رواية عن عوالم جالية عربية مسلمة في شارع برليني
«ربما تبدو هذه الحكايات لبعضكم خرافية أو عبثية، ولكنها كانت بالنسبة لأولئك الناس حياة حقيقية ويؤمنون بأدق تفاصيلها، وأؤكد لكم بأن درجة صدقها عندهم لا تقل عن درجة صدق النظريات بالنسبة للعلماء» (عبد الحكيم شباط، رواية شارع بودين، ص 20-21.)
مما لاشك فيه أن قارئ رواية شارع بودين، الصادرة عن دار الدليل للطباعة والنشر ببرلين (2017)، يلمس جرأة مؤلفها السوري عبد الحكيم شباط في ولوج العلب السوداء وتشخيص أمراض الحضارة وتعرية أعطاب التاريخ، وفق رؤية فلسفية نقدية تحفر في الذاكرة وتنبش في الموروث لأجل اقتفاء أثرهما في تشكيل الوعي الفردي والجمعي معا.
فمن خلال السفر في عوالم هذه الرواية والتجوال في دروبها الملتوية، تتقاذف القارئ وتستوقفه مجموعة من الأسئلة من قبيل : كيف يمكن للتأملات الفلسفية أن تخترق الإبداع وتنتج نصا روائيا يتناول الحاضر المضطرب؟ وإلى أي مدى يحضر الباحث الفلسفي في العمل الروائي؟ وبأي معنى يمكن فهم جدلية الفكر والواقع؟.
و في هذا الإطار يمكن الجزم بقوة الطرح الذي تفصح عنه الرواية انطلاقا مما تضمره من أسئلة مؤرقة وما ترصده من مصائر وحالات ومشاهد وأوضاع معيشية تختزن مصادفات ووجهات نظر متجاورة أحيانا ومتنافرة في أحايين أخرى. إلى جانب ما توفره من متعة حكائية وبصرية خاصة، ولما تقدمه من نكهة وتشويق يتكشفان في اعتماد المؤلف على بناء هندسي سردي قائم على ما يعرف بتقنية التناوب الملائمة تماما لخصوصية تكوينها الحكائي المركب.
خصوصية تتبدى في ما نلمسه من انتقالات سردية دورية منتظمة بين مختلف شخصيات المتن الحكائي، بحيث يتكفل كل فصل بسرد جزء من حكاية شخصية روائية لننتقل بعده في الفصل الموالي للتعرف على مقابله في حكاية شخصية أخرى وهكذا دواليك.
وهذه التقنية السردية لا ينحصر مفعولها وأثرها الإيجابي طبعا في تمكين السارد من تغطية شاملة ومتزامنة لمجموع حكايات الشخصيات فقط، وإنما يتجاوزها لإكساب الرواية تلوينا وتشويقا خاصين يستحيل تحقيقهما باستعمال تقنية سردية أخرى، لا لشيء سوى لأن السارد وهو ينتقل من شخصية لأخرى -وبالتالي من حكاية لأخرى- يجد نفسه مضطرا لتنويع الرؤى السردية أيضا، مما يسهم في كسر رتابة وهيمنة الرؤية الواحدة ويضفي على الخطاب الروائي حيوية خاصة.
حيوية تنضاف طبعا لما يحدثه التوقف السردي المتعمد عند نقطة معينة في حكاية كل شخص، قبل العودة إليها مجددا بعد الانتهاء من سرد مقاطع مماثلة وموازية في حكايات الشخصية الأخرى من أثر إيجابي قوي على القارئ يتمثل أساسا في تأجيل رغبته الملحة في معرفة الأحداث اللاحقة إلى حين آخر.
إكراهات الواقع
وضمن هذا السياق ترتبط الرواية بفضاء شارع من شوارع برلين بما يعنيه هذا الفضاء جغرافيا وفكريا وعاطفيا ونفسيا للسارد وللشخصيتين الموازيتين له:
شخصية كارل أحد قاطني شارع بودين الذي يتحول بقدرة قادر من مسيحي يزور الكنيسة بانتظام إلى مسلم متدين تتكشف له عوالم الجالية العربية المسلمة في بودين وتتراءى له أحوالها التي تعتريها الكثير من التناقضات وتتجلى أبرزها في ذلك الخلط الخطير بين السياسة والدين، وتوظيف هذا الأخير لتحقيق أهداف ومصالح سياسية ولقضاء مآرب خاصة.
وشخصية عامل النظافة، كما يُدعى في الرواية، وهو شخص متعلم دارس للفلسفة أجبرته ظروف الحياة على العمل مستخدما في ملجأ للاستشفاء متنقلا بين غرفه سابحا في عوالم ساكنيه.
والواقع أن هاتين الشخصيتين ستعصف بهما دوامة الحياة و إكراهات الواقع نحو سبر مجموعة من المفارقات الفكرية والاعتلالات المجتمعية، التي عكستها ثلة من الحوارات وزمرة من الأحداث المفصلية التي تنساب داخل الرواية: ( حوارات عديم الاسم مع سركيس/ حوار كارل مع ملقاط / حكاية إرتاج / حوار كارل مع ابنته ماريا....).
كما تدفع بهما مجريات الزمن في الملجأ وشارع بودين نحو ملامسة العديد من الاختلالات القيمية والانتكاسات الثقافية عبرت عنها مجموعة الأفكار التي أوردها الكاتب في ثنايا نصه: ( هتك أعراض الأطفال/ الاسترزاق الديني/ العقلية الذكورية / الانغلاق الفكري...).
رِبْقَة أحكام مسبقة
وفي هذا النطاق ومما سلف ذكره ثمة ما يوحي إلى نوع من الامتداد بين هاتين الشخصيتين ( كارل وعديم الاسم) خصوصا على مستوى الصراعات والتناقضات التي تؤججهما وتوقد شرارتهما المفاجآت، التي تعتري عالمهما، وكذا على مستوى ما يضمره النص من دلالات ومعاني تبتغي نقد كل ما من شأنه أن يفرض الوصاية والحجر على العقل الإنساني، وكل ما من شأنه أن يرهن الوعي الإنساني في براثن التزييف وربقة الأحكام المسبقة وكذا المسلَّمات الجاهزة التي أكل عليها الدهر وشرب.
والحال أن هذا الامتداد إن دل على شيء فإنما يدل على رغبة خفية لدى المؤلف في إماطة اللثام عن قضايا وهواجس محددة تشغل عقله وتسكن باله وبال البرلينيين والمتمثلة في مسألة اندماج المهاجرين العرب الوافدين بأعداد كبيرة في الثقافة الألمانية، وسبل العيش المشترك بين الجميع كواجب أخلاقي يحقق شرط الانتماء للإنسانية.
ثم مسألة تزييف الوعي التي تطال عقول السواد الأعظم من الناس عبر الدعاية الكاذبة، التي تمنح الواقع الذي أمامهم شكلا معينا ونظرة مؤدلجة ومضللة تخفي الحقيقة وتحجبها. وهذا الوعي في الغالب يكون متحكما فيه من طرف قوى خفية أو ظاهرة تتحرك وفق أجندات مبهمة أو واضحة لأجل خلق وتثبيث حقيقة ما.
في الأخير يمكن أن نخرج بانطباع عام من الرواية مفاده قدرة الكاتب على النفاذ والحفر باللغة السلسة الحلوة في أدغال الواقع المر ليكشف لنا عن عوالم متشابكة ومسارات إنسانية متداخلة ومتقاطعة في شكل استعارات -نسينا أنها كذلك على حد تعبير الفيلسوف الألماني "نتشه"- تمزج بين الحقيقة والخيال، عمقها يكمن في الصديد الذي أفرزته الحضارة الإنسانية.
عزيز غنيم
حقوق النشر: عزيز غنيم
عزيز غنيم كاتب وأستاذ للفلسفة من المغرب
رواية " شارع بودين " للروائي السوري عبد الحكيم شباط صادرة عن دار الدليل للطباعة والنشر في برلين (2017).