موسيقار إيراني قوة من قوى الطبيعة ورمز للحرية
ترتبط حياة محمد رضا شجريان، الذي توفي في عام 2020، ارتباطاً كبيراً بتاريخ إيران المعاصر: من الحرب العالمية الثانية إلى الوقت الحاضر. ويُظهر لنا فيلم "صوت الغبار والرماد"، الذي يروي قصة حياة شجريان، كيف نشأ ليصبح شخصية بارزة في الثقافة الإيرانية، ويرتبط بالنضال في سبيل الحريات الشخصية والفنية على حد سواء في إيران.
ومن خلال رواية تاريخ شجريان لنا، تسرد المخرجة مندانا بيسكوتي قصة إيران منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بعد دعم الأمريكيين والبريطانيين انقلاباً للإطاحة بالحكومة المنتخبة في البلاد بعد الحرب -والتي سعت إلى تأميم نفط وغاز إيران- عُيِّن نظام ملكي يمثّله شاه إيران في السلطة.
في البداية لم تكن القيادة السياسية تعني الكثير لشجريان. ولم يكن تدريبه في الموسيقى، بل كان في تلاوة القرآن في المناسبات العامة والصلوات. في الواقع كان والده رجلاً متديناً للغاية معارضاً بشدة لفكرة دخول ابنه مجال الموسيقى.
صبي يتلو القرآن
خلال رواية تفاصيل سنواته الأولى، تُوضّحُ لنا بيسكوتي كيف أنّ تدريب شجريان المبكّر قد أعدّه لقاعة الحفلات الموسيقية. في سنّ مبكرة، كان يُطلب منه تلاوة القرآن لتجمّعات كبيرة من الناس، بما في ذلك التجمّعات السياسية خلال زمن تأميم الحكومة لحقول الغاز والنفط. وفي سن العاشرة أو الحادية عشرة فحسب، كان شجريان يفتتح المراسم بتلاوة من القرآن لتبدأ بعدها الخطب السياسية.
وبينما كان والده معارضاً للموسيقى، ورثت والدة شجريان حبّ الموسيقى من عائلتها. فقد كان لديهم اعتقاد راسخ أنّها مفيدة لروح الفرد والمجتمع.
وهكذا، رغم معارضة والده، بدأ شجريان بالغناء. في البداية بدأ سراً برفقة أفراد من عائلته، ومن ثمّ علناً.
وفي الوقت الذي بدأ يبرز فيه كان تأثير الموسيقى الغربية -سواء الشعبية أو الكلاسيكية- جلياً في إيران.
نظّمت زوجة الشاه، فرح بهلوي، أمسيات ثقافية ضخمة ظهر فيها موسيقيون من جميع أنحاء العالم بينما لم تولِ تقاليد إيران اهتماماً يُذكر.
لكن شجريان كان مؤدياً مقنعاً وديناميكياً لدرجة أنه، مع الموسيقيين الذين عزفوا معه، أبقى الموسيقى الإيرانية متداولة.
لسوء الحظ سرعان ما سقط شجريان والموسيقيون الآخرون ضحية نظام الشاه القمعي. ورفضت السلطات، في نهاية المطاف، السماح ببثِّ موسيقاه في الإذاعة الحكومية.
وقد تغيّرت حياة شجريان، مثل آخرين كثر في إيران، إلى الأسوأ مع قدوم الجمهورية الإسلامية التي لا تزال تحكم إيران.
ويكشف فيلم "صوت الغبار والرماد" كيف نجح شجريان في دفع الحكومة إلى السماح بأداء الموسيقى في العلن بعد أن حُظِرت في البداية.
لكن ولاءه لفنه، سرعان ما قاده إلى نزاع مع آيات الله. ويتضمّن الفيلم العديد من الأمثلة حول الطرق الصغيرة التي قاوم وتحدّى بها المراسيم الحكومية.
طائر السَّحَر
حين كان شجريان يقوم بجولات خارج إيران، سمح للنساء بالعزف معه على خشبة المسرح وعزف أغاني تناصر الحرية. ودائماً ما اختتم حفلاته بأشهر أغانيه "طائر السَّحَر"، والتي تروي قصة عندليب محبوس في قفص يُطلَب منه التحرّر وغناء أغنية الحرية. واليوم، تمثّل هذه الأغنية النشيد الوطني غير الرسمي لشعب إيران.
بالطبع، فإنّ تداعيات هذه الأغنية، بالإضافة إلى تصرفات شجريان التمرديّة الصغيرة، كرفض عزف النشيد الوطني الإيراني الجديد قبل حفلاته في إيران على سبيل المثال، جعلته غير محبوب لدى الحكومة. بيد أنّ النظام أدرك أنّه ليس بمقدوره اعتقاله، فقد كان معروفاً جداً ويحظى بتبجيل كبير من قبل الناس بحيث لا يمكن للنظام المخاطرة باعتقاله.
وحين رفض رجال الدين الإيرانيون قبول نتائج انتخابات عام 2010، والتي كانت ستشهد تنصيب رئيس معتدل، نزل الناس إلى الشوارع فيما عُرِف باسم الحركة الخضراء. وعندما وصفهم الرئيس أحمدي نجاد، الذي كان يُشرِف على حملة القمع ضد المحتجين، بأنهم غبار ورماد فحسب، ومخلفات ينبغي جرفها، قال شجريان أنّه صوت الغبار والرماد.
وبينما لم تعتقله الحكومة الإيرانية، منعت تشغيل موسيقاه في العلن. ولم يعد مسموحاً له بتأدية الأغاني وحُظِرت موسيقاه من الإذاعة الحكومية.
حياة احتجاج بالغناء
صوت الغبار والرماد عبارة عن فيلم استثنائي عن رجل مدهش. لقد صنع فناً إزاء اللامبالاة والقمع الحكوميين في ظلّ نظامين متتاليين ولم يفقد شغفه على الإطلاق، أو الإرادة للإبداع ولقول الحقيقة. لقد كان قوة من قوى الطبيعة ورمزاً لحرية للإيرانيين سواء في الوطن أو في المنفى.
قامت بيسكوتي بعمل رائع، إذ جمعت اللقطات الأرشيفية لكل من التاريخ الإيراني وتاريخ شجريان مع مقابلات لإنشاء فيلم مؤثّر وغني بالمعلومات. وتؤكّد المقابلات على أهمية شجريان لإيران ثقافياً واجتماعياً. كما قدّمت لنا المقابلات الخلفية اللازمة من أجل فهم مكانته المرتفعة.
قلبُ الفيلم تُشكِّلُه المقابلاتُ مع المايسترو نفسه حين يروي قصته ويسرد ما عاشه. نلتقي برجل متواضع غير متعجرف يعمل في حديقته ويصنع آلات موسيقية. ومن الصعب رؤيته بوصفه تهديدا لسلطة أي أحد. على الرغم من أنّه حين يتحدّث عن موسيقاه والحرية، فإنّ معتقداته الهادئة توضّح سبب خوف الحكومة منه كثيراً.
مع وفاته بسبب السرطان في عام 2020، أُسكِت صوت الحرية والرحمة. ومع ذلك، بينما نشاهد الأخبار ونرى رجالاً ونساء شجعاناً يخاطرون حالياً بحياتهم في شوارع إيران، نكاد نسمع صوت شجريان مغنياً لهم.
ريتشارد ماركوس
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022