كليب"لبلادي" - رسالة سلام أم دعاية لنظام الأسد؟
من النادر أن تكون المطربات أو الفنَّانات العربيات المعاصرات محل نقاش في الغرب. لكن عندما تُقدِّم وسائل الإعلام الأوروبية المؤثِّرة مثل مجلة شبيغل أون لاين الألمانية أو قناة بي بي سي البريطانية تقارير مفصَّلة حول فيديو تم نشره على موقع يوتيوب لفنَّانتين سوريتين تقيمان في السويد، كانتا حتى ذلك الحين مجهولتين إلى حدّ بعيد، فعندئذ يجب أن يكون هناك سبب مقنِع.
هل هو الوضع العالمي الحالي، أم إنَّ الصور المروعة القادمة من أوكرانيا والشرق الأوسط، هي التي تجعل الناس في جميع أنحاء العالم يبحثون يائسين وبشكل متزايد عن بوادر الأمل في السلام؟ أم هي عيون هاتين المغنِّيتين - عيون زرقاء مدهشة وصافية كصفاء البلور وعميقة مثل بحيرة جبلية يُضرب بها المثل؟ أم إنَّ السبب هو ظهور امرأتين عربيتين هنا، بثقة هشة بالنفس ومن دون حجاب، ما لا يمكن تصوّره على ما يبدو حتى الآن في الغرب؟
أم هو التبسيط الجمالي المصطنع في هذا الفيديو؟ جدار بسيط مصبوغ باللون الأبيض وشابتان أنيقتان، تلعب في شعرهما الطويل المُسرَّح بعناية نسمة هواء خفيفة - بالإضافة إلى النظرة الموجَّهة إلى الأمام، المعروفة من إعلانات العطور والتي من المفترض أن توحي بالشخصية الفردية والحداثة؟
عمل سطحي دون مضمون
ما من شكّ في أنَّ أسباب تملُّق وسائل الإعلام الغربية المفرط لهذا العمل مختلفة، ولكنها تشترك في نقطة واحدة تتمثَّل في أنَّ معظم معدِّي الريبورتاجات والتقارير الإعلامية الغربيين كانوا على ما يبدو مبهورين بمظهر هاتين السيِّدتين، بحيث أنَّهم نسوا الاهتمام بالنـَّصّ في شريط الفيديو هذا. لا يمكن أن يكون الأمر مختلفًا، وإلاَّ لكانوا قد أدركوا أنَّ شريط اليوتيوب هذا لا يحتوي من حيث المضمون على أي شيء يمكن أن يُبرِّر بشكل أو بآخر هذا الاهتمام العام.
فايا يونان -التي قلّما كانت قبل أسابيع قليلة معروفة خارج السويد وكان يبدو أنَّ عدد المعجبين بها محصور جدًا على الأقل في صفحتها على الفيسبوك- تقوم في هذا الفيديو بغناء أغنيات مشهورة للنجمة اللبنانية فيروز. صحيح أنَّ بإمكانها فعل ذلك، ولكن الكثيرات من قريناتها وبنات جيلها يفعلن ذلك كلَّ يوم بأداء أفضل بكثير، من دون أن يحصدن أكاليل الغار في وسائل الإعلام الغربية.
في فترات الاستراحة التي تتخلل الأغاني تُلقي ريحان يونان شقيقة فايا عبارات كتبتها بنفسها حول موضوع الحرب في الشرق الأوسط. وعلى العكس مما أشاعته وسائل الإعلام الغربية، فإنَّ موضوع هذه العبارات لا يتعلَّق بجمال بلاد الشام المتناقص، بل يتعلَّق -بشكل يشبه أسلوب التعليم الوعظي- بالأسباب المفترضة للنزاعات في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين. أمَّا أسلوب الإلقاء الذي يبدو احتفاليًا، مرة بنبرة اتِّهام ومرة مشجعًا، فمن المفترض أن يوحي على الأرجح بأهمية فنِّية شديدة وبتناقض شعري، غير أنَّه لا يستطيع مع التركيز في كلمات النَصِّ إخفاء فراغ هذه العبارات من المعنى.
يعرف المشاهد بشكل مدهش أنَّ في سوريا "حربًا لا منطقية" مندلعة منذ ثلاثة أعوام. هذا معروف - ولكن هل توجد حرب "منطقية"؟ يأمل المشاهد عند هذه النقطة أن تكتفي مؤلِّفة هذا العمل ريحان يونان بهذا القدر. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، حيث يأتي ما هو أسوأ من ذلك وتواصل إلقاء عباراتها: "حرب اخترقت الأبواب خلسة". لا ريب في أنَّ المستمعين سيفكِّرون وهم يهزون رؤوسهم مستنكرين: حرب تخترق الأبواب بهذه البساطة، هذا أمر لا يجوز. فلو أنَّ الحرب لم تأتِ خلسة وطرقت على الباب، لكنَّا سنستقبلها بفنجان قهوة عربية!
يشعر المشاهد أنَّ هذا الخطاب لا يمكن أن يتحسَّن، ويحدث ما هو متوقَّع: "حرب لم تعرف البداية، حرب تحلم بنهاية". هذا صحيح! فهذه حرب من دون بداية ومن دون بادئ! وكيف يمكن للمرء أن يفكِّر أيضًا في أنَّ هناك شخصًا من الممكن أن يكون مسؤولاً عن هذه الحرب؟ لعله نظام الأسد، الذي أمر قبل نحو أربعة أعوام من الآن بإطلاق النار على ثورة كانت في البداية سلمية ولا يزال يقول منذ ذلك الحين بكلِّ تأكيد إنَّ جميع المعارضين إرهابيون؟
وبعد القسم الخاص بسوريا تتناول المغنِّية ريحان يونان -غير الموهوبة صوتيًا على الإطلاق- وبنفس الأسلوب الكاذب والمزيَّف موضوع الأزمات والصراعات في كلّ من العراق ولبنان وفلسطين. والمذنبون في هذه الأزمات هم دائمًا -مثلما تقول- الآخرون: القوى الاستعمارية في القرن العشرين، إنكلترا وفرنسا والولايات المتَّحدة الأمريكية. وكأصل للصراعات والأزمات يتم استحضار فلسطين - وكيف يمكن أن يكون الأمر مختلفًا. تقول ريحان يونان: "فلسطين - بوصلة القضايا، أكبرها وأقدمها".
كلمات تذكِّر بلهجة الأسد
ولكن بعد ذلك يظهر فجأة في الأفق بصيص من الأمل: الأمَّة العربية المتجدِّدة، في حدود جديدة وبأمل جديد. غير أنَّها لا تقول من أين سيأتي هذا التجديد. ولكن مع ذلك من الممكن للمرء أن يتصوَّر ذلك، فتحليل ريحان يونان الضمني ولهجتها وكلماتها الملتوية تشبه إلى حدّ كبير اللهجة التي يستخدمها أحيانًا في التأثير على الرأي العام الناطق بالعربية الرئيسُ السوري بشار الأسد - الذي لا يزال حاكمًا.
في العالم العربي تم تلقِّي رسالة السلام هذه جزئيًا بالشكر والامتنان. ولكن على العكس مما توهم به معظم وسائل الإعلام الغربية، توجد أيضًا انتقادات شديدة وعلى الأرجح أنَّ معظمهما مُبرَّرة. ففي مقال طويل ومفصَّل حكم الإعلامي اللبناني الساخر والمحبوب نديم قطيش على هذا العمل بأنَّه "ساذج وغبي". غير أنَّ نديم قطيش يعمل في الواقع لصالح قناة الحريري، تلفزيون المستقبل، وهو بالتالي غير مستقل استقلالاً تامًا من الناحية السياسية.
ولكن حتى الناس العاديون في الشارع يرفضون هذا الفيديو. فهو "عمل ليس على المستوى الفنِّي وليس جديدًا أيضًا"، مثلما قال في حوار مع موقع قنطرة لاجئ سوري يعيش في برلين: "كما أنَّ التوزيع الموسيقي فيه مثير للاشمئزاز، والغناء يبدو مصطنعًا وكاذبًا".
وعلى أية حال لا بدَّ من القول، بحسب تعبيره، إنَّ تسريحتَي شعرهما -ومكياجهما- مرتَّبتان وجميلتان جدًا: "ولكن هذا كلُّ شيء". تتحدَّث طالبة سورية تعيش في المنفى في مدينة كولونيا الألمانية بصيغة أوضح: "لا يمكن لنا أن نُغنِّي حول السلام في سوريا، من دون أن نُسمِّي المسؤولين عن المأساة. والمسؤول الرئيسي هو نظام الأسد".
صنَّف ناشطو المعارضة السورية فيديو السلام المفترض هذا ضمن محيط الدعاية المؤيِّدة للأسد. "في اللحظة الأولى وقبل كلّ شيء اعتقدنا أنَّ هاتين السيِّدتين معنيَّتين حقًا بالسلام"، مثلما يقول ناشط سوري من المجموعة المسرحية المنفية والمستقرة في إسطنبول، فرقة خطوة الفنِّية. ويضيف: "لكننا اكتشفنا بعد ذلك أنَّ هاتين الشابتين أجرتا مقابلة مطوَّلة حول مشروعهما هذا مع التلفزيون الرسمي السوري. وهذا يعني بالنسبة لنا أنَّهما تتعاطفان مع نظام الأسد، فالتلفزيون الرسمي السوري يقوم بدعاية للنظام ويستخدم مثل هذه المساهمات في دعايته".
هجوم مضاد ساخر
ومن جانبها واجهت فرقة خطوة الفنِّية هذا العمل بتسجيل فيديو ساخر، موجود منذ الـ22 من شهر تشرين الأوَّل/ أكتوبر 2014 بإصداره الحالي على موقع يوتيوب وقد تمت مشاهدته حتى الآن أيضًا أكثر من مائة ألف مرة. في محاكاة ساخرة يقوم ممثِّلان ملتحيان بتقليد السيِّدتين - في كلِّ التفاصيل بشعر مستعار طويل وشفاه مطلية بأحمر الشفاه الفاقع وعيون مرفوعة ببراءة ساذجة.
وحتى أنَّ تطاير خصل الشعر جاء مضبوطًا. يوضح الممثِّلان في شريط قصير جدًا مدَّته دقيقتين وبسخرية كبيرة، كيف يفهمان رسالة السلام المفترضة التي يدعو إليها فيديو الشقيقتين يونان. يلقي الممثِّل الأوَّل هذه العبارات: "سوريا - بضعة من المندسِّين خرجوا ليحرقوا ويدمِّروا بلادنا". فيشكي الممثِّل الثاني بأسلوب يمزِّق القلب: "يَحْـرِقـُــــووووووهــــــا".
ثم يتابع الأوَّل: "ساعدتهم دول الاستعمار… ونشروا الرعب والخوف في قلوب الأبرياء… رغم ذلك وعدهم قائد الوطن بالإصلاحات والعفو عنهم... لكنهم أصرُّوا على الإرهاب وترويع المواطنين واتَّهموا سيادته بأفعال هو بريء منها. عَـــظِـــيـــم يا قائد الوطن. الدكتور . القائد . المفدَّى . الرئيس . بشار حافظ الأسد: كـوَيِّـسْ، بس يلي حاواليه عَــرْصـَــات... عَــــــرْررررصـَــــــات".
ولكن على الرغم من جميع الاتِّهامات، فحتى الآن لا توجد أية أدلة على أنَّ فيديو الشقيقتين يونان هو في الحقيقة انقلاب على الدعاية لنظام الأسد. قالت الشقيقتان في العديد من الحوارات والمقابلات إنَّهما لا تريدان الدخول في أي نقاش حول هذا الموضوع. ولكن الحقيقة هي أنَّ الرسالة التي يحملها هذا الفيديو مطابقة تمام المطابقة من حيث المضمون لنهج دعاية نظام الأسد: حيث يتم توجيه التركيز فقط على الفظائع التي يرتكبها تنظيم الدولة الإسلامية وعلى دول الخارج، بينما لا يتم ذكر مسؤولية نظام الأسد بأي حرف.
وليس هذا وحسب: إذ يجب على الفريق المشارك في إنتاج فيديو "لبلادي" - والذي يضم أيضًا بالإضافة إلى الشقيقتين يونان بعض الخبراء الإعلاميين المبتدئين الشباب من لبنان والعراق وفلسطين - أن يدعنا علاوة على ذلك نطرح عليه أيضًا السؤال، عما إذا لم يكن هدفهم الحقيقي هو التسويق الذاتي إلى جانب رسالة السلام المفترضة. هذا العمل ليس مرفوضًا في حدِّ ذاته، ولكن على الأقل لا بدَّ من ذكر ذلك.
مارتينا صبرا
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: قنطرة 2014