كفاح اليمن من أجل الاحتفاظ بهويته الوطنية
نكهة خفيفة من الشوكولاتة وحموضة رقيقة بالإضافة إلى نفحة من التمر المجفَّف - بمثل هذه العبارات تصف يسرا إسحاق قهوتها المفضَّلة: قهوة الخولاني. وحبوب هذه القهوة من أفضل أنواع القهوة في العالم. ولكن مَنْ الذي لا يزال يعلم ذلك؟ فمَنْ يفكِّر في اليمن يفكِّر في الحرب والطائرات المسيَّرة والفقر والأطفال الهزيلين ذوي العيون الكبيرة الحزينة. مع أنَّ اليمن فيه أكثر من ذلك بكثير، مثلما تقول عبر الهاتف من العاصمة اليمنية صنعاء مخرجةُ الأفلام اليمينة يسرى إسحاق، البالغ عمرها أربعة وثلاثين عامًا. يوجد في اليمن مثلًا كرز القهوة الأحمر الحلو مثل حلاوة الموز الناضج جدًا.
ينقطع الاتصال كثيرًا أثناء حديثنا على الهاتف. هل أُشغِّل الكاميرا؟ تقول وهي تضحك إنَّ هذا سيكون جميلًا ولكن الاتصال بالإنترنت لديها لا يتحمَّل ذلك. وهذا كله بالنسبة للمخرجة يسرى إسحاق جزء من حياة الحرب اليومية، وقد اعتادت على ذلك. وما يقلقها هو شيء آخر، مثلما تقول وتتساءل: "ماذا سيبقى من اليمن بعد الحرب؟. معظم اليمنيين مشغولون حاليًا فقط في تأمين الطعام والماء. ولكنّ هناك شيئًا آخر يستحق اهتمامنا: يجب علينا الحفاظ على هويتنا الثقافية"، مثلما تقول الشابة يسرى إسحاق وتتحدَّث عن القهوة والملابس اليمنية التقليدية وأشجار دم التنين (دم الأخوين).
ثار في اليمن منذ استيلاء المسلحين الحوثيين على مسقط رأسها صنعاء في شهر أيلول/سبتمبر 2014 نزاعٌ عنيف على السلطة السياسية والوصول إلى الموارد الطبيعية. وفي عام 2015، وقفت المملكة العربية السعودية مع تحالف من دول عربية تحكمها حكومات سُنِّية إلى جانب الرئيس عبد ربه منصور هادي، وهي ما تزال تقاتل منذ ذلك الحين الميليشيات الشيعية المسلحة. ولكن المدنيين هم الذين يعانون بشكل خاص من الحرب: فحتى الآن قُتل أكثر من ثلاثمائة وسبعين ألف شخص واضطر الملايين إلى الهروب من هذه الحرب وعواقبها، التي تعتبر بحسب تصنيف الأمم المتَّحدة "أسوأ أزمة إنسانية في العالم".
تسعى يسرى إسحاق إلى إخراج أفلام تعرض جانبًا آخر من اليمن، يتجاوز هذه المعاناة. وتعمل مع شركة إنتاجها "أفلام قمرة" على إنتاج أفلام وثائقية حول اليمن وتُقدِّم ورشات عمل للناشئين. وتعمل حاليًا على إنجاز فيلم حول صالحة مطر، وهي مزارعة قهوة عمرها ستون عامًا من شمال غرب اليمن، أمضت حياتها في قطف حبوب البن وفرزها وتجفيفها، تمامًا مثلما يفعل اليوم أطفالها وأحفادها.
لقد سافرت المخرجة يسرى إسحاق -من أجل بحثها- إلى معقل الحوثيين مدينة صعدة. وتقول: "تحاول الأسرة باستخدام وسائل بسيطة إنتاج أفضل قهوة ممكنة". وقد سمح الحوثيون لهذه المخرجة الشابة بالعمل، لأنَّهم يرون في المبادرة السعودية الأخيرة تهديدًا اقتصاديًا لصناعة القهوة اليمنية.
فمنذ عدة سنوات، تحاول المملكة العربية السعودية إدراج حبوب البن الخولاني في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي. ولكن حتى الآن من دون نجاح. وفي نهاية شهر كانون الثاني/يناير (2022)، أعلنت وزارة التجارة السعودية عن اعتماد اسم القهوة السعودية بدل القهوة العربية في المطاعم والمقاهي ومحلات السوبر ماركت في جميع أنحاء البلاد. وقد جاء هذا الإعلان ضمن سياق مبادرة وزارة الثقافة السعودية لإعلان عام 2022 "عام القهوة السعودية". السعوديون يحتفلون بحبوب القهوة باعتبارها ثروة وطنية ووسيلة للحفاظ على تراث السعودية وهويتها الثقافية. وكذلك يتم الترويج للقهوة السعودية في معرض إكسبو دبي.
وحول ذلك تقول يسرى إسحاق: "إنْ كان هناك أصلًا تراث فهو تراثنا المشترك. والآن من المفترض تسمية القهوة على اسم عائلة مالكة، على اسم آل سعود. وهذا غير ممكن". وقهوة الخولاني مصدرها في الواقع من المنطقة الحدودية بين السعودية واليمن، وقبيلة خولان بن عامر القديمة عاشت لقرون من الزمن بين مدينة جيزان السعودية وشمال غرب اليمن. حيث تشترك السعودية واليمن في حدود طولها ألف وثلاثمائة كيلومتر.
"لا لسرقة تراث اليمن"
والكثير من اليمنيين يعتبرون هذا الإعلان انتهاكًا آخر للحدود: فبعد مدنهم، بات يتم الآن اختطاف قهوتهم أيضًا. وفي هذا الصدد فقد نشر بعض مستخدمي الإنترنت صورًا من دراسات استنتجت أنَّ أصول ثقافة القهوة العربية موجودة في اليمن. وأشاروا إلى مكان ولادة القهوة: فمن ميناء المخا اليمني -الذي جاءت منه في الغرب تسمية القهوة بالمُخا- كان يتم شحن حبوب القهوة إلى جميع أنحاء العالم.
لقد وصلت القهوة في الأصل قبل نحو خمسمائة عام من إثيوبيا إلى اليمن. وتقول الأسطورة إنَّ الصوفيين اليمنيين بشكل خاص كانوا يشربونها أثناء تمارينهم التأملية من أجل الوصول إلى النشوة الروحية. وتوجد تحت الهاشتاغ "لا لسرقة تراث اليمن" أمثلة أخرى أيضًا.
وذلك لأنَّ هذا الصراع الثقافي مشتعل منذ فترة طويلة أيضًا. فعندما دعت النسخة العربية من ناشيونال جيوغرافيك متابعيها إلى إرسال لقطات خاصة في عام 2020، اعترض الكثير من اليمنيين على أنَّ هذه الصور تمثِّل تراثهم الثقافي ولا تمثِّل التراث السعودي. ومن هذه الصور مثلًا صورة لفتاة من مدينة أبها السعودية ترتدي القفطان والحلى الفضية البوساني التقليدية الخاصة باليهود اليمنيين، وهي تحمل في يديها نبات الريحان (نبات المَشْقُر)، الذي يستخدمه سكَّان مدينة تعز اليمنية لتزيين أنفسهم. أو صورة شاب يحمل في يديه حبَّات كرز القهوة الحمراء، وقد كتب أحد المستخدمين فوقها: "وجه الشاب يصرخ اليمن والقهوة تصرخ اليمن".
#لا #لسرقه #تراث #اليمن pic.twitter.com/wiYyyABaYn
— Misha (@Misha98315639) May 18, 2020
وكذلك لقد أثارت الأنواع الفريدة من الأشجار والطيور أطماع أطراف في الحرب. ففي جزيرة سقطرى اليمنية، التي تعتبر جنة طبيعية في المحيط الهندي، يشاهد العلَم الإماراتي أيضًا وهو يرفرف فوق العديد من المباني. وهذه الجزيرة، التي توصف بأنَّها "غالاباغوس المحيط الهندي"، تعتبر منذ عام 2008 من مواقع التراث العالمي في منظمة اليونسكو. وفيها نوع من الشجر اسمه دم التنين (دم الأخوين) تمتد أغصانه مثل المظلة ويبلغ عمره أحيانًا أكثر من ألف عام. تشتهر جزيرة سقطرى بهذا الشجر والطبيعة المختلفة جدًا، التي تجعل زائرها يشعر وكأنه ترك العالم لبرهة قصيرة.
يستطيع المسافرون القادمون من الإمارات العربية المتَّحدة السفر بالرحلات الجوية المباشرة من دبي إلى سقطرى. ونتيجة لذلك فقد اتَّهمت وزارة السياحة اليمنية الإمارات في العام الماضي 2021 بإصدارها تأشيرات سفر غير شرعية للسيَّاح الأجانب من دون الحصول على موافقة يمنية. صحيح أنَّ دولة الإمارات كانت قد قدَّمت مساعدات إنسانية في جزيرة سقطرى بعد الأعاصير الشديدة عام 2015 كما أنَّها تساعد في توفير الكهرباء وتمنح المنح الدراسية للموهوبين من سكَّان الجزيرة الشباب، ولكنّ الإماراتيين يرون في سقطرى قبل كلِّ شيء ميزتها الاستراتيجية: فهذه الجزيرة تطل على مضيق باب المندب، الذي يمثِّل طريقًا ملاحية رئيسية. وفي القرون الماضية، احتل هذه الجزيرة البرتغاليون والبريطانيون وحتى السوفييت.
ربَّما تضاف جزيرة سقطرى إلى قائمة التراث العالمي المعرَّض للخطر
يخشى اليمنيون من أنَّ مشاريع البناء الإماراتية الطموحة في شكل شقق سكنية وفنادق فخمة يمكن أن تؤدِّي إلى انقراض الكثير من أنواع الطيور والأشجار. ومنظمة اليونسكو قلقة أيضًا وتخطط لإرسال وفد إلى جزيرة سُقطرى للتحقُّق من حالة الحفاظ على التراث العالمي فيها، مثلما يقول المتحدِّث الصحفي باسم لجنة اليونسكو الألمانية السيِّد تيم نيكولاس شولتسه. ويضيف أنَّ أحد الخيارات هو إضافة الجزيرة إلى قائمة التراث العالمي المعرَّض للخطر: "إذ يمكن بذلك لفت الانتباه إلى الأحوال السيِّئة هناك من أجل الحفاظ على بيئتها الطبيعية على المدى الطويل".
لم تكن يسرى إسحاق في جزيرة سقطرى قطّ، ولكن ربَّما تزورها بعد الحرب، مثلما تأمل. وتخطط حاليًا للقيام بتغطية إعلامية للمزاد الوطني الأوَّل للبن اليمني في صنعاء في شهر حزيران/يونيو 2022. وقد جاءت هذه الفكرة من مختار الخنسلي، وهو أمريكي من أصول يمنية اشتهر عالميًا عندما دوَّن الكاتب الأمريكي ديف إيغرز قصة حياته في كتابه "راهب المخا" في عام 2018. وفي ذلك الوقت، كان مختار الخنسلي في الرابعة والعشرين من عمره وقد سافر من سان فرانسيسكو إلى وطنه اليمن من أجل التعرُّف على تقاليد القهوة اليمنية الطاعنة في القدم وتسويقها في الولايات المتَّحدة الأمريكية.
وهؤلاء الشباب يريدون الآن منح بلدهم القليل من الأمل وأن يُبيِّنوا للعالم البعيد أنَّ اليمنيين بإمكانهم أن يُنتجوا أشياء جميلة أيضًا. يقول مختار الخنسلي: "أنا أؤمن بقوة القهوة ونحن نريد تعريف البائعين المحليين بالعالم الخارجي". وحتى صالحة مطر تريد هي الأخرى السفر وفي حقيبتها حبوب البن.
دنيا رمضان
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: زوددويتشه تسايتونغ / موقع قنطرة 2022