دولة إسلامية نووية هل يكفيها ذلك للنهضة؟
مع احتفال باكستان بمرور 75 عاماً على الاستقلال في (16 آب/أغسطس)، لم تخطط إسلام أباد لأي شيء خاص، باستثناء حفل رفع العلم وعروض ألعاب نارية في العاصمة، إضافة إلى طرح ورقة 75 روبية جديدة (0.34 يورو/0.35 دولار).
لكن الـ 75 روبية لم تعد تشتري ما كانت تشتريه من قبل. إذ أظهرت بيانات التضخّم الصادرة في تموز/يوليو 2022 أنّ مؤشر أسعار المستهلك الباكستاني قد ارتفع بنسبة 25% تقريباً مقارنة بالعام الماضي. ويكافح المستهلكون لتحمّل التكاليف الباهظة للمواد الأساسية مثل الغذاء والطاقة.
يلقي الاضطراب الاقتصادي بالكثير من الضغط على كاهل الحكومة الباكستانية الجديدة، التي تجري حالياً مفاوضات طويلة الأمد مع صندوق النقد الدولي بشأن صفقة إنقاذ لتفادي تخلّف كارثي في سداد الديون الخارجية.
دورة الضائقة الاقتصادية
أوضح السفير الباكستاني السابق لدى الولايات المتحدة، حسين حقاني، أنّ الخلل الاقتصادي الباكستاني مُتجذّر في مشاكل هيكلية عميقة يعود تاريخها إلى عقود. فكما يقول حقاني: "التفسير الشائع لأداء باكستان الاقتصادي الضعيف
نسبياً هو أنّ ثروات البلاد تُنهب بشكل منتظم من قبل السياسيين والبيروقراطيين الفاسدين، مما يجعلها تبدو أفقر مما هي عليه". لكنه قال إنّ المشاكل الاقتصادية الباكستانية أعمق من مجرد الفساد.
إذ لا تزال باكستان مستورداً صافياً للسلع والخدمات، بينما تصنيعها لم يتوسّع بما يكفي لسدّ الفجوة. وتُعَدُّ النسبة بين معدلات تحصيل الضرائب والناتج المحلي الإجمالي وكذلك بين الصادرات والناتج المحلي الإجمالي لباكستان من بين أدنى المعدلات في العالم. وهذا يعني أنّ الحكومة تواجه نقصاً مستمراً في الإيرادات وأنّ البلاد تعاني من نقص دائم في النقد الأجنبي.
وقد قال حقاني، وهو الرئيس الحالي لشؤون جنوب ووسط آسيا في معهد هدسون، مؤسسة بحثية في العاصمة واشنطن: "اتّخذ القادة الباكستانيون المتعاقبون خيار الاعتماد على المساعدات الخارجية أثناء بناء القدرات العسكرية، متجاهلين أساسيات الاقتصاد".
ولم يكن الأمر هكذا فيما سبق. ووفقاً للاقتصادي الشهير كايزر بنغالي، سعت باكستان إلى تحقيق تنمية متينة وخلقت كمية كبيرة من الأصول الاقتصادية في السنوات التي أعقبت الاستقلال في عام 1947.
وكشف بنغالي أنه بعد انفتاح باكستان بشكل أكبر على المصالح الأجنبية في حوالي العام 2000، بدأت الواردات والإنفاق الحكومي بتجاوز عائدات الضرائب والصادرات، والفجوة التي سببتها القروض الأجنبية. فكما يقول: "اليوم، تؤخذ القروض لسداد القروض السابقة فحسب، وليس لأي مشروع تنموي".
عدم الاستقرار السياسي المستمر
يعني انخفاض الإيرادات الحكومية تضاؤل الموارد للخدمات العامة، مما يساهم بدوره في عدم الاستقرار السياسي. في نيسان/أبريل (2022)، أطيح برئيس الوزراء السابق عمران خان من منصبه عبر اقتراع لسحب الثقة، بعد أن ألقي عليه باللوم لسوء إدارة الاقتصاد خلال السنوات الثلاث التي قضاها في المنصب. أما خان فقد زعم أنه قد "أُطيح به" من قبل "حكومة مستوردة مدعومة من قبل الولايات المتحدة الأميركية". ونزل أنصاره إلى الشوارع احتجاجاً ويُعتقَد أن خان قوة سياسية مُزعزِعة للاستقرار.
وقد واجه خليفة خان، شهباز شريف، معركة شاقة مع نظام حكم ممزّق واقتصاد متخبّط. وبينما تتفاوض حكومة شريف مع صندوق النقد الدولي حول تخفيف الديون، ألغت دعم الوقود سعياً لزيادة الإيرادات العامة. أما منتقدو شريف فقد اتّهموه ببيع الباكستانيين العاديين من أجل مصلحة الدائنين الأجانب.
وفي أيار/مايو 2022، قال المعلّق السياسي رضا رومي: "نتيجة عدم الاستقرار السياسي في باكستان أصبح مستقبل البلاد الاقتصادي غير واضح. كما أنّ تزايدَ الاستقطاب السياسي والاحتجاجات من قبل خان قد أثقلا الحكمَ، ولا سيما القرارات الصعبة للوفاء بشروط صفقة الإنقاذ مع صندوق النقد الدولي".
الجيش في المعادلة
لعقود طويلة من الزمن، كان الجيش الباكستاني قوة سياسية واقتصادية فعّالة. إذ أنه يتمتّع بنفوذ كبير على المؤسسات المدنية، مما يساهم في تشكّل التصورات العامة حول الفساد الحكومي.
واتّهم معارضو خان رئيس الوزراء السابق بأنه "دمية" بيد الجيش، كما يقول بعض المحللين الليبراليين إنّ الجيشَ قد تلاعبَ بالانتخابات العامة في عام 2018 من أجل إيصال حزب خان "حركة الإنصاف الباكستانية" إلى السلطة، وهو ادعاء نفاه كل من الجيش وخان.
وقد أكّد المحلل السياسي المقيم في كراتشي، توصيف أحمد خان، في مقابلة في عام 2021 أنّ: "عمران خان هو الوجه المدني لدولة عسكرية".
أما مليحة لودي، وهي دبلوماسية باكستانية سابقة، فتعتقد أنّ عدم الاستمرارية السياسية "ساهم بشكل كبير" في مشاكل باكستان لأنّ البلد "تناوب بين الحكم العسكري والحكم المدني في نمط دوري".
وأضافت: "كما ترك ذلك إرثاً من التفاوت في ميزان القوة بين المؤسسات المنتخبة وغير المنتخبة".
كما قالت لودي أيضاً: "تحديات الحكم هي أيضاً نتيجة رد الفعل السلبي من الارتباطات الجيوسياسية الطويلة التي شهدتها البلاد خلال الحرب الباردة وما بعدها، وتأثير تنافسات القوى العظمى والانقسامات في الجغرافيا السياسية في المنطقة".
وقال المحلّل حقاني: "أربع ديكتاتوريات عسكرية ومناورات سياسية وراء الكواليس من قبل الجيش قد خلقت علاقة مدنية عسكرية مشوّهة".
ويضيف: "قيادة الجيش الباكستاني لم تثق قَطُّ بالسياسيين المدنيين للتصرف فيما يعتبرونه "مصالح البلاد" ولذلك فقد تدخلوا مراراً وتكراراً لإبعاد القادة المدنيين سواء من خلال انقلابات عسكرية أو قضائية".
التركيز على الخصم اللدود (الهند)
منذ عام 1947، حين نالت باكستان الاستقلال بعد حلّ الراج البريطاني وانفصالها، ركّزت السياسة الخارجية لإسلام أباد على خصمها اللدود، الهند.
وكما قال حقاني: "كانت الدبلوماسية والسياسة الخارجية لباكستان يقودها نموذج قائم على الأيديولوجية، ركّز على التكافؤ مع جارتها الأكبر". وأضاف أنّ: "العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية خلال الحرب الباردة، مع الصين، وحتى مع دول العالم الإسلامي الأكبر، ركّزت على عامل الهند، بدلاً من ضمان الأمن القومي وتعزيز التنمية الاقتصادية".
كما ينعكس هذا التنافسُ أيضاً على المستوى المحلي. إذ يشير الباكستانيون إلى أنّ حكومتهم تبدو أقل اهتماماً من الهند بالاحتفال بالاستقلال عن العرش البريطاني. ففي الهند تستمر الاستعدادات المكثّفة للاحتفال بذكرى الاستقلال لشهور.
وقد علّق أحد سكان إسلام أباد، أسامة مالك، قائلاً: "يبدو أنّ الحماس قليل هذا العام للاحتفال بيوم الاستقلال. أتذكّرُ الاحتفال بالذكرى الخمسين. دعت الحكومة حينها العديد من المطربين والموسيقيين ونظّمت عرضاً أمام البرلمان مباشرة. كما أقيمت العديد من الفعاليات في المدارس في جميع أنحاء إسلام أباد".
وعلى الرغم من أنّ باكستان قد قطعت أشواطاً كبيرة في مجال التنمية منذ عام 1947، إلا أنّ السنوات الـ 75 المقبلة تبدو أكثر صعوبة بكثير. فإلى جانب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، تواجه باكستان أيضاً نمواً سكانياً متزايداً مصحوباً بالعواقب الوخيمة المتزايدة لتغيّر المناخ.
وتقول الدبلوماسية السابقة لودي: "أحرزت باكستان تقدماً في العديد من المجالات. بما في ذلك انتشال الناس من الفقر الشديد وبناء قاعدة زراعية وصناعية مهمة. وتساهم الطبقة المتوسطة الأكبر بكثير الآن في تقدّم البلاد بطرق عديدة. لكن التحديات الرئيسية لا تزال موجودة. ويتداخل العديد منها ويقوّي بعضها البعض في حلقة مفرغة على مرّ العقود".
وتضيف: "ولّد الخوفُ على البقاء فساداً وحُكماً سُلالياً داخل الأحزاب السياسية المدنية ومنع ظهور أحزاب جديدة... مما يجعل البلاد غير مستقرة اجتماعياً وسياسياً بصورة أكبر".
وتقول الناشطة الحقوقية، فرزانة باري، إنّ الطبقات الحاكمة في باكستان خدمت "المصالح الاستعمارية للنخبة الحاكمة" على مدى عقود، واستبعدت المجتمعات المهمّشة وعامة الشعب. وتقول: "لم تنفق الحكومات المتعاقبة على الموارد البشرية، ولا سيما التعليم والصحة"، وأضافت أنّ هناك آمال أن يُنشِئ الشباب الباكستاني مجتمعاً مدنياً أقوى ويضع البلاد على "مسار تقدمي".
ومن أجل المضي قدماً، يقول المحلّل حقاني إنّ الباكستانيين "بحاجة إلى تجاوز نظريات المؤامرة والسرديات الأيديولوجية، والسعي بدلاً من ذلك إلى تركيز الانتباه على بناء رأس المال البشري الباكستاني والإمكانيات الاقتصادية والمؤسسات السياسية".
هارون جانجوا
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: دويتشه فيله / موقع قنطرة 2022