مهاجرون منهكون في بلغراد وخدمات شبه معدومة
وسط العاصمة الصربية، تتجاوز الحافلات الكبيرة الملونة السيارات المزدحمة لتركن في ساحة المحطة الرئيسية التي يصل إليها المسافرون من مختلف المدن، وتنطلق منها رحلات يومية باتجاه مناطق الشمال الحدودية مع هنغاريا ورومانيا وكرواتيا، فيما تتكأ امرأة أربعينية على شاب بجانبها يساعدها على الوقوف، بينما تتحدث على هاتفها المحمول وهي تحاول أن تقف باستقامة متغلبة على آلام قدميها المليئتين بالجروح الظاهرة رغم محاولتها تغطية بعضها بضمادات صغيرة.
"وصلنا للتو إلى بلغراد"، يقول الشاب السوري بينما يتقدم بخطوات ثقيلة برفقة المرأة التي تجر قدميها فوق خف صيفي مفتوح، وشابين آخرين يحمل كلا منهما حقيبة ظهر صغيرة، "أمضينا أسابيع طويلة على الحدود بين تركيا وبلغاريا وصولا إلى هنا"، يلتقط أنفاسه محاولا أن يزيد من سرعة خطواته داعيا أصدقاءه للاتجاه إلى اليمين قبل أن ينهي حديثه مع فريق مهاجر نيوز قائلا "عذرا الحافلة ستغادر بعد دقائق قليلة إلى الشمال، علينا اللحاق بها".
تزداد الحركة في محطة الحافلات ويهرع عشرات المسافرين إلى الحافلة المتجهة إلى مدينة سومبور شمال صربيا، فيما تجلس مجموعة من أربعة شباب على مدرج صغير، تلاحق أعينهم حركة المارين. يقول محسن "لم نستطع المغادرة للأسف، لم يبقَ لدينا مال لشراء تذكرة الحافلة"، يبتلع الشاب المغربي ما تبقى لديه من ماء في زجاجته الصغيرة مضيفا، "وصلنا إلى بلغراد قبل يومين، وأمضينا ليلتنا في حديقة مجاورة، لكن الشرطة أتت في الصباح وطردتنا مع باقي الأشخاص.. لا يوجد فعلا أي مكان آخر يمكننا الذهاب إليه".
بعدما أمضى محسن البالغ من العمر 26 عاما ثلاثة أشهر من "محاولات العبور المنهِكة والعنيفة من تركيا إلى بلغاريا وصلنا أخيرا إلى صربيا"، يقاطعه صديقه أشرف (20 عاما) مطلقا ضحكة ساخرة "والآن سنبدأ رحلة عبور جديدة، لكننا ننتظر الحصول على بعض المال من العائلة أو الأصدقاء".
غياب خدمات الدولة - "على الجمعيات سد الثغرات ومساعدة المهاجرين"
تحولت صربيا خلال الفترة الأخيرة إلى بلد عبور رئيسي على خارطة طريق دول غرب البلقان، لا سيما لكونها تشترك بحدود طويلة مع هنغاريا وكرواتيا، العضوتين في الاتحاد الأوروبي. ووفقا لوكالة حرس الحدود الأوروبية "فرونتكس"، يعد طريق غرب البلقان من "أكثر طرق الهجرة نشاطا" إلى أوروبا، حيث سجلت أكثر من 19 ألف محاولة عبور خلال شهر سبتمبر/أيلول 2022.
الشباب المغاربة وجدوا أنفسهم مشردين كغيرهم من عشرات الأشخاص من مختلف الجنسيات الذين يصلون إلى العاصمة بلغراد، حيث بات النوم في الحدائق المجاورة لمحطة الحافلات أمرا شائعا، ففي العاصمة ليست هناك أماكن كافية لاستقبال الوافدين الجدد الذين لا تتوفر لهم أدنى الاحتياجات الأساسية أو حتى المعلومات.
مركز الاستقبال الوحيد في المنطقة يقع على أطراف المدينة ولا تصل إليه وسائل النقل العامة، يعاني من اكتظاظ كبير وينام حوالي 300 شخص خارجه. وبحسب الأرقام الرسمية، يوجد في مختلف أنحاء صربيا حوالي 17 مركز استقبال بِطاقةٍ استيعابية لا تتجاوز الستة آلاف، فيما يوجد حاليا في البلاد حوالي 10 آلاف مهاجر، الجزء الأكبر منهم يتركز في الشمال.
محمد، شاب سوري يبلغ من العمر 30 عاما، أمضى الليلتين السابقتين في المركز لكن الاكتظاظ الشديد هناك وظروف العيش المتدهورة إضافة إلى سوء النظافة وانتشار الجرب، كلها أمور دفعته للخروج خلال النهار بحثا عن أي منفذ علّه يستطيع أخذ قسطٍ من الراحة بعدما أنهكته رحلة عبور الحدود من تركيا إلى صربيا مرورا بألبانيا وكوسوفو.
#Obrenovac,13/10/22.Više od 300 lica boravi/spava ispred centra za #azil, među njima i #deca bez roditelja(16). Svima nedostaju pravne informacije i pomoć.Navode da su ih službenici #KIRS sklonili unutar kampa od posete #EU delegacije prošlog petka, a potom izbacili napolje. pic.twitter.com/i53Jx0vPN5
— Azil u Srbiji Asylum Protection in Serbia (@APC_CZA) October 13, 2022
وبينما كان يجول شوارع العاصمة وعلى بعد حوالي 5 دقائق من المحطة الرئيسية، وجد عن طريق الصدفة ورقة معلقة على باب زجاجي كتب عليها بلغات عدة خدمات تقدمها جمعية "كولكتيف أيد" للمهاجرين، وللمرة الأولى شعر الشاب "بنوع من الارتياح" كما يقول، "فلا يوجد شيء في هذا البلد يجعلك تشعر بأنه مرحّب بك، كأنك مخنوقٌ طوال الوقت".
لا نستطيع تلبية الاحتياجات المتزايدة
في صالة صغيرة تحتوي على أربع غسالات ومجففات ملابس، تأخذ كلوديا ثياب شاب بينما تعمل زميلتها على توضيب أغراض آخر، فيما يجلس أربعة شباب أفغان حول مجموعة من القوابس الكهربائية لشحن هواتفهم المحمولة. وفي الجهة المقابلة سلم يؤدي إلى طابق علوي فيه أربعة أماكن للاستحمام وبعض أدوات النظافة الشخصية من صابون الاستحمام ومستلزمات حلاقة وثياب داخلية جديدة.
كريم، شاب أفغاني غادر كابول بعد سيطرة حركة طالبان على الحكم هاربا إلى تركيا ومنها إلى صربيا عبر بلغاريا، وفيما يمسك بهاتفه المحمول يشير إلى السروال الذي يرتديه قائلا "هذا كل ما أملكه إضافة إلى سترة أخرى وضعتها للتنظيف. لقد فقدنا كل شيء أثناء محاولاتنا المتكررة لعبور الحدود إلى بلغاريا".
مركز جمعية "كولكتيف أيد" افتتح في تشرين الأول/أكتوبر 2022، وتقول المتطوعة كلوديا إنه منذ حوالي أربعة أشهر ازدادت أعداد العابرين بشكل ملحوظ، وتوضح أنه "منذ حزيران/يونيو 2022، يأتي إلى مركزنا حوالي 100 شخص يوميا، لكننا فوق طاقتنا الاستيعابية ولا نستطيع تلبية الاحتياجات المتزايدة، أمس مثلا أتى إلى مركزنا 20 شخصا لم نتمكن من مساعدتهم، لم تكن هناك أماكن متاحة".
بلغراد - محطة توقف إجبارية لتنظيم الرحلة
باتت العاصمة بلغراد وكأنها محطة توقف مركزية وإجبارية تربط الجنوب بالشمال، يصل إليها أغلب المهاجرين منهكين من رحلة العبور ويمضون فيها إما ساعات قليلة أو أسابيع عدة ريثما يضعون خطة لإكمال طريقهم إلى دول الاتحاد الأوروبي.
تتقاطع شهادات المهاجرين وأقوالهم أثناء لقاء فريق مهاجر نيوز لوصف مشاهد مرعبة من العنف المتكرر الذي تعرضوا له على يد حرس الحدود البلغاري أو اليوناني قبل وصولهم إلى بلغراد، "ضرب بالهراوات، سرقة هواتف، إطلاق نار في الهواء...". لكن ورغم الإنهاك الشديد من رحلة العبور إلا أن البقاء في صربيا لا يبدو خيارا.
المحامي نيكولا كوفاتشيفيتش المتخصص بقانون اللجوء يقول لمهاجر نيوز "صربيا بلد عبور لكن نظام اللجوء في البلد لا يشجع الأشخاص على البقاء هنا، فلا توجد سياسة لإدماج أو دعم اللاجئين وإمكانيات الدولة محدودة جدا. توجد ثلاثة مكاتب لتقديم اللجوء ويبقى على المنظمات الإنسانية تحمل العبء الأكبر وسد الثغرات في تقديم الدعم القانوني والرعاية الصحية مثلا. صحيح أن صربيا دولة فقيرة، لكن السلطات لا تقدم حتى الحد الأدنى من الدعم".
لا بد من الخروج لا مجال للبقاء هنا
وبينما يقف محمد بانتظار دوره لتنظيف القليل من الملابس المتبقية معه بعد رحلة العبور، يؤكد على رغبته بإكمال طريقه بحثا عن حياة استقرار في دولة أوروبية بعدما أمضى حوالي عشرة أعوام في مدينة إسطنبول التركية حيث "باتت الحياة لا تطاق. فلا يوجد هناك أفق ولدينا خوف دائم من الترحيل إلى سوريا. أنا لدي طفلة أتمت أعوامها الأربعة، وأخوض هذه الرحلة من أجل تأمين مستقبل لها".
وتجهيزا لباقي رحلة العبور، "سأبقى قليلا هنا وأحاول تجميع بعض المال عبر تصفيف شعر المهاجرين في المخيم، فأنا كنت أعمل كحلاق في تركيا وربما أستفيد من مهارتي لتجميع مبلغٍ قليلٍ يعينني على إكمال رحلة العبور إلى هنغاريا أو كرواتيا. أما البقاء في صربيا فهو ليس خيارا أصلا، لا يوجد شيء هنا.. لا بد من الخروج لا مجال للبقاء".
وفقا لتقديرات جمعية "كليكاكتيف" المحلية التي تقدم الدعم للمهاجرين، في العام 2021 عبر صربيا حوالي 60 ألف شخص، فيما ارتفعت الأرقام خلال الأشهر الماضية ووصل عدد المهاجرين الذين مروا عبر صربيا منذ بداية العام الجاري 2022 وحتى أيلول/سبتمبر 2022 إلى 90 ألف شخص، أغلبهم من سوريا وأفغانستان والمغرب وتونس.
يستنكر منسق الجمعية فوك فوكوفيتش غياب الدعم الرسمي، قائلا "الأشخاص عندما يصلون إلى صربيا ليست لديهم أدنى فكرة عن حقوقهم والسلطات لا توفر أي نوع من المعلومات لمساعدتهم على فهم الخيارات المتاحة أمامهم، لذلك نحاول الذهاب إلى أماكن تجمع المهاجرين لتقديم الدعم لهم في حال كانوا يريدون تقديم اللجوء مثلا، أو لِفَهم حقوقهم. أغلبهم يصل في حالة ضياع كاملة منهَكين من السير والنوم في الغابات".
دانا البوز - موفدة مهاجر نيوز إلى صربيا
حقوق النشر: موقع مهاجر نيوز 2022