المسلمون في أوروبا: الاندماج أم الذوبان؟
السيدة، أمير- معظمي، بداية، فإن كلمة "اندماج" لها دلالات إيجابية، فما الذي تنتقدينه في "الاندماج"؟
شيرين أمير - معظمي: الاندماج بالتأكيد أفضل من الإقصاء الصريح للمهاجرين أو عزلهم. عندما ألقي نظرة نقدية على الاندماج، فأنا بكل تأكيد لا أريد أن أمدح ما يوصف عادة بأنه عكس الاندماج، أي: العنصرية أو الإسلاموفوبيا أو الإقصاء.
إذ إن هناك أيضًا استراتيجيات سياسية مختلفة جدًا مرتبطة بالاندماج. وهي تمتد من إجراءات تهدف إلى مشاركة المهاجرين -غير المشاركين بعد والأجيال التالية لهم- حتى تصل إلى فكرة أن المهاجرين والأجيال اللاحقة يجب أن يتكيفوا مع كيان كلي أيّاً كان شكله أو هيئته.
لقد صرت أنتقد النموذج الفكري للاندماج بعدما بحثت كيفية عمله في الممارسة الفعلية السياسية، وخاصة على مستوى الدولة في المجتمعات الأوروبية، وبالأخص في ألمانيا. لأنه لا يعمل في المقام الأول كإدماج، كما قد يبدو للوهلة الأولى، ولكنه يحتوي على آليات إقصاء ملموسة جدا.
ما هي هذه الآليات؟
أمير-معظمي: عند النظر عن كثب، يتضح أن نموذجا مثاليا من كُلٍّ سليم -لا مساس به- يتم تشييده، ويفترض أن يتم إدماج حواف مهمشة ينظر لها باعتبارها إشكالية داخل هذا الكل.
وعلى الرغم من أن مصطلح "الاندماج" في نشأته لم يكن له علاقة بالهجرة عندما ظهر لأول مرة، إلا أنه يتم استنفاره دائمًا عندما يتم الحديث عن أن المجتمع معرض للخطر ومتشرذم بسبب المهاجرين.
أي أن تفكك الرابط الاجتماعي في المجتمع يتم إسقاطه دائمًا على الآخر المهاجر. هذه الآلية هي التي أردتُ تناولها بالبحث في كتابي.
ومن المثير للاهتمام، أن الاندماج كبرنامج سياسي في هذا البلد كان يُستدعى للنقاش بشكل متزايد في الوقت الذي أصبح فيه المهاجرون جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الألماني.
وهذه مفارقة: فإذا كان المهاجرون يشاركون في المجتمع بعدة طرق مختلفة، فلماذا يجب دمجهم؟ وفي ماذا سيتم دمجهم؟
هل يفهم إذَنْ أن المجتمع وحدة واحدة، بينما هناك أشخاص يقفون في الخارج ويجب إدماجهم داخل هذه الوحدة؟
أمير-معظمي: بالضبط أو الأفضل أن نقول: هذه الوحدة يتم تصورها والتوق إليها، ويُفهم المجتمع على أنه كلٌّ شمولي، ويتساوى مع مفهوم الدولة القومية.
تحديدا، فكرة الأغلبية المثالية هذه تخلق أقليات يجب إدماجها داخل الجسم الاجتماعي إما من خلال الانضباط أو من خلال التربية. هذا النمط لديه أوجه تشابه واضحة مع مفهوم الإذابة الثقافية.
جعل الأقلية مشكلة
هل يمكن التفرقة بوضوح بين الاندماج والذوبان الثقافي؟
أمير-معظمي: سأحاول أن أوضح أننا نتحدث عن استراتيجيتين سياسيتين مختلفتين، لكن لهما تأثيرات متشابهة جدا في بعض الأحيان. الذوبان الثقافي في المجتمع له تاريخ مفاهيمي مختلف ومستمد في الواقع من علم الأحياء. الذوبان يعني امتصاص عنصر ما في كائن حي أكبر، وقد تسلل المفهوم من علم الأحياء إلى العلوم الاجتماعية. وفي سياق ظهور الدول القومية الحديثة، طُلب من الأقليات بعد ذلك ترك كل ثقلها الثقافي وراءها ودفع نفسها إلى الاندماج في الكيان القومي.
وعلى الرغم من أن مصطلح الاندماج المجتمعي هو مرتكِز على الذوبان في المجتمع، إلا أنه في ظل ظروف الحريات المؤسساتية الليبرالية، والتشابكات العالمية المتبادلة والمتزايدة وأيضًا في ظل انعكاس هذا الماضي الكئيب، فإن المصطلح له دلالات مختلفة. إذ يمكن أن يعني الاندماج أيضًا الاعتراف أو المشاركة. ولكن حتى هنا توجد حاجة إلى سلطة تدير الاعتراف أو المشاركة وتحدد شروط الاعتراف أو المشاركة.
هل هذا يعني أنه تحت مسمى الاندماج يحدث إقصاء؟
أمير-معظمي: عندما يتعلق الأمر بالمطالبة بالاندماج، فإنه يشار دائماً إلى الأقلية فقط على أنها المشكلة. وفي المقابل لا يتم الحديث عن الأغلبية. الأمر لا يتعلق فقط بالإقصاء، بل يتعلق أيضًا بوضع هذه الأقلية، الموجه إليها الخطاب على أنها مشكلة، على "الطريق الصحيح"، وتثقيف أفرادها وجعلهم مواطنين مطيعين ومسؤولين. أي يجب أن يصبح الآخرون كما كنا سنودُّ "نحن" أن نكون.
لكن هذا بالطبع يتضمن اقصاءً - لأن الاندماج، كما يقترح شعار الاندماج الذي يُستدعى غالبًا وهو: الدعم ثم الطلب -أي تقديم الدعم للمهاجرين ثم طلب المساهمة منهم- يرتبط دائمًا بشروط معينة. ومع ذلك، فإن هذه الشروط تتغير باستمرار، وهي تعتمد دائمًا على أولئك الذين يضعونها. فأحيانًا يتعلق الأمر بـ "ثقافة قائدة" أيّاً كان شكلها أو هيئتها، وأحيانا أخرى تكون مجرد مبادئ دستورية مجردة، ولكن عند تأملها عن كثب، نجدها مرتبطة أيضًا بالأعراف الاجتماعية. لذلك، لا نعرف أبدًا متى يتم اعتبار شخص ما مندمجًا حقًا.
إلى أي مدى توجد أنماط قديمة في هذا العمل هنا؟
أمير-معظمي: أثناء حقبة استيعاب اليهود في القرن التاسع عشر، كان بإمكان اليهود، نساء ورجالاً، وقتها أن يفعلوا ما يريدون، وأن يظهروا أنهم ألمان أكثر من كل الألمان، وأن يتخلوا عن كل التقاليد اليهودية ويتركونها وراءهم، بل وحتى أن يدينوها بصوت عالٍ. ومع ذلك ظلوا هم "اليهود الذين لا يمكن إصلاحهم"، كما قال المنظر الاجتماعي زيغموند باومان.
واليوم نرى شيئًا مشابهًا أيضًا. فعلى الرغم مثلا من أن أولئك المسلمين الذين يثنون بصوت عالٍ على التنوير ويمدحون الإنجازات الأوروبية، يُسمع صوتهم علنًا، لكن في نفس الوقت لا يزال يتم تصنيفهم وفقًا لـ "أصلهم" أو "منشأهم".
تقولين إنه وفقًا لنموذج الاندماج، يجب أولاً تربية المهاجرين وأحفادهم ليكونوا أفرادا ليبراليين ووصفتِ سياسة الحوار التي تنتهجها الدولة، كما حدث على سبيل المثال في مؤتمر الإسلام الألماني (DIK)، بأنها متسمة بالوصاية السلطوية. فلماذا؟
أمير-معظمي: أنا لا أنتقد مؤتمر الإسلام الألماني، كما لو أني كنت سأعارض الحوار في الأساس. على العكس من ذلك، الحوار أمر مهم وصحيح. ولكن الطريقة التي يجري بها الحوار كانت لديها منذ البداية نزعة وصائية سلطوية.
في افتتاح مؤتمر الإسلام الألماني في عام 2006، دعا وزير الداخلية آنذاك فولفغانغ شويبله (ينتمي للحزب المسيحي الديمقراطي) بأنه يجب على المسلمين في ألمانيا أن يصبحوا مسلمين ألماناً، مما يعني أن الإسلام في ألمانيا يجب أن يصبح إسلاماً ألمانياً. يبدو هذا للوهلة الأولى حسن النية، لكنه غريب في نفس الوقت، لأن معظمهم (معظم المسلمين) كانوا مواطنين ألماناً منذ فترة طويلة.
علاوة على ذلك، قام شويبله بعدها مباشرة بتسمية المشاكل التي أراد تناولها في الحوار وهي: "معايير الجندر الإسلامية"، "الحجاب"، "الإسلاموية". ولم يتحدث ولو كلمة واحدة عن مجتمع استغرق وقتًا طويلاً ليفهم نفسه كمجتمع هجرة، ولا أي كلمة عن العنصرية المتأججة أو العنصرية الواضحة في هذا البلد أو عن شروط البداية الاجتماعية غير المتكافئة لـ "الحوار القائم على قدم المساواة".
التقصير ينسب دوما للمهاجرين فقط
منذ البداية، كان العيب دائما على الآخرين. وبرغم أنه قد تمت دعوتهم للحوار بعبارات التحية والترحيب، ولكن لماذا يجب أن يتم أصلا الترحيب بأشخاص عاشوا هنا منذ أجيال؟
من الواضح بالفعل من تركيبة مؤتمر الإسلام الألماني أنه فعالية تهدف إلى ترويض المسلمين. ويعود تاريخ هذا المؤتمر إلى أوتو شيلي وزير الداخلية الأسبق من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي فكر في فكرة هذا المؤتمر بعد 11 سبتمبر 2001 كحوار أمني في الأساس. لذلك كانت هذه الناحية الأمنية أمرا محوريًا منذ البداية. وبالمناسبة، فقد تحدث شيلي وقتها بدون لف ودوران عن "الذوبان" الثقافي.
ورغم أن الأمر كان يتعلق أيضًا بالاعتراف بالمسلمين - على الأقل اعترافا سياسيا رمزيا، وليس بالضرورة حول الاعتراف القانوني بالإسلام، ولكن البعد الأول والأهم كان هو السياسة الأمنية.
"ترويض" هي كلمة متسمة بالشدة. فكيف يبدو المسلم المنشود؟ وهل يمكن أن يظل ساعتها مسلما أصلا؟
أمير معظمي: لن أنكر على أحد كونه مسلما. هناك أشكال مختلفة جدًا لأن تكون مسلمًا. ولكن من الواضح أن الأصوات التي تنجح في جعل نفسها مسموعة علنًا وسياسيًا هي على الأرجح تلك الأصوات التي تمدح الإنجازات الأوروبية بدون أي انتقاد، باستثناء الاستعمار أو العنصرية.
التصور الذهني الذي يفترض ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون عند اندماجهم يعتمد على قائمة أمنيات لا علاقة لها بالواقع الاجتماعي. تصور مثل "دين مُروَّض" أو "دين علماني"، أي أن التصورات التي يطالب بها المجتمع الألماني لنفسه، يتم إدراجها فقط في سياق المؤتمرات الحوارية مثل مؤتمر الإسلام الألماني، بينما ينظر إلى الآخر على أنه ما زال غير متوافق وناقصا وأنه ما زال غير كفء بعد لتلبية هذه المتطلبات.
الروايات الأخرى لا تُسمع إلا قليلا
في مناظرة الاندماج، تُطرح الأسئلة نفسها مرارًا وتكرارًا، انظري ما وقع مؤخرًا بعد أحداث شغب ليلة رأس السنة في برلين. حيث قيل بعدها إن المسلمين غير متوافقين مع المجتمع لكونهم مسلمين، بينما يتم تجاهل العوامل الاجتماعية المسببة للمشاكل. هل ترين فرصة لتجاوز هذا الممر الضيق؟
أمير-معظمي: أرى بالتأكيد إمكانيات لإجراء تناول نقدي لهذا الخط الأحادي من الأسئلة ولـ "أسلمة" المشكلات الاجتماعية. لقد ناقش البحث العلمي هذا الأمر بشكل نقدي لفترة طويلة، كما يتساءل بعض الفاعلين المسلمين عن ذلك. ولكن هناك أيضًا الخطاب الإعلامي، الذي يبدو أنه يزداد تشددًا، كلما زاد النقد الموجه لإطار ذلك الخطاب.
النقاش الإعلامي عن الإسلام نقاش هدّام، لكن هناك أيضًا رأي عام مضاد يناقش وجهات نظر نقدية أو غير استعمارية أو يسمي العنصرية باسمها، وأحيانًا يُبَث بعض من ذلك في وسائل الإعلام الرئيسية.
نحن بحاجة إلى إلقاء نظرة أكثر انتقادًا على الظروف الاجتماعية والسياسية التي هاجر فيها المسلمون إلى أوروبا ويعيشون في ظلها. ولكن بدلاً من ذلك، يتم إلقاء مصطلحات جوفاء مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والسؤال الوحيد المطروح هو كيف يجب أن يتفاعل المسلمون معها. ولا يُسمع علنا إلا عدد قليل جدًا من أصوات المسلمين التي من شأنها أن تنقل روايات أخرى.
لكن مثل هذه الأصوات موجودة بالفعل.
أمير معظمي: هذه الأصوات موجودة بالتأكيد، لكنها لا تُسمع، وأعتقد أن هذا يرتبط ارتباطا وثيقا بحقيقة أن الإطار الكبير والشروط المبدئية غير المتكافئة التي تفرضها الجهات القائمة على تفسير الأمور لا يتم إمعان التفكير بها. ويدخل ضمن هذا الإطار أيضًا حقيقة أن الدولة الدستورية العلمانية ليست محايدة، بل تتغلغل داخلها امتيازات مسيحية.
إذا تم ذكر الشروط المبدئية غير المتكافئة بشكل أوضح، فقد نصل إلى مزيد من المساواة. ولكن بدلاً من ذلك -ورغم أنه- يتم بإلحاح التأكيد مرارًا وتكرارًا بأننا "نحن جميعًا متساوون ويمكننا جميعًا الاستفادة من نفس الحريات الليبرالية" إلا أن هذا لا يحدث من الناحية العملية.
ما الذي يمكن أن يغيره نقد نموذج الاندماج في التطبيق العملي؟
أمير- معظمي: إذا أصبحنا على دراية بالاختزال المتعلق بمفارقة الاندماج يمكننا أيضا أن نسأل أنفسنا ما الذي يمكننا تغييره. مثل هذه التغييرات تحدث بالفعل، ولكن لا تزال هناك ردود فعل عسكية في تلك المواقف التي نعايش فيها ردود فعل جماعية عنيفة: إذ لا يمكن معالجة عدم المساواة الهيكلية بتدخلات الاندماج التجميلية.
ونظرًا لوجود حديث دائم عن المعاملة بالمثل، فيجب تطوير أخلاقيات استماع أفضل جنبًا إلى جنب مع مساءلة نقدية للذات. وبدلاً من التساؤل باستمرار عما إذا كانت الأقليات الدينية قادرة على التكيف، يجب طرح السؤال عن كيف يمكن لدول قومية أوروبية أن تنصف التعددية المتنامية دون المطالبة مرارا وتكرارا بنواة قومية في النهاية.
حاورتها: كلاوديا مينده
ترجمة: صلاح شرارة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
شيرين أمير-معظمي أستاذة في معهد الدراسات الإسلامية بجامعة برلين الحرة، تُجرِي أبحاثًا حول السياسات الدينية في أوروبا والعلمانية والنظرية السياسية وقضايا النوع الاجتماعي والحركات الإسلامية في أوروبا.