شجاعة "مجاهدات" الجزائر وثباتهن ضد الاحتلال

رسمة توضيحيَّة بريشة رسَّام الكاريكاتير "دِيلُوپي" من كتاب "جزائريَّات". النَّص للكاتب: سُوان مِيرالِّي. الترجمة إلى الإنجليزيَّة: إيڤانكا هاهنِينبِيرجِر. (دار النشر للطبعة الإنجليزيَّة: مطبعة "جامعة ولاية پنسيلڤانيا").
رسمة توضيحيَّة بريشة رسَّام الكاريكاتير "دِيلُوپي" من كتاب "جزائريَّات". النَّص للكاتب: سُوان مِيرالِّي. الترجمة إلى الإنجليزيَّة: إيڤانكا هاهنِينبِيرجِر. (دار النشر للطبعة الإنجليزيَّة: مطبعة "جامعة ولاية پنسيلڤانيا").

الروايات المصورة ليست عادةً مصدر تبحر في التاريخ وخوض بالتفكير الإبداعي لكن الكاتب ميرالي والرسام ديلوپي تمكنا من ذلك. ريتشارد ماركوس قرأ روايتهما لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: ريتشارد ماركوس

تلجأُ الحِكاية في "جزائريَّات"، كما هو واضح من العنوان، إلى إلقاء الضَّوء على مُشارَكة النِّساء في حرب الاِستقلال الجزائريَّة [التي تُعرَفُ أيضًا بِاسم "الثورة الجزائريَّة"]. وفيما هناك الكثير من الإصدارات عن النِّساء اللَّاتي يَحمِلنَ عِبءَ المُعاناة ضِمن حياتِهنّ المَنزليَّة، أو اللَّاتي يَتَعرَّضنَ للإذلال من قِبَل جُنود غاصِبين، لكنّنا نادرًا ما نقرَأُ عن قصَص النِّسوة اللَّاتي شارَكنَ مُشارَكةً فَعّالة في الحُروب والنِّزاعات. ولأنّ الحكايات الشخصيَّة التي نقرَؤُها في هذه الرواية المُصَوَّرَة قد حَدَثَت بالفِعل – أو، على  الأقل، قد بُنِيَت على تجارب أُناس حقيقيّين – فهذا وحده كفيلٌ بأن يجعلَ هذه الرواية أكثر تشويقًا للقارئ.

تَصحَبُنا في الرواية شخصيَّة بِياتريس، التي خدَمَ والدُها كجنديّ في الجيش الفرنسيّ في الجزائر. إذ تَعثُر صُدفةً على مقالٍ مُشَوّق عن الحرب الجزائريَّة، كان كَفيلًا بأن يُزوّدَها بكميَّة لا بأس بها من المَعلُومات المُدهِشة، بما في ذلك أنّ لقبًا خاصًّا قد أُطلِقَ على أطفال الجُنود الفرنسيّين الذين قاتَلُوا في الجزائر، "أُنفُانْ دَاپِلْ" [أولادُ المُجَنَّدِين]. رَغم ذلك، حين تحاولُ بِياتريس أن تتطرَّقَ إلى مَوضُوع الحربِ مع والدِها، يُقابِلُها بالرَّفض في الحديث بهذا الصَّدَد.

رحلةُ اكتِشاف

غير أنّ والدتَها تُكلِّمُها في الموضوع، وتُخبِرُها قليلًا عن أيّامِها في الجزائر، بما في ذلك حين كانت تَدفَعُ في أحدِ الأيّام بعَرَبَة شَقيقَتِها الصغيرة، وكادُوا جميعًا أن يُصابُوا من جَرّاء قُنبلة ألقَى بها "إرهابيٌّ"، كانت قد انفَجَرَت في ميدان عام. كما تُخبِرُها والدتُها أنّه إن أرادَت أن تعرفَ أكثَر، وجَبَ عليها أن تتكلَّمَ مع صديقةٍ جزائريَّةٍ لها. ومن هنا، تبدَأُ بِياتريس رحلتَها الطويلة لاِكتشاف حقيقة الحرب الجزائريَّة.

غلاف الرواية المُصَوَّرَة "جزائريَّات" لرسَّام الكاريكاتير "دِيلُوپي" والكاتب سُوان مِيرالِّي، ترجمة إيڤانكا هاهنِينبِيرجِر (دار النشر للطبعة الإنجليزيَّة: مطبعة "جامعة ولاية پنسيلڤانيا"). Cover of graphic novel "Algeriennes" by Swann Meralli and Deloupy, translated by Ivanka Hahnenberger (published in English by Pennsylvania State University Press)
With a story by Swann Meralii and illustrations by Serge Prudhomme – known by his artistic pseudonym Deloupy – we're plunged into the depths of the war and the effect it had on those on both sides of the conflict

كما تكتشفُ بِياتريس أنّ صديقةَ والدتِها كانت من الجزائريّين الذين سانَدُوا الحُكم الفرنسيّ ["الاِحتلال الفرنسيّ"] للجزائر، والذين اضطَرُّوا فيما بَعد إلى الهَرَب، تاركين خلفَهُم منازلَهُم وحياتَهُم كما كانت.

في بادِئ الأمر، كان والدُ صديقة بِياتريس مُجاهِدًا مع الثوَّار، لكن حين قامَت مجموعةٌ أخرى من الثوَّار بقَطع عُنُق أخيها، أصبح والدُها "حَركِيًّا" – اللَّقَب الذي أُطلِق على الجزائريّين الذين انحازُوا إلى الجانِب الفرنسيّ. بعد انتهاء الحرب، قامت الحكومةُ الفرنسيَّة بإجلاء "الحَركِيّين" إلى فرنسا خوفًا عليهم من الاِنتقام المَحتُوم.

حال سَماع بِياتريس قصَّةَ صديقتِها، قرَّرَت أن تُسافرَ إلى الجزائر لمعرفة المزيد. عبر لقاءٍ بالصُّدفة مع سيّدَةٍ  بجانب "مَقام الشَّهيد" [أو "رياض الفَتح"] – النّصب التذكاريّ لشُهَداء حرب الاِستقلال الجزائريَّة – تتمكنُ بِياتريس من الوصُول إلى مَجمُوعةٍ مُتنَوّعةٍ من النِّساء اللَّاتي خُضنَ غِمارَ تلك الحرب. 

كانت أوَّلُ امرَأةٍ قابَلَتها بِياتريس هي إحدَى "المُجاهِدات" اللَّاتي حارَبنَ إلى جانِب رفاقِهنّ من الرجال، إلّا أنّ هذه المُجاهِدَة لا تُواربُ أبدًا في إبداءِ رأيها بخصوص "أبطال الثورة". كما أنّها تُخبِرُ بِياتريس أنّ عُنصريَّة المُستَعمِرين الفرنسيّين هي التي دَفَعَتها، وكُثر غيرها، إلى الرَّاديكاليَّة مُذ كُنَّ صغيراتٍ في السِّن.

لكنّ هذا التَّحَوُّر لم يحدُث إلّا بعد أن قُبِضَ على والدِها من قِبَل الفرنسيّين الذين قامُوا بتعذيبه أيضًا. حينها، انضمَّت هي إلى المُقاوَمة – في نفس اللحظة التي كان الجيشُ الفرنسيّ في طريقِه لإلقاء القبض عليها، غير أنّها سُرعان ما تكتَشفُ أنّ المُقاوَمة ليست أفضل بكثير من الفرنسيّين أنفُسهم، خاصَّةً حين يتعلقُ الأمرُ بالمَرأة.

ليس كُلّ الثوَّار سَواسِيَة

كان أوَّل ما طُلِبَ من هذه المُجاهِدَة فَور انضِمامِها للثورة أن تَخضَع لفَحصٍ للعُذريَّة، قابَلَتهُ بالرَّفض القاطِع. حينها، كانت مُساهَمةُ المُجاهِدات مَقصُورَةً على خِدمَة الرجال وأداء المَهامّ الوَضِيعة. كان الرجالُ مُصَمِّمين على فَرض سيطَرتِهم على النِّساء بالقُوَّة، وعلى إعادةِ كتابةِ التاريخ، في مُحاوَلةٍ منهُم لإنكار الدَّور البارز الذي لعبَتهُ المرأةُ الجزائريَّة في مُقاوَمة الاِحتلال. لكن، حين قَتَل الثوَّارُ إحدَى صديقاتِها، نفَدَ صبرُها وقرَّرَت الإدبار.

من خلال رحلة بِياتريس في أرجاء الجزائر، نتعرَّفُ إلى سيّدَةٍ فرنسيَّة لم تَترُك الجزائر، حتى بعد انتِهاء الحرب – لأنّها شَعَرَت بأنّها في دارها ووطنِها – وإلى آخِر مُجاهِدَةٍ ضِمن أحداث هذه الرواية. أمّا قراءة قِصَّة هذه المُجاهِدَة، فهي الأكثر صُعوبة. إذ أنّها أُصيبَت أثناء تبادُل النّيران مع الجُنود الفرنسيّين الذين عالَجُوا جِراحَها في بادئ الأمر، ثُمّ ما لبِثُوا أن قامُوا بتَعذيبِها للحصول على معلوماتٍ منها. تأتي لحظةُ النَّجاةِ حين يتدخَّلُ جنديٌّ فرنسيّ ساءهُ ما حدَثَ لها، والذي يتمكَّنُ من إقناع أحَد الأطبَّاء بأن يُدخِلَها المستشفى للعلاج.

الروايةُ المُصَوَّرَة ليسَت بالمَصدَر الذي عادةً ما نلجَأُ إليه كي نتبَحَّرَ في دُروس التَّاريخ أو نَخُوضَ في التَّفكير الإبداعِيّ. لكن في هذه الرواية، تمَكَّنَ كُلٌّ من كاتبِها مِيرالِّي ورسَّامِها دِيلُوپي من إتاحَةِ هاتَين الفُرصَتَين لنا. ذلك لأنّهما يَطرَحان – أوَّلًا وقبل كُلِّ شيء – وجهةَ نظر مُتوَازنة عن الحرب الجزائريَّة، من مَنظُور النِّسوة اللَّاتي نَجَونَ منها. ولا يَجِدُ المُؤلفان غَضاضَةً في تناوُل الفَضائِع التي اقتَرَفَها كُلٌّ من الطرَفَين في حربٍ ما زالت تُعتَبَرُ واحِدةً من أكثر الحُروبِ التَّحريريَّة شَراسَةً في القَرن العشرين.

تَصويراتٌ صارخَة بريشة دِيلُوپي

وكما هو مُلائمٌ لهذا النَّوع من وسائل الإيضاح، فقد استَخدَم المُؤلِّفان كذلك مَزيجًا من النُّصُوص والرُّسُومات لسَردِ هذه القصَّة. في بعض الأحيان، تُترَكُ الصُّوَر لتَسرُدَ الحكايةَ وَحدها. هنا، نجدُ مهارات دِيلُوپي الفَنيَّة تتصَدَّرُ الواجِهَة – فالتَّصويرات صارخَة واستِثنائيَّة. ومن خلالها، نَشهَدُ اليَأس، والكراهية، والألَم، والحالاتِ الإنسانيَّة التي عاشَتها هؤلاء المُجاهِدات، عبر مَجمُوعَةٍ من الألواح المُصَوَّرَة.

بَعضُ المَشاهِد المُصَوَّرَة في الرواية مُفَصَّلَة للغاية، مع وَعيِنا بأنّها قد تُزعِجُ القارئَ المُرهَف عاطفيًّا. لكنّنا على دِرايَة بأنّ تلك لم تَكُن فترة بَهيجَة في تاريخ الجزائر، ولهذا، فإنّ الاِختيارَ الذي وقَعَ على إظهارها بكُلّ شَوائبِها هو قَرارٌ صائِب. لا يُوجَدُ ما هو إطرائيّ بخصوص مُحتَويات هذا الكتاب، إلّا أنّه قد يَصدِمُ القارئَ في بعض مَواقِعه.

 

 

 

الطَّرحُ الآخَر في هذه الرواية الذي يتوَخَّى فيه المُؤلِّفان الحَذَر هو عدم إظهار النِّساء كضحايا يَقبَلنَ بمَصائِرهِنّ دُون مُقاوَمة. فكُلُّ واحِدَةٍ مِنهُنّ كانت تتصَرَّفُ بقَناعَةٍ تامَّة وبأمَلٍ في مُستَقبَل أفضَل لوَطنِهنّ. بالنسبة للكثير، كانت الثورةُ وسيلةً لاِكتساب السَّيطَرة على الشَّعب، لا لتَحريره. هنا، يَسعَى المُؤَلّفان إلى التَّأكيد بأنّ هؤلاء المُجاهِدات قد استَطَعنَ أن يَتمَسَّكنَ بمَبادئِهنّ لفتراتٍ أطوَل من نُظَرائِهنّ من الرجال.

"قد تُزعِجُ رواية "جزائريَّات" – للكاتب سُوان مِيرالِّي ورسَّام الكاريكاتير "دِيلُوپي" – بعضَ القُرَّاء: فحِكايتُها ليسَت بالسَّوداء ولا بالبَيضاء، سواء كان ذلك من ناحيةِ الِاستهجان لطَرَفٍ دون الآخَر، أو من ناحيةِ إلقاء التُّهَم على من تَجِدهُم أشرارًا. لكنّنا قد لا نُبالِغ إن قُلنا أنّ هذه الرواية هي واحدة من أكثر الحِكايات دقّةً ضِمن ما كُتِبَ عن الحربِ الجزائريَّة منذ فترةٍ طويلة.

قد لا يكونُ هذا الكتاب مُناسِبًا للقارئ الأصغَر سِنًّا، لكنّه يَبقَى مِثالًا رائعًا على قُدرَةِ الرواية المُصَوَّرَة على أن تكونَ أحيانًا أكثر تأثيرًا في قَصِّها للحِكايات عن سَردِيَّةِ النَّثر التَّقليدِيّ.

 

 

ريتشارد ماركُوس

ترجمة: ريم الكيلاني

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de

 

سُوان مِيرالِّي هو مؤلف [العناوين مُتَرجَمة] "الرَّجُل" مع أُلريك ستال؛ "فَلنُغلِق أعيُنَنا" مع لُورا دِيُو؛ ومجموعة "الكتابُ الصَّغير الذي يقُول" مع كارُول كرُوزيه. أصدَر رسَّامُ الكاريكاتير دِيلُوپي إلى الآن روايةً حائِزةً على جائزةٍ أدَبيَّة، وهي "قصَّةُ حُبٍّ على الطريقةِ الإيرانيَّة" مع جِين دِكسار؛ وكذلك كتاب "مِن أجلِ الجِلد" مع ساندرين سانت-مارك.

 

قد يَبدُو استعمال رواية مُصَوَّرَة لمُعالَجة مسألة شائكة مثل حرب الاِستقلال الجزائريَّة اختِيارًا غريبًا. لكنّ الإصدار الجديد "جزائريَّات" – الذي ترجَمَته إلى الإنجليزيَّة إيڤانكا هاهنِينبِيرجِر – يتحدَّى كُلَّ التوقعات المُسبَقَة التي قد تجُولُ في ذِهن القارئ بخُصوص مَحدُودِيَّات هذا النّوع من الإصدارات، كما يكتب ريتشارد ماركُوس.