عظَمة باقية...تأثر البرتغال بالحضارة العربية الإسلامية
تتوهجُ حجارة كاتدرائية كويمبرا التي تعود إلى القرن الثاني عشر تحت آخر أشعة شمسية في أمسية صيفية دافئة، وطيور السنونو محلِّقة حول المبنى البسيط بينما السائحون مصطفُّون لزيارة النصب التذكاري المبني وفقاً للعمارة الرومانسكية في ثالث أكبر مدينة في البرتغال.
بوابة الكاتدرائية مكونة من ثلاثة طوابق (في الواجهة الشمالية) وتجتذب العديد من الزوار، لكن إلى جانبها يوجد شيء أكثر تميزاً بيد أنه أقل وضوحاً، وهو كتابة عربية منقوشة على جدار واحد من أقدم المباني الكاثوليكية الرومانية في البرتغال وأكثرها أهمية.
عرضها أقل من متر، وهي في مكان مرتفع للغاية بحيث لا يُلاحظها أحد ولا يستطيع معظم الذين يمرون بقربها قراءةَ الأحرف العربية التي نُقِشت في الحجرِ وبهتت على مدار ثمانية قرون.
نقش عربي ترجمه اللغوي والمستعرب ألويس ريتشارد نيكْل -الذي زار الكاتدرائية القديمة في صيف عام 1940 النقش- كالتالي: "كتبت وقد ابقيته لشكايتي ستفنا يدي يوما ويبقا كبر"، بمعنى: "كتبتُ (هذا) كسِجِلٍّ دائم لمعاناتي. يوماً ما ستفنى يدي، ولكن العَظَمة باقية".
اقترح آخرون قبله قراءات مختلفة للكتابة العربية، التي يُعتقدُ أنها نُقِشت في وقت قريب من بناء الكاتدرائية، لكن ترجمة نيكْل للنقش تبقى الأكثر تداولاً بين القراءات المختلفة.
وقد اكتمل بناء الكاتدرائية، التي موّلها ملك البرتغال الأول أفونسو هنريكيس، في أواخر القرن الثاني عشر، حين كانت القوات البرتغالية لا تزال تقاتل الحكام المسلمين الذين عُرفوا باسم المور. وقد سيطر الموريون، بين القرنين الثامن والثالث عشر، على مساحات واسعة مما يشكّل البرتغال اليوم حين كانت المنطقة جزءاً من الأندلس.
كان الحكم الإسلامي في كويمبرا (قلمرية) متقطعاً حتى عام 1064، حين احتّلت جيوش ملك ليون المسيحي المنطقة. أُلحِقت المدينة لاحقاً بولايةِ البرتغال، واعتُرِف بها بوصفها أول عاصمة لمملكة البرتغال في عام 1179 من قبل الكنيسة الكاثوليكية.
يحاول جويل سابينو -وهو مؤرخ يعمل في الكاتدرائية إضافة إلى كونه مرشداً سياحياً فيها- جاهداً أن يشرح للزوار كيف بقي النقش على الجدران لما يزيد عن 800 عام، وقد لعبت الحملات التي قامت بها الدول المسيحية، والتي عُرِفت باسم "الاسترداد" -لانتزاع الأراضي من المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية- دوراً مركزياً في بناء الهويات الوطنية في البرتغال وإسبانيا.
بناء الهوية البرتغالية
بعد سيطرة الملوك الكاثوليك على المعقل الأخير للمسلمين في غرناطة في عام 1492، طُرِد المسلمون واليهود، وحُوِّلت إسبانيا والبرتغال إلى مملكتين مسيحيتين حصراً. دُمِّرت المساجد والكُنُس اليهودية أو حُوِّلت إلى كنائس، كما حُرِقت الكتب العربية والعبرية في محاولات لمحو التنوع الثقافي والديني للمنطقةِ.
وقد بُنِيت الهوية البرتغالية بناءً على التضاد مع الموريين المسلمين، الذين صُوِّروا تاريخياً بوصفهم أعداء. وعلى الرغم من أنّ كتب التاريخ تؤكّدُ على المعارك التي جرت بين المسيحيين والمسلمين، يقول سابينو أنّ العلاقات لم تكن دائماً سيئة جداً. يقول: "عاش هنا في كويمبرا ناس مختلفون، وحقيقة أنّ النقش العربي نجا لمدة قرون طويلة على جدران الكنيسة يعكس هذا التنوّع. إنها رسالة تسامح، وتنوع، تخبرنا أنّ المدينة تأثّرت بالثقافة والحضارة العربية والإسلامية. تحكي لنا قصة تعايش". ويضيف سابينو أنّ التأثيرات العربية والإسلامية واضحة في سيراميك الكاتدرائية، والأعمدة المزخرفة بدقة والسقف الخشبي الهندسي، الذي يُعرض الآن في متحف ماتشادو دي كاسترو الوطني القريب.
حتى بعد أن انتُزِعت كويمبرا من الحكام المسلمين، بقيت مجموعة مسيحية ناطقة بالعربية "المستعربين" مؤثرة في المدينة. وبالنسبة لسابينو، فإنّ أفضل مثال على وجود المستعربين في المنطقة هو كونت كويمبرا سيسناندو دافيدس (ششنند) الذي درس في قرطبة على يد المسلمين وخدم كلاً من حكام إشبيلية المسلمين وملوك ليون. يمكن زيارة قبره في الرواق القوطي في الكاتدرائية.
"ستفنى يدي يوماً"- يد من؟
رغم أنّ معظم الأكاديميين الذين فحصوا النقش توصّلوا إلى أنه على الأرجح قديم قدم الكنيسة، إلا أنّه لا يُعرفُ سوى القليل عمن نحته.
وتكهّن نيكْل بأن النقش نحته بنّاء مستعربٌ، أي مسيحي يتحدث العربية وعمل في بناء الكنيسة. بينما يعتقد آخرون، مثل ماريو باروكا، وهو متخصص في دراسة نقوش وكتابات العصور الوسطى، أنّ النقش كان على الأرجح عمل شخص مسلم - ربما كان أحد الحجّارين المستعبدين أو فنان مسلم مرّ من مدينة كويمبرا.
يقول سلام راسي، وهو مؤرخ مهتم باللقاءات بين المسيحيين والمسلمين في العالم الإسلامي في العصور الوسطى: "يتحدثُ صاحب هذا النقش عن إتمام أمر ما. ربما نقشه حجّار كان يعمل في الكنيسة وتركه كأثر حي على جهوده، لكننا لا نعرف على وجه الدقة". يقول: "ما أثار دهشتي أنه نقش أدبي للغاية". يتابع: "النقش عبارة عن عبارة مجازية شائعة جداً في الكتب؛ ستفنى اليد يوماً وتبقى الكتابة. يموت الكاتب ويبقى كلُّ ما قد كتبتُه".
ووفقاً لسلام راسي، فإن النقش يعكسُ تواجداً متطوراً للغة العربية. كما يقول راسي: "يشير النقش إلى وجود معرفة عميقة باللغة العربية في المدينة، وأن الناس لم يستخدموها في التخاطب فحسب، بل كوسيلة أدبية كذلك".
"يبقا كِبَر" - عَظَمة باقية
يعكس النقشُ مرونةً وإرثاً باقياً، إرث بالنسبة للبعض مليء بالحنين للأندلس، وهي فترة غالباً ما صُوِّرت كحقبة مثالية من التبادل بين الثقافات، ازدهر فيها العلم والفنون والعمارة.
وبالنسبة لطلال أبو زقية، وهو في الأصل من ليبيا وانتقل إلى كويمبرا في عام 2018 للحصول على درجة الماجستير، تعبّر الكلمات على جدران الكنيسة عن شوق وحزن كبيرين: "كتبت وقد أبقيته لشكايتي" كما جاء في النقش. يقول: "يوجد الكثير من الألم في النقش، بيد أنه يُظهِرُ أنه كان هناك، ولا يزال، مسلمون يعيشون في البرتغالِ، حيث كانت الأندلس فيما مضى".
يشكّل المسلمون اليوم أقل من 0.5% من سكان البرتغال الذين يبلغ عددهم حوالي 11 مليون نسمة. ولا يدرك الكثير منهم أنّ المسلمين كانوا يشكّلون نسبة أكبر من السكان فيما مضى. حين انتقل أبو زقية إلى البرتغال، فُوجِئ حين اكتشفَ أنّ اللغة العربية قد تركت إرثاً دائماً في اللغة البرتغالية، وأنّ البرتغال متأثرة جداً بالحضارة الإسلاميةِ.
يقول أبو زقية: "حين أزور المباني والقلاع والكنائس القديمة، أو أسافر في الجبال والوديان هنا، أشعر بمزيج غريب من الألفة والشوق والانبهار بما أراه. ألمس أحياناً حجارة القلاع القديمة، وأغمض عيني وأسافر بخيالي إلى تلك الحقبة".
وعلى النقيض من إسبانيا، حيث ترك الحكم الإسلامي كنوزاً معمارية في مراكز مثل غرناطة وإشبيلية، لا يوجد الكثير من هذه الآثار في البرتغال، التي كانت هامشية إلى حدٍّ ما في المنطقة. ورغم أنّ الأندلس نُسِيت وتم تجاهلها إلى حد كبير في البرتغال، إلا أنّ إرثها لا يزال موجوداً. فالتراث الأندلسي، في البرتغال، المتواضع وغير الواضح، تماماً كالنقش العربي المحفور على جدار الكاتدرائية، لا يزال موجوداً ومرئياً، إن كنا على استعداد للبحث عنه.
مارتا فيدال
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021