بث الروح في المجتمع المدني العربي
لقد أنقذته الثقافة، إن جاز التعبير. أنقذته من العنف والتطرُّف، مثلما يخبرنا محمد إسول، وهو شاب ليبي عمره تسعة وعشرون عامًا، يقوم منذ عام 2011 بتنظيم فعاليَّات ثقافية في مدينته طرابلس، ويسعى حاليًا إلى تحقيق حلم. وحلمه هو ترميم بيت جَدِّه وإنشاء مقر لإقامة الفنَّانين.
في صيف عام 2017 شارك محمد إسول مع أحد عشر شخصًا ليبيًا آخر يعملون في مجال الثقافة في مشروع للأكاديمية الثقافية الليبية. ويهدف هذا المشروع إلى تأهيل مدراء ثقافيين ليبيين والربط بينهم وبين المشهد الثقافي العربي والألماني. ويركِّز أيضًا على الوقاية من العنف كنتيجة جانبية.
يتَّبع معهد غوته نهجًا مماثلاً من خلال التوعية بالتربية الخالية من العنف في مصر وتونس. وبما أنَّ بذور التطرَّف والعنف غالبًا ما يتم بذرها في مرحلة المدرسة وفي فترة المراهقة فإنَّ الوقاية من العنف في المدارس المصرية والتونسية تحتل أهمية كبيرة لدى صانعي السياسات التعليمية والمختصين.
وضمن هذا السياق تناولت مديريات التربية والتعليم ومعهد غوته هذا الموضوع في مصر عن كثب ضمن ثلاث ورشات عمل أقيمت من أجل الكوادر القيادية في مجال المدارس وللمعلمين والطلاب والطالبات.
يقول المدرِّب الألماني هولغر هيغيكوتَر: "أنا لا أرى أي فرق تقريبًا بين التلاميذ المصريين والألمان. التلاميذ الذين تتعاملون معهم اليوم هم الذين سيخلقون الأسس المستقبلية للتعايش الاجتماعي وهم كذلك القادرون على تغييرها. بيد أنَّ هذا التغيير يحتاج وقتًا". لقد جاء هولغر هيغيكوتَر إلى القاهرة ضمن إطار ورشة عمل لبدء مشروع في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، وهو مدير معهد بريمن للتربية وعلم النفس. وفي تونس يخطط معهد غوته أيضًا تنفيذ برنامج تدريب للمعلمين والأخصائيين النفسيين في المدارس، بالإضافة إلى مشاريع للتلاميذ تتضمن أنشطة ثقافية ورياضية.
تدابير من أجل التغيير الاجتماعي
منذ عام 2011 يدعم معهد غوته مشاريعَ مثل هذا المشروع بتمويل خاص من وزارة الخارجية الألمانية الاتِّحادية كجزء من الشراكة من أجل التحوُّل في كلّ من مصر وتونس وليبيا والمغرب وكذلك في دول عربية أخرى. ومن هذه المشاريع أيضًا المشروع الريادي لعام 2017 "الكتابة حول العلوم".
يسعى هذا المشروع الأخير إلى تعزيز العمل في مجال الصحافة العلمية في مصر ودعم العلاقة بين العلوم والصحافة. فالموضوعات العلمية غالبًا ما تكون ناقصة التمثيل في وسائل الإعلام المصرية، وكثيرًا ما يتم نشر أخبار كاذبة، وفي بعض الأحيان أيضًا بدوافع سياسية. وضمن إطار الشراكة من أجل التحوُّل نفَّذ معهد غوته بالفعل أكثر من أربعين مشروعًا مثل هذا المشروع في مجال الثقافة والتعليم.
من المعروف أنَّ جميع الدول الشريكة -في مشروع الشراكة من أجل التحوُّل- تعيش مرحلة انتقالية، وتواجه تحدِّيات غير عادية. وعلى الرغم من أنَّ الناشطين المحليين مستمرون في العمل من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي، لم يتحقق حتى الآن الكثير من المطالبات بالمزيد من الديمقراطية والمشاركة الاجتماعية، التي تم التعبير عنها في الربيع العربي. ولهذا السبب لا يزال من الضروري دعم المجتمع المدني: وهنا ينصب التركيز على مشاريع المرأة ومشاريع الجنسين.
هناك سلسلة من ورشات العمل في مدينة الأقصر في صعيد مصر، لتشجيع النساء العاملات على تحليل بيئتهن بحسب الجوانب المتعلقة بالجنسين. وهكذا يمكنهن أن يعكسن موقفهن الخاص وسيرتهن الذاتية في السياق الاجتماعي وهدم الأفكار القديمة التي تُحدِّد دور الجنسين.
"الأدوار التقليدية للجنسين تضع النساء في المرتبة الثانية بعد الرجال. وضمن هذا السياق تكبر النساء وتصبح أدوار الجنسين جزءًا من هويتهن وقيمهن"، مثلما تقول هدى قنديل، التي تقوم بإعداد ورشات عمل خاصة بالجنسين من أجل الشباب المصريين. وهدى قنديل طبيبة نفسية وقد سبقت لها المشاركة شخصيًا في ورشة عمل لمعهد غوته حول التربية المدنية. وتعمل الآن كمدرِّبة مستقلة للتوعية بقضايا الجنسين في منطقة صعيد مصر التقليدية والمحافظة.
على سبيل المثال، تشاهد هدى قنديل سويةً مع المشاركين أفلام رسوم متحرِّكة، يقوم في أحدها الأمير بإنقاذ الأميرة وعلى هذا النحو ينقل هذا الفيلم رسالة مفادها أنَّ المرأة يجب دائمًا أن يتم إنقاذها. وحول ذلك تقول هدى قنديل: "هذا يخفي على سبيل المثال أفكار اضطهاد النساء، والضعف وكذلك فكرة اعتماد النساء دائمًا على الرجال. كما أنَّ مثل هذه الأفلام تضع في لاوعي المرأة شعورًا بعدم قدرتها على فعل الأشياء بنفسها وتحقيقها".
وكذلك يمكن للمنظمات غير الحكومية المحلية إدخال المعلومات المتعلقة بالجنسين على سبيل المثال في الموقع المعروف باسم ويكي الجندر Wiki-Gender، وهو قاعدة معارف تعاونية وتشاركية. وموقع ويكي الجندر يعمل باستمرار على جمع وإضافة المعلومات المتعلقة بقضايا الجنسين وقضايا المرأة باللغة العربية، ويسعى إلى إثارة النقاشات حول هذه الموضوعات. وعلاوة على ذلك فإنَّ اللقاءات المنتظمة لممثِّلي المنظمات المعنية بقضايا الجنسين وتمكين المرأة تساعد على ربط الجهات الفاعلة المحلية وتوفير فضاء للنقاش.
إذ إنَّ هذا الفضاء للنقاش بالذات لا يزال غير متاحًا: فبعد بلوغ المشاركة المدنية ذروتها نتيجة الربيع العربي، بات العديد من الناشطين يواجهون زيادة في القمع على مدى السنوات القليلة الماضية. ومعهد غوته يوفِّر هنا مساحة محمية وحرة: فهو يتيح خبراته وشبكته ومقراته من أجل دعم الناشطين في المجتمع المدني والاستمرار في إتاحة المجال للحوار المفتوح والتبادل.
وفي هذا الصدد يدعم معهد غوته على سبيل المثال ملتقى التحرير Lounge@Goethe كمكان مفتوح وتجريبي للشباب المصري - حيث يمكنهم في ملتقى التحرير Tahrir Lounge تبادل الآراء واستكشاف الأفكار، بالإضافة إلى اكتساب المهارات الاجتماعية والشخصية في ورشات العمل. وكل هذا بهدف واحد، هو: خلق فرص للمشاركة وتنفيذها بشكل فعَّال من أجل الشباب، وحتى ضمن السياق السياسي الصعب حاليًا.
وهنا تلعب الشبكة العربية للتعليم (NACE) دورًا مهمًا - وهذه الشبكة يتم تمويلها من قِبَل الوكالة الاتِّحادية الألمانية للتعليم المدني بالتعاون مع معهد غوته وشركاء آخرين. "هذه الشبكة تدعم العملية الديمقراطية في المنطقة. نحن نبحث في دور ومناهج تثقيف المجتمع المدني، ونقوم بجمع المعارف وتنظيمها حول المبادرات والنشاطات المتعلق بتثقيف المجتمع المدني في المنطقة"، مثلما تقول منى شاهين، مديرة ملتقى التحرير، بصفتها عضوًا في الشبكة العربية للتعليم. وتضيف: "الشبكة العربية للتعليم تربط بين الناس والمؤسَّسات العاملة بنشاط في هذا المجال، لجعل عملها أقوى وأكثر تركيزًا".
بالإضافة إلى ذلك يقوم معهد غوته بتعزيز التفكير النقدي والإبداعي، وذلك من خلال دعمه لتطوير نظم تعليمية أكثر فعالية وموجهة بصورة أقوى بحسب إدارة حديثة، بناءً على طلب وزارتي التربية والتعليم في كلّ من مصر وتونس.
إذ إنَّ الأنظمة المدرسیة هناك كانت حتی الآن على سبيل المثال غير مصمَّمة للتدريس التشارکي. ولهذا السبب فإنَّ معهد غوته يقوم بتدريب مديرات ومديري المدارس ويقدِّم لهم المشورة في إدارة التغيير، بحيث يمكن تطوير هياكل الإدارة الحديثة في أنظمة التعليم المصرية والتونسية.
كريستينا بونس
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2018