فرعون مصر "الثوري" إخناتون..."إمام الموحدين"
في عام 1979 التقى الموسيقي فيليب غلاس بزميل مهنته راسل ديفيز في فيرمونت الأمريكية وهناك نشأت لديه فكرة إعداد أوبرا حول الملك الفرعوني إخناتون الذي أُعجب كلاهما بشخصيته وأفكاره الإصلاحية في السياقين الديني والمجتمعي. رأى غلاس الذي تأثر أيضا بفلسفة الهند وفنها الموسيقي بأن هناك قاسما مشتركا بين إخناتون من جهة وغاندي وآينشتاين من جهة أخرى، فهؤلاء العمالقة في نظره غيروا ،كلٌ في مجال تخصصه وممارسته النظرية والعملية، العالم على نحو مستدام علميا وتربويا وأخلاقيا. لا شك أن الملك الشاب الذي بلغ عمره 17 عاما عندما استلم زمام الحكم باء في النهاية بالفشل، حيث عادت الأمور بعد إطاحته من الحكم إلى تركيبها الأصلي التقليدي. وعلى الرغم من ذلك فقد اتسمت أجندته الإصلاحية في سياق المعتقدات الدينية والتفكير الاجتماعي -لا سيما بهدف إنشاء أسس قوية لدين جديد مبني على عبادة الإله الواحد في القرن الرابع عشر قبل المسيح- ببعد النظر وسداد الرؤية الدينية والمجتمعية. "إخناتون... الفرعون الذي منع تعدد الآلهة"
من أسباب فشل حكم إخناتون أنه لم يعبأ بتشكيل تحالفات سياسية لا في الداخل ولا في المحيط الإقليمي. فعندما داهمته أخطار الإطاحة بحكمه بعد أن شيد مدينة بالكامل على أرض الصحراء لم يجد حليفا يقف بصفه ويصد معه هجمات أعدائه الكثيرين داخل الدولة. وكانت حجة خصومه الكبرى أن إخناتون دنس المعتقدات الدينية الوطنية من خلال محاربته ومن ثم منعه لتعدد الآلهة. استخدمت في الأوبرا اللغة المصرية القديمة التي شابهت غيرها من اللغات الأفريقية والآسيوية كالعبرية والعربية والأرامية، كما جرت رواية الأحداث والوقائع التاريخية باللغة الألمانية. جاء إخراج هذه الملحمة بداية ونهاية على نمط تربوي. ففي الفصل الأول كان المدرس يشرح لتلاميذه تفاصيل وأمجاد حضارة مصر القديمة، فيما انهمك التلاميذ بالتهريج واللعب والعبث لكن إصرار المدرس على نقل هذه المادة الدراسية إلى أذهان ويقين تلاميذه جعلهم في آخر المطاف يولعون بالحضارات القديمة، وبشخصية إخناتون التي أسهب المدرس في وصف وتحليل معالمها.
ولم تظهر الأوبرا المسرحية إخناتون بصفة الإله أو القديس المعصوم من الأخطاء فبالإضافة إلى سرد صفاته الحميدة وبطولته ونزعته الإصلاحية اتضح الوجه الآخر من شخصيته. فقد كان معتزا بالنفس ولم يعتبر تكريس السلام هدفا يذكر لحكمه، بل على عكس ذلك كان من الغزاة المثيرين للرعب في نفوس الأعداء والخصوم، كما أنه عشق أسباب الحياة العذبة فتمتع بها حتى الثمالة.
الشر...أحد أهم عناصر التصرف البشري المؤدية إلى الحروب يخلص من نصوص هذه الأوبرا أمر يبدو بسيطا وبديهيا، إلا أنه يعكس الواقع في الماضي البعيد والقريب وفي عصرنا هذا، وهو أن الشر يشكل أحد أهم عناصر التصرف البشري ويؤدي بالتالي إلى الحروب والدمار وغير ذلك من ويلات الحياة. لا تتسم الموسيقى التي ألفها فيليب غلاس بطبيعة الحال بالطابع الكلاسيكي على نمط ما عهدناه في الأوبرا الإيطالية (فيردي أو بوتشيني أو روسيني) أو التي شهدناها في أعمال موتزارت أو فاغنر. وهذا لم يكن متوقعا من فنان موسيقي ولد في عصرنا -أي تحديدا عام 1937- وما زال على قيد الحياة. في نفس الوقت لم يقدم غلاس عملا موسيقيا مسرفا في التحديث على نحو ما يسمى مثلا بالموسيقى الإلكترونية، بل جاءت موسيقاه مزيجا شيقا ممتعا بين الأوبرا الكلاسيكية والتحديث المقبول والمعقول. ورغم أن ألحانه اتسمت بنمط معين من الرتابة إلا أن ذلك لم يقلل من جمال وروعة وقعها على السمع والنفس.
هنا يمكننا مقارنة هذا النمط بموسيقى عصر الباروك التي اتسمت في آن واحد برتابة الأداء وعظمة الوقع الموسيقي كما هو الحال لدى باخ الألماني وفيفالدي الإيطالي. إخناتون..."إمام الموحدين" كان الباحث في دراسات مصر القديمة محمد زكريا ابراهيم قد وصف الملك الفرعوني إخناتون بأنه "إمام الموحدين" فقد بنيت رسالته المجتمعية بل ثورته اللاهوتية على ضرورة نبذ عبادة الآلهة والتحول نحو الإيمان بإله واحد. علما بأن المجتمع المصري كان في تلك الحقبة يعبد مئات الآلهة حاله حال قبائل شبه الجزيرة العربية قبيل ظهور الإسلام. كما اتسم ذلك المجتمع بالتمسك الشديد بأعراف وتقاليد وعادات نشأت قبل مئات السنين دون أن يطرأ عليها أي تغيير أو إصلاح يستحق الذكر. تعين على إخناتون مقاومة السلطة المستبدة لملوك الفراعنة الذي انتمى بنفسه إليهم.إخناتون الإصلاحي نوعا والثوري نوعا آخر يشير محمد زكريا إبراهيم إلى أن تمسك قدماء المصريين بتقاليدهم وعاداتهم القديمة تعود لكون العوامل الطبيعية لوادي النيل ثابتة غير متغيرة في أغلب الأحيان فالمناخ دوما مبني على صفاء السماء واعتدال الجو، كما أن الفيضان يقع على نحو منتظم متكرر في نفس موعده. الجدير بالذكر أن المصريين في عصرنا اليوم رغم إيمانهم بالله الواحد إلا أنهم يعمدون إلى زيارة أضرحة الأولياء الصالحين ولعل ذلك من الآثار التقليدية الحية لمعتقداتهم القديمة على حياتهم المعاصرة.
هذه الظاهرة لا تقتصر على المصريين بل تشمل شعوبا مسلمة عديدة أخرى من أقصى المغرب العربي حتى أطراف أندونيسيا. أما إخناتون الإصلاحي نوعا والثوري نوعا آخر فقد رأى بأن قواعد التطور تتطلب التغيير على نحو دوري مستدام. ويقال إن النبي موسى تأثر بأفكار إخناتون بشأن وحدانية الله وارتكز عليها في سياق ظهور الديانة اليهودية.ومما لا شك فيه أن الدينين السماويين الآخرين أي المسيحية والإسلام تأثرا أيضا بتلك الأفكار، مما أسبغ عليهما طابع الوحدانية التي اتضحت بالإسلام على نحو خاص. أنجبت قرينة إخناتون الملكة الجميلة نفرتيتي على حد اعتقاد بعض المؤرخين الملك الفرعوني الشهير تون عنخ آمون، الذي لم يُكتب له أن يعيش حياة طويلة وكان رغم ذلك من كبار المبدعين في صفوف الملوك الفراعنة. صفات إخناتون "الثورية" من الصفات "الثورية" لعهد إخناتون خلافا للملوك الآخرين الذين سبقوه أو خلفوه أنه أراد وضع الأمور في سياقها الطبيعي، حيث رفض هيمنة العامل الجمالي على عنصر الواقعية الطبيعية.
فبينما تطلبت الأعراف السائدة من الرسامين إبراز صور ملوك الفراعنة كما لو كانوا صورة مطابقة للقوة والعظمة والبراعة في المفهوم المثالي والخيالي، فرض إخناتون على رسامي عصره نقل صورة "حقيقية" عن شكله ونمط حياته بعيدا تماما عن المثالية الجمالية. بالإضافة إلى كل ذلك كان إخناتون الملك الفيلسوف الذي استنبط منه أفلاطون بعد ألف عام فكرة الدولة التي يتحكم بموازينها ملك فيلسوف عادل. يرى الباحث راينهارد شولتسه بأن العلاقة بين العنف والأديان لا ترتبط بدين سماوي ما أو بدين آخر بل لها خاصية أكثر شمولية. ويبرر ظاهرة العنف التي تطرقت إليها الأوبرا تفصيلا في حالة الأديان السماوية بكون كل منها يري بأنه الدين الأكثر مشروعية والحائز على الحقيقة المطلقة. أما الباحث فإنه ينفي وجود حقيقة مطلقة للمعتقدات في المنظور الميتافيزيقي. عارف حجاجحقوق النشر: موقع قنطرة 2018ar.Qantara.de