانطلاق الأولى. فتحت دليلا سياحيا كان بحوزتي وأشرت إلى سيدة تتارية إلى صورة تشير إلى قصر الخان. ضحكت، فهمت عندها إنني أخذت الباص الخاطئ.
توقف الباص الصحيح هذه المرة أمام القصر القديم، وتوقفت أنا لبرهة أمامه. تحدثت معي شابة تعمل كدليل سياحي للسياح الألمان، بعد أن لاحظت أنني ابحث عن مكان للمبيت، أشارت إلى شاب تتاري، فأوصلني الأخير بعد أن قطعنا بضعة أمتار إلى فندق صغير جميل يقع مباشرة خلف قصر الخان. صاحب الفندق بولوني يعيش هنا منذ عشرين عاما. سألته عما الذي جاء ببولوني إلى هنا؟ قال:"كنت أتنقل منذ أيام الاتحاد السوفيتي بين دول الكتلة السوفيتية، لكني لم أرى أجمل من هذا المكان للعيش، الهواء هنا نقي، ولاشي أجمل من الصيف بين الجبال". سألته إن كان عمله يدر عليه ربحا وهل هو مرحب به من قبل الناس؟ فأجابني: "التتاريون طيبون هنا، يعملون بجد وظروفهم صعبة، لكن عليك التأكيد عليهم خلال العمل أحيانا. أعيش هنا منذ سنين ولم أواجه أي مشكلة".
وأد وثلاثة أديان
يقع قصر الخان بين الجبال الصخرية وتحيط به قناة مائية، تمتلئ في موسم الأمطار. في داخل القصر يقع مسجد الخان ومسكنه ومسكن حريمه ومقبرة ملوك التتار الذين حكموا القرم منذ نهايات القرون الوسطى.
دخلت إلى مسجد القصر. كان المكان فارغا، فقد انتهت صلاة العصر قبل ساعة. لكن شابا تتاريا كان في الزاوية يؤدي الصلاة لوحده. فيما ينقل خادم المسجد سجادة طويلة على الأرض إلى خارج المسجد. في باحة المسجد، معلق لفظ الجلالة فوق المنبر، وبجانبه اسم نبي الإسلام.
برزت على جدران الباحة أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة وحفيدا الرسول، الحسن والحسين. سلمت على خادم المسجد، فرد السلام. سألته عن تاريخ بناء القصر. فقال:" بني القصر في منتصف القرن السادس عشر، على يد معماريين من الدولة العثمانية والفارسية. حكم التتار القرم منذ بدايات القرن الثالث عشر، بعد تفكك مملكة القبيلة الذهبية للمغول والتتار، الذين حكموا روسيا وأجزاء كبيرة من أوروبا الشرقية".
اعتنق التتار الإسلام منتصف القرن الرابع عشر، وأسس حفيد جنكيز مملكتهم في القرم خان الحاج غيراي، ثم أصبحت المملكة تابعة للدولة العثمانية، حتى سقوطها على يد الجيش الروسي بقيادة إمبراطورة روسيا كاترينا الثانية في منتصف القرن الثامن عشر.
كان القصر مليئا بالسياح الروس والألمان. في حديقة القصر الخارجية وقفت مدرعة روسية قديمة بدا لي أنها تشير إلى السيطرة الروسية على القرم ومملكة التتار منذ أكثر من مائتي عام.
غادرت القصر واتجهت إلى الوادي المليء بالمغارات التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ. على الطريق داخل الوادي تقع أديرة لكهنة ارثذوكس حفرت في الجبال وبنيت جدران أمامها لتصبح بيوتا للمتعبدين في الوادي الوادع. كان الطريق صعبا للوصول إلى المغارات المحفورة في الصخور. عندما وصلت لم يفاجئني منظرها وهي محفورة بعناية منذ آلاف السنين، بقدر وقع المفاجئة أن أشاهد منازل قربها مكتوب عليها بالعبرية. فقد كان هذا الوادي ملجأ لليهود الهاربين من أوروبا في العصور الوسطى وبعدها، الذين عاشوا تحت حماية الدولة العثمانية.
في بخش سراي، واد هادئ يختصر التاريخ ويحتفظ بعبقه ويحتضن أتباع ثلاث ديانات توحيدية بسلام الهي ومحبة سماوية.
عباس الخشالي
تحرير: لؤي المدهون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2014