سراء تدحر الضراء وتعليم يدك الفقر والعنف
في عام 2012، قامَت جماعات أُصوليّة باختِطاف ثورة طوارق "كَلْ تَماشَقْ"، فأصبح العُنفُ دَيدَنَ الصراعات في دولة مالي، مع الِاستِهداف الخاص للموسيقيين من أهلها. في عام 2018، كان سِيسِّه مُتجهًا مع فرقته الموسيقيّة إلى المشاركة في حفلٍ من أجل السلام والمُصالحة، حين واجهُوا كمينًا نَصَبَتهُ مجموعةٌ من المسلحين الذين أوسَعُوا الموسيقيين ضَربًا، ثم قاموا بتحطيم آلاتِهم واختِطافِهم.
دَفَعَت هذه التجربة سِيسِّه إلى الشُّعور لفترةٍ من الزمن بأنّه لا هَدَف من وراء إنجاز أيّ عملٍ موسيقيّ. فأدار ظَهرَه لأيامِه السابِقة في أداء وتأليف الموسيقى، وانكَفَأَ في استوديو التسجيل لمساعدة مواهبَ جديدة وناشئة في موسيقى اﻟ "هِيپ-هُوپ" [فنّ أدائيّ أمريكيّ الأصل، يَمزُج النَّص المَحكِيّ مع الإيقاع] من أجل إنتاج أغانٍ خاصة بهم، إلّا أنّ ولادة طفلتِه دَفَعَته إلى لَملَمَةِ الخُيوط التي كانت قد نَسَجَت مسيرتَه الموسيقيّة من قبل، وشَرَعَ منذ ذلك الحين في العمل على ألبوم "أَنُورا".
يومئُ الألبوم الجديد إلى تغييرٍ في اتّجاه المُحتوَى الغنائيّ عند سِيسِّه. عوضًا عن التركيز على مجرَّد معالجة الوَضع السياسيّ في مالي، اختار سِيسِّه أن يبحثَ في مجرَيات حياتِه الآنِيّة. لا يعني هذا أنّه باتَ يؤلِّفُ أغانٍ ساذَجة عن حُبِّه لطِفلته الوَليدة، أو عن نَعيم الحياة العائليّة. لكنه أصبح يُشاهِد العالم الآن عبر عَدَسةِ رجلٍ مُبدِع يرغبُ في حياةٍ أفضَل لطِفله. لهذا، ليس مُفاجئًا أن نَسمَعَ سِيسِّه وهو يُغَنّي عن المُشكلات الاجتماعيَّة الملحَّة في الحاضِر.
من أجل المُستَقبَل - من أجل الأطفال
في أغنيات مثل "تالكا" (’الفَقر‘) وأخرى بعنوان "تِياوُو" (’التعليم‘)، يُؤكِّد سِيسِّه أهميةَ إعطاء أطفال مالي كُلّ فُرَص النجاح التي هم بأمَسِّ الحاجة إليها. فالتعليم يُشَكِّلُ مَخرجًا من الفقر، وبهذا، فإنّ سِيسِّه يأمُلُ بأن هذا سيُقلِّل من مُعدَّلات العُنف حيث يسكُن في شمال مالي.
في بلدٍ يُجَنِّدُ فيها المُتمَرِّدون مجموعاتٍ كبيرة من الشباب المُمتَعِض – وهم رجالٌ دون مالٍ أو أمَل – يُصبِحُ التعليمُ أداةً فعّالةً لإخراجِهم من بيئةِ الفَقر إلى أُخرَى أكثر أمانًا. وفي تركيز سِيسِّه على هذه المَقُولة، نكتَشِفُ رؤيةً وبَصِيرةً قلّما نَجِدهُما عند أغلب الموسيقيين؛ لا عَجَب هنا، لأنّ مالي ليست بالمكان التقليديّ لإصدار الموسيقى.
من ناحيةٍ موسيقيّةٍ صِرفَة، قَد يُصَنَّفُ أسلوبُ سِيسِّه وفقًا للتعريف النموذجي لموسيقي "بلُوز الصحراء" [’بلُوز‘: نمطٌ موسيقيّ أمريكيّ ملؤه الشَّجَن ذو أصول إِفريقيّة]. غير أنّ المشكلة في هذا التصنيف هي أنّه عادةً ما يُستَعمَلُ للدلالةِ على أنماط موسيقيّة مُختلِفة اختلافًا شديدًا فيما بينها.
هناك أوّلًا الأُسلوب الموسيقيّ الخاص بمجموعة طوارق الـ "كَلْ تَماشَقْ"؛ وأشهَرُ مثالٍ على ذلك هو فَريق "تِينارِيوِين"، الذي يَعزفُ أعضاؤه إيقاعاتٍ تُحَرِّكُ النَشوَةَ في مُستَمِعيها، تتخَلَّلُها مقاطِع انفِراديَّة قويّة النَّبرَة معزوفة على الجيتار الكهربائيّ. أمّا موسيقى سِيسِّه، فهي تَتبَعُ خطى الفنّان المالي الكبير "علي فاركا تُوري".
في حين أنّ موسيقى سِيسِّه مازالت مُنغَرِسةً في أعماق تُراث المنطقة، إلّا أنّ لغتَهُ الخاصّة تستخدِمُ إيقاعاتٍ أكثر تعقيدًا والتِزامًا. كما أنه يُدخِلُ آلاتٍ مثل الـ "نْجُونِي" [آلةٌ وَتَريّة إفريقيّة ذات ستَّة أوتار] والـ "سُوكُو" [آلةٌ شعبيّة من عائلة الكمان، ذات وَتَر واحد، من غرب إِفريقيا]. ورغم أنّنا نسمَع آلة الـ "سُوكُو" في أغنيتين من أغاني الألبوم لا أكثَر، وهما "بالكِيسَّا" و "تالكا" (’الفَقر‘)، إلّا أنّ أهميّة تقديم هذه الآلة في الألبوم تمتدُّ إلى أبعَد مِمّا هو موسيقِيّ، لأنّ هاتين الأغنيتين تُمَثِّلان التسجيلين الأخيرين لأُستاذ آلة الـ "سُوكُو"، وصديق سِيسِّه الصَّدُوق، العازف "زُومانا تِيرِيتا".
نسيجٌ موسيقِيٌّ رَفيع
عند سماع الألبوم للمرَّة الأولى، يبدو صوتُ آلة الـ "سُوكُو" مشابهًا بدرجةٍ كبيرة لصوت البيانو الكهربائيّ، ولا يَعُودُ هذا لنَبرَة الآلة بالتحديد، بل إلى الطريقة التي تَندمِجُ فيها مع الموسيقى ككل. شيئًا فشيئًا، يُصبِحُ المُستَمِعُ مُدركًا لواقِع هذا الصوت المُنبَعِث من آلةٍ وتَريَّة، ومُنبَهِرًا بسلاسَة النَّغمة الصادرة منها وبالعُمق الإبداعيّ الذي تُضيفُه إلى هذا الألبوم.
حين نسمَعُ آلة الـ "سُوكُو" وهي تَنسُجُ صوتَها ما بين الجيتار وعُدَّة الطُّبُول والكونترباس، نشعُر وكأنّنا نسمَع أصداءَ الماضي والحاضِر وهما في حالةِ انسجام. وكأنّ رَنين الـ "سُوكُو" هو صدًى للماضي الذي يَغرِسُ الحاضر في التاريخ وفي التُّراث.
مثل الكثير من الموسيقى البَديعَة التي تأتينا من مالي، يأخُذ سِيسِّه على عاتقه مسؤوليةً كبيرة، وذلك في احترامه للتقاليد من جهة وفي نظرته إلى المستقبَل من جهةٍ أخرى، فيما لا يتقيَّدُ بطرَفٍ دون الآخَر. ألبوم "أَنُورا" في واقِع الحال هو مُدمَجٌ جميلٌ للماضي والحاضر معًا. حاله حال أغلب مُعاصريه من الفنّانين، يَحبُكُ سِيسِّه هذه التّوليفة عبر توظيفِ المُحتوَيَين الموسيقِيّ والغِنائيّ على حد سواء.
بالإضافة إلى الآلتين المذكورتين أعلاه، يَحوي المزيج الموسيقيّ لسِيسِّه آلاتٍ إيقاعيّة تقليديّة مثل آلة الـ "كالاباش" [المصنوعة من ثَمَرَة القَرع]. بطريقةٍ أو بأخرى، تتحاوَرُ هذه الآلات بأسلوبٍ تكافُلِيّ من شأنه أن يجمَعَهُم في فرقةٍ موسيقيّةٍ مُعاصِرة مكوَّنة من الجيتار والكونترباس وعُدَّة الطُّبول، بالإضافة إلى البيانو الكهربائي، وذلك للوصول إلى صوتٍ مُتناغِمٍ أخَّاذ.
بالنسبة لكلمات الأُغنيات في الألبوم، اختارَ سِيسِّه أن يُغَنِّيها بلُغة "سُونغاي" المُتوارَثَة. رغم ذلك، تَعكِسُ هذه الكلمات مشاعرَ سِيسِّه تجاه تُراثِه وحاضِره في مالي. هو ليس بالشيء الجديد أن يكونَ الموسيقييون في تلك المنطقة حُرَّاسًا لحكايات الشعب: في أغنياتٍ مثل "سِيسِّه" و "تِيارا" و "فُوسَّا فُوسَّا"، يقومُ سِيسِّه برواية هذا التاريخ لنا.
السَّراء تتفوقُ على الضَّراء
الأغنية الأولى منهنّ، بعنوان "سِيسِّه"، تتناوَلُ بطبيعة الحال تاريخَ عائلته الذي يعودُ إلى الأولياء المُتَفَقِّهين في الإسلام – المعروفين بِاسم "مارابُو" [المُرابِطُون] – من شمال مالي. أما "تِيارا" و "فُوسَّا فُوسَّا"، فهما تأخُذان هيئةَ حِوارٍ مُغَنَّى لسِيسِّه مع اِبنته، يُحدِّثُها فيه عن الاِحتفالات التقليديّة للصغار كما يتذكَّرُها من طفولته. أمّا في الوقت الحاضِر – المتمثِّل في جائِحة كوڤيد والعُنفِ المُتَفَشِّي في المنطقة – فقد وَضَعَت هذه الظروف حَدًّا لأيّ احتِفالٍ من هذا القَبيل.
فيما نحن غير قادِرين على فَهم اللغة التي يستخدِمُها سِيسِّه في الألبوم، مازلنا قادرين على فَهم الرسالة من وراء الكلمات، فهذه هي موهبته الموسيقيّة التي تجعَلُنا نشعُرُ بالعواطف التي يُعَبِّرُ عنها. ورغم أنّنا نَلمس السعادة التي تعتريه بمناسبة ولادة اِبنته، كأيّ أب، إلّا أنّنا نَلمس كذلك حُزنًا مَخفِيًّا على الحالة المُزريَة التي آلَت إليها مالي.
لو فكَّرنا في أنّ سِيسِّه قد شَرَعَ في العمل على هذا الألبوم عام 2017، وأنّه توقَّفَ عن العمل فيه عام 2018 بعد الكمين الذي نَصَبَتهُ الجماعة المُسلَّحة، فإن من شأننا عند ذلك أن نَعِي الإنجازَ الاِستِثنائيّ الذي يُمثِّلُه ألبوم "أَنُورا" في رسالته السامِيَة والإيجابيّة، روحًا وإحساسًا. كان العامُ الماضي 2020 صعبًا علينا، وعلى العالم أجمَع. لكن عند سماعنا هذا الرجُل الذي عانَى طويلًا، والذي يأتي من بلدٍ بعيدٍ كلّ البُعد عن أوطاننا، نَجِدُه يُبَلِّغنا رسالةً ملؤها الأمل، ممّا يَغمُرُنا بالدَّهشة والفَرحة في آن. وإن كنتَ، مثل أغلبنا، مُحتاجًا إلى الرَّفع من معنويّاتِك، فإنّ ألبوم "أَنُورا" قد يكونُ هو المُحَفِّز المُبهِج الذي تحتاج.
ريتشارد ماركُوس
ترجمة: ريم الكيلاني
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
[embed:render:embedded:node:26544]