"شعب بأكمله مصدوم تحت الإقامة الجبرية"
السيِّدة مسرات زهرة، أنت تصوِّرين في المقام الأوَّل النساء والأطفال في وطنك. لماذا؟
مسرات زهرة: أنا أريد أن أمنح صوتًا ووجهًا للذين لا يتم سماعهم. كلُّ امرأة في كشمير تعرف هذا الشعور عندما تودِّع في الصباح والدها أو ابنها أو زوجها وهي لا تعرف إن كانت ستراهم مرة أخرى. النساء في كشمير يتحمَّلن العبء الأكبر من المعاناة. يفقدن أبناءهن ويتعرَّضن للاغتصاب من دون خشية الجناة من أية عواقب، وعندما يتم اختطاف أزواجهن ولا يظهرون من جديد يصبحن محكومات بالانتظار - لبقية حياتهن.
والنساء لا يملكن أي شيء ولا يستطعن وراثة أي شيء، ولا يُسمح لهن أيضًا بالزواج مرة أخرى. الكثير من النساء في كشمير يعانين من اضطرابات ما بعد الصدمة، مثلما أعاني منها أنا أيضًا. لقد رأيت الكثير جدًا من الدماء والكثير جدًا من الجثث ونساءً وأطفالًا يبكون.
أنت أوَّل مصوِّرة صحفية في كشمير. فما هي العقبات التي كان يجب عليك تخطيها من أجل هذا العمل؟
مسرات زهرة: كان يجب عليَّ أن أخترق سقفًا زجاجيًا عندما بدأت العمل في عام 2016. إذ لم تكن توجد في كشمير نساء يعملن كمصوِّرات وصحفيات ويقمن أيضًا بتوثيق الاشتباكات بين الجنود الهنود والمتمرِّدين. وكان الناس في القرى يحدِّقون في وجهي وكنت أتظاهر في البداية بأنَّني لا أفهم اللهجة المحلية وأنَّني أتيت من مكان آخر حتى أستطيع العمل بسلام ولا أضطر إلى الإجابة على أسئلتهم الكثيرة جدًا. ولكن الشيء الأصعب كان بشكل خاص هو سيري في هذا الطريق ضدَّ إرادة أبي وأمي.
لماذا أراد والداك منعك من فعل ذلك؟
مسرات زهرة: أنا من أسرة محافظة وقد كانت والدتي تُفضِّل رؤيتي متزوجة. وإذا كان أصلًا بإمكاني الدراسة فيجب أن أدرس الطب. أمَّا أن أكون صحفية فهذا بالنسبة لها شيء خطير جدًا. كنت أقرأ في الخفاء كتبًا عن التصوير الفوتوغرافي ولم أخبرهم أيضًا بأي شيء عن امتحان القبول في الجامعة. ولحسن الحظ فقد كان لديّ أستاذ جاء إلى منزلنا وحاول تغيير رأي أبي وأمي. ومع ذلك فقد استغرق الأمر سنين حتى تقبَّلوا عملي.
وأمي كانت تشتكي باستمرار من أنَّ عملي خطير للغاية، وكان أخي يشكو من أنَّ الصحافة مهنة غير لائقة للمرأة لأنَّني كنت أبقى في الخارج بعد حلول الظلام. وقد أخذ مني والداي الكاميرا والكمبيوتر المحمول أكثر من مرة. وذات مرة تشاجرنا كثيرًا لدرجة أنَّني خرجت من البيت في الليل وأنا حافية القدمين مثلما كنت. وبقيت عند إحدى عماتي بعض الوقت. ثم واصلت عملي ببساطة.
شعب كله تحت الإقامة الجبرية
في شهر آب/أغسطس 2019، أقدمت الحكومة الهندية على إلغاء وضع الحكم الذاتي لمنطقة كشمير وعزلتها عن العالم الخارجي لتسعة أشهر. فكيف كانت الحياة بالنسبة لك خلال هذا الإغلاق لعدة أشهر؟
مسرات زهرة: كان ذلك إقامةً جبرية مفروضة على الشعب كله. وتعتيمًا تامًا: من دون شبكة هاتف ولا تلفزيون ولا إنترنت - طيلة ثمانية أشهر. هل يمكنك تصوُّر ماذا يعني ذلك بالنسبة لي كصحفية؟ لم نكن نعرف حتى أين ستخرج المظاهرة التالية، بل كنا نكتشف ذلك بالصدفة. وكان يتم نقل المعلومات شفويًا، ولم تكن توجد لدينا وسيلة أخرى. ومع أنَّ الحكومة الهندية قد أنشأت مركزًا إعلاميًا، ولكن لم يكن يوجد هناك سوى أربعة أجهزة كمبيوتر لجميع الصحفيين من جميع أنحاء كشمير.
وكان أحد هذه الأجهزة مخصصًا للدعاية الحكومية الهندية، واثنان للصحفيين وجهاز واحد فقط للصحفيات. ولم يكن لدينا سوى خمس عشرة دقيقة في اليوم لكلّ شخص من أجل تفقُّد البريد الإلكتروني وإرسال المقالات أو الصور إلى أقسام التحرير. وكنا نقف كلَّ يوم في طوابير طويلة أمام المبنى وفي جميع الأحوال الجوية. وبسبب إيقاف وسائل النقل العام المحلية جزئيًا عن العمل، فقد كان يجب على جميع مَنْ لا يملكون موتورًا أو درَّاجة المشي على أقدامهم إلى هناك.
لقد عشتِ عامًا في هامبورغ بمنحة من "مؤسَّسة هامبورغ للمضطهدين سياسيًا". ما هو أكثر شيء فاجأك في ألمانيا؟
مسرات زهرة: كان من غير المعتاد بالنسبة لي عدم رؤية جنود في الشوارع. فكشمير هي أكثر منطقة فيها انتشار عسكري في العالم: حيث يوجد لدينا جندي واحد مسلَّح مقابل كلّ سبعة أشخاص. لقد كنتُ في طفولتي ألمس فوَّهات بنادق الجنود ولم أفهم مدى خطورة هذا العمل إلَّا في مرحلة متأخرة. وقبل مجيئي إلى ألمانيا، لم أكن أعرف إلَّا هذه الحياة فقط، والتي كانت طبيعية بالنسبة لي. فأنا لم أكن بتاتًا قبل ذلك خارج كشمير والهند.
أمَّا في ألمانيا فيمكنك المشي في الشوارع والتنفُّس بحرِّية من دون خوف. في هامبورغ، أوقفتُ درَّاجتي ذات مرة في المكان الخطأ واضطررت للذهاب إلى الشرطة من أجل استعادتها. وكنت متوترة جدًا. ولكنهم كانوا ودودين ومهذَّبين معي، ابتسموا في وجهي وقدَّموا لي مقعدًا للجلوس. وكان يجب عليّ إظهار هويَّتي ثم استعدت درَّاجتي.
لقد عرضتِ خلال فترة إقامتكِ في هامبورغ صورًا وتحدَّثتِ عن المعاناة في كشمير ...
مسرات زهرة: نعم، لقد كان لديَّ - على سبيل المثال - معرض في مدرسة بوسيريوس للقانون في هامبورغ وكنت هناك من أجل الافتتاح. وفي اليوم نفسه، أوقفت الشرطة في كشمير سيَّارة وقتلت بالرصاص ثلاثة شباب كانوا جالسين بداخلها. لقد كانوا غير مسلحين. ومثل هذه الأشياء تحدث كلَّ يوم تقريبًا، والناس يرسلون لي عبر موقعي تويتر وإنستغرام الأخبار والصور ومقاطع الفيديو. الشعب في كشمير مصاب كله بصدمة نفسية - ولكن العالم لا يهتم بذلك. أنتم الألمان تعرفون صوف كشمير ولكنكم لا تعرفون أي شيء عن صراع كشمير.
"عشتُ مرحلة أردت فيها التوقُّف"
كان سينتهي بكِ المطاف قبل عامين إلى السجن بسبب عملك. فكيف حدث ذلك؟
مسرات زهرة: أنا أنشر صوري أيضًا في وسائل التواصل الاجتماعي حتى يراها العالم كله. وهذا لا يعجب الهنود. فهم يريدون إسكاتنا نحن الصحفيين حتى لا يعود أحد يكتب عن الفظائع التي تحدث كلَّ يوم في كشمير. ومَنْ ينشط على موقع تويتر تتم مراقبته بشكل دقيق. في شهر نيسان/أبريل 2020، تم استدعائي من قِبَل الشرطة. وقالوا لي يجب أن أتوقَّف عن نشر صوري على الإنترنت. أومأتُ لهم برأسي - وفي اليوم التالي واصلتُ عملي. فأنا لا أدعهم يخيفونني.
وبعد ذلك ظهر اسمك في قائمة تحتوي في العادة على أسماء إرهابيين ...
مسرات زهرة: نعم، فقد ادَّعت الحكومة الهندية أنَّني أنتهك بصوري سيادة الهند وسلامتها - وبحسب قانون منع الأنشطة غير المشروعة يُعاقَب على هذا العمل بالسجن عدة سنوات. وكان يجب عليَّ الذهاب للشرطة من جديد، وعندما ودَّعت أمي، عانقتها وقلت لها "أراك قريبًا" - ولم أخبرها إلى أين أنا ذاهبة. وكان يجب عليَّ أن أسيطر على نفسي حتى لا أبكي، بسبب اعتقادي بأنَّني لن أراها مرة أخرى. وكنتُ متأكِّدة من أنَّهم سيعتقلونني. وكنت خائفة جدًا.
وماذا حدث بعد ذلك؟
مسرات زهرة: دعمتني نقابة الصحفيين في وطني، وفجأةً أصبح لديَّ أربعة وعشرون ألف متابع جديد على موقع تويتر. وهكذا انتبهت لي منظمة العفو الدولية وعملت من أجلي. ثم تم ترشيحي بعد بضعة أسابيع لجائزة آنيا نيدرينغهاوس (جائزة للمصوِّرات الشجاعات)، وتلقيتها في عام 2020. وقد ساعدني المجتمع الدولي في حمل الحكومة الهندية على إسقاط الدعوى. وهنا أدرك أخيرًا والداي أيضًا أنَّ ما أفعله مهم. وقالت لي أمي في هذا الوقت: "أنتِ لم تعودي ابنتي لوحدي، بل أنتِ الآن ابنة كشمير كلها".
ومع ذلك، لا يزال الوضع بالنسبة لك خطيرًا مثل ذي قبل. هل فكَّرت مرةً في التوقُّف عن العمل؟
مسرات زهرة: نعم، لقد مررت بمثل هذه المرحلة. فأنا وعائلتي شيعية وننتمي بالتالي إلى أقلية، بينما يعتبر معظم سكَّان كشمير من السنَّة. وقد نشرت الحكومة الهندية إشاعة تفيد بأنَّ الشيعة يعارضون كفاح الكشميريين من أجل الحرِّية. وهنا ظهرت إشاعة تفيد بأنَّني أعمل مخبرة عند الشرطة الهندية وقد تلقَّيتُ تهديدات فظيعة من قِبَل أشخاص عاديين وخاصة عبر الإنترنت. مثل: "سيتم اغتصابك؛ أنت عاهرة؛ بيت عائلتك سيحترق".
لقد كان ذلك بالنسبة لي بمثابة صدمة ونقطة فكَّرت فيها بالتوقُّف عن عملي. أخي ساعدني وذهب معي إلى الشرطة حتى أتمكَّن من تقديم بلاغ. ولكنَّني في النهاية سحبت هذا البلاغ لأنَّني أعرف ماذا يفعلون بالناس في السجون، حيث يتم تعذيبهم والتنكيل بهم. وقد قلت لنفسي: عندما يدخل هذا الرجل السجن، فستجلس أمُّه في المنزل تبكي عليه.
لا هدوء ولا انفراج في كشمير
أعلنت الهند وباكستان بشكل مفاجئ في شهر آذار/مارس 2021 وقف إطلاق النار. فهل بدأت بذلك مرحلة من الهدوء والانفراج في كشمير؟
مسرات زهرة: لا على الإطلاق! فمنذ صيف عام 2019 ازدادت حدة الوضع بالنسبة للكشميريين. ففي كلِّ يوم تقريبًا يتم اختطاف أشخاص أو قتلهم بالرصاص بشكل تعسِّفي من قِبَل الجنود الهنود. ويتم باستمرار سجن المزيد من الصحفيين والناشطين في مجال حقوق الإنسان، مثل شخص أعرفه واسمه خُرام بارويز - على الأرجح أنَّني لن أراه مرة أخرى. وحتى قبل عام 2019، اتَّسمت الحياة اليومية بالنسبة لنا نحن الكشميريين بالرعب. ولكن الصراع وصل الآن إلى مستوى لم يعد يتعلق فيه الأمر بالعدالة.
بل بات يتعلق فقط بحصول الناس ـ على الأقل - على جثث ذويهم وأحبائهم. لقد كان المحتلون (الجنود الهنود) يقتلون الناس في كشمير حتى قبل العام 2019، ولكن العائلات كانت على الأقل قادرة على دفن الموتى بكرامة. أمَّا اليوم فلم يعد يتم حتى تسليم الجثث لأهل الموتى.
أنتِ تتحدَّثين كثيرًا حول الهند، ولكن ما هو الدور الذي تلعبه باكستان؟
مسرات زهرة: لا أريد الحديث حول ذلك. نعم، أنا أتلقَّى تهديدات من الجانب الباكستاني أيضًا. لقد ظهرت صورة لي مع تهديد بالقتل في حساب على وسائل التواصل الاجتماعي خاص بجماعة إرهابية باكستانية. غير أنَّ الإسلاميين أعلموني أنَّ هذا الحساب مزيَّف. وقالوا إنَّه على الأرجح من عمل الحكومة الهندية، التي تريد إلصاق التهمة بالباكستانيين. وقالوا أيضًا يجب عليَّ أن أتوخى الحذر.
لقد عرضت عليك الشرطة الهندية حماية شخصية ...
مسرات زهرة: لكنني رفضتها. أنا أعيش في حقل ألغام، والحرَّاس الشخصيون الهنود من شأنهم فقط التشكيك في استقلاليتي، بحيث يعتقد الجميع أنَّني أقف إلى جانب الهند.
ما الذي يجب أن يحدث بحسب رأيك حتى يتحسَّن الوضع السياسي؟
مسرات زهرة: يجب على المجتمع الدولي أن يمارس المزيد من الضغط على الحكومة الهندية حتى تتوقَّف انتهاكات حقوق الإنسان ضدَّنا نحن الكشميريين. ويجب أن يتم أخيرًا إجراء استفتاء مثلما وعدتنا الأمم المتَّحدة. نحن ننتظر ذلك منذ أكثر من سبعين عامًا. ونطالب بحقِّنا في تقرير مصيرنا. وهذا لا يتعلق بالنسبة لنا بالأرض فقط، بل يتعلق بالهوية.
أنا أحمل جواز سفر هنديًا وعدا ذلك سأكون من دون جنسية ولكنني لا أشعر بأنَّني هندية - فأنا مسلمة كشميرية. وأحلم بكشمير لا تتبع الهند ولا باكستان، بل تكون مستقلة.
حاورتها: إليسا راينهايمر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022